إن جنوبَ المملكة العربية السعودية – من جنوب مكة المكرمة والطائف إلى حدود جمهورية اليمن – ديارٌ واسعةٌ متنوعةٌ في جغرافيتها البشرية، وتركيبتها السكانية. ومن يدرس مواردها الطبيعية، وأنشطة سكانها المختلفة عبر العصور التاريخية فسوف يجدها عالماً كبيراً من التاريخ الحضاري والإنساني.
إذا حصرنا حديثنا على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي فسوف نرى الكثير من المعالم والمصادر المادية التي عكست شيئاً من حياة الإنسان التهامية والسروية في هذين المجالين الحضاريين، والكتابةُ عنهما تملأ مئات الصفحات منذ عصر ما قبل الإسلام إلى وقتنا الحاضر(1447هـ – 2025م)، وهذا الميدان مازال بحاجة إلى دراساتٍ علميةٍ عميقةٍ وجادةٍ .
من يقرأ في كتب الحضارة الإسلامية بشكل عام يجدها تحتوي على إشاراتٍ، وأحياناً صفحاتٍ وفصولاً فصَّلتْ الحديث عن الأسواق الأسبوعية (الشعبية) خلال القرون الإسلامية (ق1ــ ق14هـ/ق7ــ ق20م). وشبه الجزيرة العربية تأتي من أكثر بلدان العالم الإسلامي التي وُجِد فيها أسواقٌ أسبوعية. والمعروف أن الأسواق الأسبوعية قديماً لها صلةٌ واسعةٌ وكبيرةٌ بالعشائر والقبائل، وجزيرة العرب كانت ومازالت مأهولةً بالقبائل الكثيرة والمتشعبة في تاريخها السياسيّ والحضاريّ.
مما قرأتُ وسمعتُ وشاهدتُ خلال الستين عاماً الماضية (1386ــ1446هـ/ 1966ــ2025م) مئات الأسواق الأسبوعية في بلدان السروات وتهامة، من مكة المكرمة والطائف إلى منطقتي جازان ونجران، وقد جمعت شيئاً من المصادر والوثائق والصور الفوتوغرافية عن بعضها، ووثقْتُ صفحاتٍ محدودةٍ عن أسواقٍ قليلةٍ في جازانَ، وعسيرَ، والباحةَ.ولسْتُ في هذه المدونة أسعى إلى إنجاز دراسة تفصيلية ووافية عن هذا الموضوع الكبير في مكانه وزمانه. وهو من المشاريع الكبيرة التي يجب خدمتها من الجامعات المحلية، وحبذا أن نرى بعض كلياتها ومراكز أبحاثها تدعمه مادياً وبشرياً وعلمياً.
(*) في الصفحات التالية أدون لمحات عامة عن الأسواق الأسبوعية في جنوب البلاد السعودية مما استطعت قراءته وجمعه، أو شاهدته وتذكرته، وأسجل ذلك في المحاور الآتية:
1ــ الأسواق الأسبوعية (الشعبية) موجودة في مناطق جنوب المملكة العربية السعودية منذ آلاف السنين قبل الإسلام، والمصادر التقليدية القديمة، والنقوش والآثار السطحية والمدفونة ذكرت أسماء أسواق عديدة في مناطق نجران، وجازان، وعسير. ونجد بعض كتب السير، والتاريخ الحولي أو الموضوعي(المحلي)، والجغرافيا والرحلات، والأدب تشير إلى بعض الأسواق في تهامة والسراة خلال القرون الإسلامية المبكرة والوسيطة(ق1ــ ق11هـ/ق7ــ ق17م) .
2ــ إن الأسواق الأسبوعية التي سمعنا أو قرأنا عنها، وشاهدتُ بعضها خلال العقود الأخيرة من القرن (14هـ/20م)، والعقدين الأولين من هذا القرن (15هـ/20م) جزءٌ صغيرٌ من حضارة الإنسان عبر أطوار التاريخ. وهذا النوع من الأسواق كانت ومازال بعضها في كل مكان من العالم، وتُعقد -غالباً- في يوم واحد من الأسبوع، وفي مكان محدد، وتسمى بأسماء الأيام أو الأماكن التي تقام فيها، وأحياناً تُعرف بعضُ الأسواق بأسماءِ أسرٍ أو أشخاصٍ كان لهم جهدٌ وأدوارٌ فعليةٌ في تأسيسها .
3ــ قرأت العديد من المصادر والمراجع العربية المحلية، وكتبِ الرحالة الأجانب، وآلافِ الوثائق العربية ، والعثمانية، والأجنبية التي أرخت لبلاد تهامة والسراة خلال القرنين الماضيين (13ــ14هـ/19ــ20م). واطلعتُ فيها على مادة علمية متناثرة رصدت معلوماتٍ جيدةً عن أسواقٍ محليةٍ أسبوعيةٍ في البلاد الممتدة من الليث والطائف إلى مدن وحواضر نجران وجازان. واطلعتُ على عشرات البحوث العلمية والرسائل الجامعية التي صدرت في موضوعاتٍ تاريخيةٍ وحضاريةٍ مختلفةٍ عن هذه البلاد خلال الستين عاماً الأخيرة (1385ــ 1445هـ/1965ــ2022م)، ولا تخلو بعضها من توثيقات محدودة عن أسواق أسبوعية عرفتها جنوب شبه الجزيرة العربية في العصور القديمة، والإسلامية المبكرة والوسيطة والحديثة .
4ــ جمعتُ مئاتِ الوثائقِ الرسمية والمحلية التي تعود إلى العقود الوسطى من القرن الهجري الماضي (1340ــ1375هـ/1921ــ1955م)، ونشرتُ الكثير منها في كتابي: القول المكتوب في تاريخ الجنوب (31 مجلدا) وغيره من مؤلفاتي، وفيها نسبةٌ كبيرةٌ تؤرخ لنشاط بعض الأسواق الأسبوعية في مناطق عسير، وجازان، ونجران، من حيث حمايتُها، وما يعرض فيها من البضائع ، وإدارةُ شؤونها، والضرائبُ والرسومُ الحكومية التي تجبى منها، وبعضُ لأنشطة والأحداث السياسية والحضارية وغيرها.
5ــ قمتُ بالكثير من الرحلات الميدانية إلى بلاد الطائف، والقنفذة. وتجولت في حواضرَ ومدنٍ وقرىً عديدةٍ من مناطق الباحة، وعسير، وجازان، ونجران. وزرتُ عشرات الأسواق الأسبوعية في هذه البلاد من (1396ــ1446هـ/1976ــ2024م) .
(*) وخرجتُ بالكثير من الانطباعات التي أذكر بعضها في النقاط الآتية:
أ ــ إن أعداد الأسواق الأسبوعية في بلاد السروات وتهامة تقدر بالمئات. ومنها الأسواق الكبيرة والمهمة، في أماكنها، والقبائل التي تشرف عليها ودورها في خدمة المجتمع، وكانت جميع الأسواق حيويةً ونشطةً على جميع الأصعدة إلى نهاية العقد الثاني من القرن الحالي(15هـ/20م)، ثم بدأت تتراجع تدريجياً، ولم نصل إلى بداية الثلاثينيات، إلا اندثر معظمها، ومنها الذي انتهى وألغي تماماً، وأخرى حدث لها تراجع كبير، وتعقد في الوقت الحاضر بشكل خفيف. وشاهدتُ في بداية الأربعينيات من هذا القرن(15هـ/21م) بعض أسواق مدن وحواضر ومحافظات في تهامة مازالت أنشط من غيرها في السروات من الطائف إلى نجران .
ب ـ المعروف في الماضي أن شيخ القبيلة هو المسؤول مع قومه وجماعته عن حماية السوق والدفاع عنه، وكان معظم الشيوخ ومن يساعدهم في أوطانهم يحضرون يوم السوق للإشراف والحماية وحل ما يطرأ من مشكلات. وكان يحضر معهم موظفون من الدولة السعودية الحديثة لمساعدة الشيخ في ضبط السوق، وجمع الضرائب والرسوم. هكذا كان ديدن الأسواق الأسبوعية في جنوب البلاد السعودية حتى العقود الأخيرة من القرن الهجري الماضي، ثم بدأت مؤسسات الدولة (إمارة، وشرطة، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والبلدية) تتولى خدمة الأسواق الأسبوعية ورعايتها والإشراف عليها، وتراجعت مسؤوليات شيخ القبيلة ومن كان يعاونه من قبيلته أو عشيرته .
ج ــ ليست الأسواق الأسبوعية قديماً مخصصة للبيع والشراء فقط، بل كان لها أدوارٌ حضاريةٌ كثيرةٌ. فالسوق بيئة اجتماعية واسعة، يتقابل الناس فيه ويتبادلون الأخبار المنوعة، ويعقدون الصفقات التجارية، والاتفاقيات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، أو بعض الأعمال الاجتماعية، وفي السوق تُعلن الأخبار القبلية، أو الحكومية، أو الوعظية والتنويرية، وأحياناً تنفذ في حق الجناة بعض الحدود والعقوبات الشرعية، وأعمال أخرى عديدة .وتلك الأنشطة تختلف من سوق لآخر، فالأسواق الموجودة في مدن أو حواضر أو تجمعات سكنية كبيرة، يكون الحراك فيها أكبر، مقارنة بالأسواق في البوادي والأرياف، وعلى طول الطرق التجارية الرئيسية.
د ــ لم تعد الأسواق الأسبوعية اليوم كما كانت في الماضي لانتشار وهيمنة التجارات اليومية الحديثة. فالسواد الأعظم من الأسواق الأسبوعية تلاشت، ولم نعد نجد لها أثراً وهناك أسواقٌ تولت البلديات وإعادة ترميمها وتطويرها عمرانياً، وأصبحت تعرف باسم (الأسواق الشعبية) وتعمل جميع أيام الأسبوع، وفي اليوم الذي عُرف به السوق في السابق تزيد نسبة المرتادين للسوق في ذلك اليوم، وكانت معظم السلع التي تُعرض في الأسواق قديماً محلية، والقائمون عليها من أهل السروات وتهامة. أما الأسواق الشعبية اليوم ففيها الكثير من السلع المستوردة، بالإضافة إلى معروضات مصنوعة داخل شبه الجزيرة العربية، ومعظم الأيدي العاملة من الوافدين الذين تم استقدامهم من بلدان عربية وإسلامية وأجنبية، وأكثرهم من جنوب شرق آسيا (الهند، وبنجلاديش، وإندونيسيا وغيرها) .
هـ ــ كانت تُعرض في الأسواق الأسبوعية قديماً جميعُ احتياجات الناس، وليس هناك أمكنةٌ أخرى تحل محلها في خدمة الناس اقتصادياً. والعاملون فيها من الرجال، ونسبة النساء اللاتي يرتدن أو يعملن في السوق قليلة جداً، وأكثر وجودهن في الأسواق الكبيرة الموجودة في المدن والحواضر. وعند تراجع تلك الأسواق في العقود الأخيرة، واستمرار بعض الأسواق الشعبية، زادت أعداد النساء العاملات، ومنهن السعوديات وأكثرهن كبيرات في السن، ويعمل معهن بعض الخادمات الوافدات من بلدان خارجية. أما المتسوقين فهم خليط من الرجال والنساء، ومن داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.
و ــ قمتُ بجولات إلى عدد من الأسواق الأسبوعية في محافظات الطائف، والقنفذة، وبيشة، والباحة، وبلجرشي، والنماص، والمجاردة، ومحايل عسير، وأبها، وخميس مشيط، وأحد رفيدة، وسراة عبيدة، وحاضرة نجران، والدرب، وصبيا، وحاضرة جازان، وأبوعريش، وصامطة.ووجدت في هذه النواحي أسواقاً تم ترميمها وتطويرها حتى صارت تعمل طوال الأسبوع، وصارت مرتادة بنسب قليلة من المتسوقين، لأن الأسواق الحديثة الصغيرة والكبيرة (المولات) أصبحت الأكثر ارتياداً من جميع الأجناس البشرية، وبخاصة النساء من كل الأعمار. ومن يقرأ عن تاريخ ومجد الأسواق الأسبوعية (الشعبية) التي تم زيارتها، ويشاهد ما آلت إليه في وقتنا الحاضر، فإنه يلاحظ الفرق الكبير بين الأثر والتأثير الذي كانت عليه في الماضي والتراجع والمحدودية والانحسار في كل شيء في الوقت الراهن.
(*) أعلم أنني أوجزت الحديث في هذه الكلمة عن موضوع كبير يكتب فيه عشرات الكتب والدراسات العلمية”. وفي الفقرات التالية أرصد بعض النتائج والتوصيات التي خرجت بها من هذه الخلاصة العلمية التوثيقية.
1ــ كانت الأسواق الأسبوعية قطاعاً مهماً وحيويّاً لجميع شرائح المجتمعات التهامية والسروية، لما يجدون فيها من خدمات تعود عليهم بالخير والبركة في مجالات عديدة، وفي مقدمتها الحياة الاقتصادية.
2ــ نجد في تراثنا الشفوي الشعبي، وفي مصادرنا ووثائقنا المكتوبة، وفي آثارنا المادية السطحية مادةً علميةً كثيرةً ومتنوعةً عن أسواقنا الشعبية (الأسبوعية)خلال القرون الماضية المتأخرة، ومن يجمع هذه المصادر فسوف يجد فيها تاريخاً حضارياً محلياً مهماً يستحق أن يوثق ويحفظ في أعمال علمية توثيقية جادة.
3ــ وقفت على عشرات الأسواق التي كان لها صيت في البلاد، وارتبطت بأحداث تاريخية وحضارية كبيرة، ولم تعد اليوم موجودة على الإطلاق، ولا نرى إلا مواقعها الجرداء الخالية من الحياة. وأسواق أخرى تغيرت معالمها القديمة، وتم استبدالها بأنماط عمرانية حديثة، تختلف في المظهر والجوهر عن طبيعة الأسواق الأسبوعية التي عرفها وعاصرها وأدار شؤونها جيل الآباء والأجداد.
4ــ من رغب معرفة صفحات من تاريخ الناس العامة في السراة وتهامة، فلينظر أو يقرأ عن التجمعات الكبيرة في الأمكنة العامة. والأسواق الأسبوعية من أفضل المواقع التي يلتقي فيها الكثير من شرائح المجتمعات القبلية أو القروية، ويتخالطون ويتبادلون الكثير من المنافع المادية والمعنوية. وعاصرتُ وشاهدتُ شيئاً من ذلك التاريخ وتلك الحضارة في بعض أسواق مناطق عسير، والباحة، وجازان، ونجران خلال القرن الهجري الماضي وهذا القرن (1390ــ 1415هـ/1970ــ 1995م) .
5ــ يوجد في جامعاتنا المحلية، والحمدلله، الكثير من الأقسام الأكاديمية والأساتذة المتخصصين في مجالات (التاريخ، والآثار، وعلم الاجتماع وغيرها)، وعلى الجميع أن يخدموا هذا الوطن المبارك (المملكة العربية السعودية) من خلال بحوثهم ومجالاتهم العلمية. وتأتي أرض السروات وتهامة من البلدان الثرية بتراثها وحضارتها، والحياتين الاقتصادية والاجتماعية وما تشتمل عليه من موضوعات معرفية في مقدمة المجالات الجديرة بالاعتناء العلمي والبحثي.
6ــ مازالت تهامة والسراة مليئة بالأُسَر، والأعلام الذين مارسوا التجارة، وكانوا ارتادوا عشرات الأسواق الأسبوعية خلال القرن (14هـ/20م)، والعقدين الأولين من هذا القرن (15هـ/20م)، ومن يجتهد في الالتقاء بهم وسماع أخبارهم وحياتهم ورواياتهم التي عاصروها وعرفوها وهم يترددون على أسواق جنوب البلاد السعودية، ثم يدون ويحفظ هذا التاريخ، عندئذٍ سوف نحصل على مادة تاريخية حضارة محلية يصعب أن نجدها في أي مصدر آخر.
7ــ إن أسواق السروات وتهامة الأسبوعية (الشعبية) في الماضي والحاضر من الأبواب الحضارية الكبيرة التي تعكس جزئيات كبيرة ومتنوعة عبر العصور. وإيجاد دراسات مقارنة بين القديم والحديث موضوعات مهمة لمن رغب أو سعى إلى خدمتها من الدارسين وطالبات وطلاب الدراسات العليا في جامعاتنا السعودية، وغيرها من الجامعات العربية والإسلامية. وصلى الله وسلم على رسول الله .
التعليقات
تعليق واحد على "صفحة من تاريخ الأسواق الأسبوعية في جنوب البلاد السعودية – بقلم: أ. د. غيثان بن علي بن جريس"
شكرا لك أ د غيثان على هذا المجهود العلمي الهام جداً للموروث والتاريخ لهذه الجغرافيا من بلادنا اهتمامك ودراستك في هذا المجال سيكوم نقطة ارتكاز يوما ما للأجيال القادمة.