الإثنين ١٢ مايو ٢٠٢٥ الموافق ١٥ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

الدين والشرف والمروءة في حس الملك عبدالعزيز ( 1 ) – بقلم الدكتور عوض الشهري

الدين والشرف والمروءة في حس الملك عبدالعزيز ( 1 ) – بقلم الدكتور عوض الشهري

 

الحمد لله القائل في محكم كتابه :  ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ، والقائل : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله، بلغ الرّسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، القائل وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى  : “تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ؛ كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض”.

أما بعد فإن المسألة التاريخية – وهي إحدى المسائل الأساسية في حياة البشرية – كانت محل عناية نصوص الكتاب والسنة، فكثير من تلك النصوص عَرَضَ وقائع تاريخية، وأشار إلى أحداث وقصص، وأكد على سنن الله التي تتشكل بموجبها حركة التاريخ، ولاشك أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى نوع من الدراسات التاريخية المنبثقة من تاريخ أمتنا الإسلامية لعل ذلك يكون أحد الأسباب المهمة التي تعيد لأمتنا ثقتها بنفسها، وتنير لها طريق الحياة الكريمة الرائدة التي أرادها الله لها، متجاوزة أكبر قدر ممكن من العقبات والأخطاء مستفيدة من حركة التاريخ الملأى بالعبر، والعظات.

إن نصوص الوحيين قد نبهتنا كثيراً إلى أخذ العبر والعظات من تاريخ الأمم وقصصها ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)( … ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .

ومن هنا جاء اهتمام علماء المسلمين بتدوين تاريخهم بشكل لم يُسبقوا إليه ليكون سجلا حافلاً للأحداث والسير، ووسيلة مهمة للدراسة والتحليل تستخلص منه العبر والعظات.

قام علماء المسلمين بتلك المهمة وفق مقاييس ومناهج قائمة على أسس إيمانية وعلمية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

واقتداءً بعلمائنا الأجلاء جاءت رغبتي في التأكيد على صفحة ناصعة من صفحات تاريخنا الإسلامي وهي الصفحة المتعلقة بشخص الملك عبد  العزيز آل سعود رحمه الله راجياً أن أكون بهذا العمل قد حركت في وجدان كل مسلم وخاصة أبناء مملكتنا الحبيبة مشاعر جياشة نحو سُّنة من سنن الله وهي أن الإنسان بقوته الروحية والمادية يستطيع أن يرتفع إلى ذرى المجد، وأن يحقق المعجزات البشرية، وأنه متى ضعفت روحه وخار جسده فإن الله بعدله وحكمته يستبدله بغيره ممن يصلح لعمارة الحياة وقيادة البشرية.

لقد استطاع الملك عبد  العزيز رحمه الله وفق هذه المعطيات أن يعيد إلى المسلمين وخاصة في الجزيرة العربية ثقتهم في أنفسهم، وأن يعيد بناء إنسانها، ويصوغه صياغة جديدة. لقد حقق سلسلة من الانتصارات السياسية والعسكرية والاستراتيجية مما عاد بأعظم الآثار الحميدة على أبناء هذه الجزيرة بصفة خاصة وعلى المسلمين بصفة عامة، استطاع رحمه الله أن ينشىء دولة حديثة وكياناً من لا شيء معتمداً على الله أولاً ثم على قوته العظيمة الرُّوحية والبدنية ثم على أبناء شعبه ومعاونيه الذين استطاع بفضل الله ثم بوعيه وإخلاصه أن يعيد صياغتهم بسرعة فائقة بما يتفق والمهمة الصعبة التي انتدب نفسه لها قياماً بواجب الدين الذي ملأ قلبه وفكره ووفاءً لتاريخ البيت السعودي المجيد الذي ملأ سمع الدنيا وبصرها بالحركة التجديدية التي قادها عبر قرون متتالية، وكان لها أكبر الأثر في حياة المسلمين إلى اليوم، تم ذلك كله وسط تحديات خطيرة عالمية، وإقليمية ومحلية وما هي إلا سنوات قليلة حتى أبدل الله بالجهل علماً وبالفقر غنى وبالخوف أمناً وبالفرقة وحدة، وتساقطت دمى العمالة والجهل والغباء، وقصر النظر، وضيق الأفق والأنانية، والترهل والضياع كما تتساقط أوراق الخريف أمام جحافل التوحيد والطهر، والحق، والعدل، والحيوية والحركة، والشرف والمروءة، فاستعاد أبناء هذه المملكة قوتهم والقدرة على البناء، والنمو الشامل، والتطور، والإبداع.

لقد تحقق هذا كله بفضل الله ثم بأسباب جوهرية كان من أهمها تلك الصفات العظيمة التي تحلى بها الملك عبد  العزيز، وعمل بقوة على نشرها بين شعبه، والعاملين معه، وكانت صفات الملك عبد  العزيز وانجازاته محل إعجاب كل من عاصره ولمسها يقول أحمد فؤاد: “يكاد بأعماله الهائلة يكون صورة من صور الأساطير قبل أن يكون بطلاً من أبطال التاريخ في مختلف عصوره، ويوم تصبح سيرته العجيبة فصلاً يُدرس في العالم العربي وفي معاهده وكلياته فستدرك الأجيال المقبلة أيَّ إنسان فذٍّ رائع قيض لعملية الإنشاء العربية هذه في طورها الأول، وسيعلم الجميع أن اسم عبد  العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سيظل إلى الأبد علماً من أعلام التاريخ البناءة في العالم كله”.

ويقول عن الإنجاز : “ليس بين الأحداث التي عرفتها الجزيرة العربية منذ انقضاء عصر الخلفاء الراشدين ما يطاول بشموخ بنائه وسمو معانيه اجتماع الحجاز ونجد وتوابعها تحت تاج واحد في دولة موحدة حرة مستقلة باتت بما حققته من المنجزات وما ترسمته من سبيل قويم هي رمز العمل الوحدوي البناء الصحيح ومرآة المستقبل الأعظم لا لأبناء الجزيرة وحدها بل لأبناء العروبة في كل صقع وزمان”.

وهذا البحث محاولة صادقة – صادرة عن حب وإعجاب وولاء في الله – لتجلية بعض تلك الصفات العظيمة، وتذكيراً بأن المكتسبات التي نعيشها في المملكة لم تأت من فراغ وإنما هي نتاج إيمان صادق، وقوة عظيمة – روحية وبدنية – استنفذت بكل قوة وصدق في بناء هذا الكيان العظيم وتحقيق أهداف نبيلة.

يقول العبود منبهاً على أهمية إدراك هذه الحقيقة: “وقد نشأ جيل جديد، وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة، ولم يكن يعرف ضدها، وأخشى أن يلهو ويفتر وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به فتنتقض عليه عرى أمنه – وهدايته – وتحل عليه بديلاتها مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم”.

   **

ويتعين في ختام هذه المقدمة أن أشير إلى النقاط التالية :

النقطة الأولى : أنَّه لا يمكن أن يَفهَم الملك عبد العزيز حق الفهم ولا يُقدَر الدور العظيم الذي قام به حق قدره إلا من تحلى بالصفات التالية:

1 – معرفة التبعات التي تحملها الإسلام والمسلمون من جراء السياسات التي سارت عليها الدولة العثمانية والانحرافات الخطيرة التي وقع فيها بعض سلاطينها.

2 – الإحاطة بما كان عليه الواقع الإسلامي عند ظهور الملك عبد العزيز وخاصة في الجزيرة العربية.

3 – معرفة الواقع الدولي بصفة عامة والأوربي بصفة خاصة وما كان يسوده من عقائد منحرفة، وأفكار ضالة، وما كان يسيطر عليه من عنصرية مقيتة وأطماع استعمارية.

4 – فهم قيم الإسلام وعقيدته الحقة – ومعرفة سنن الله في النصر والتمكين والتسليم لها.

5 – معرفة سر قوة الملك عبد العزيز، وما كان يتمتع به من تمثل كامل للدين الإسلامي عقيدة وعمل، وما كان عليه من قوة بدنية هائلة نتيجة التربية والظروف التي عاشها.

6 – الحكم على الملك عبد العزيز من خلال منظار الشرع مع البعد عن الهوى والتعصب عند دراسة تاريخ الملك عبد العزيز.

   **

النقطة الثانية : إن طبيعة هذا البحث اقتضت أن أعالجه في مقدمة، وترجمة موجزة للملك عبد العزيز، وستة عشر عنصر – تضمنت أهم السمات الدالة على رسوخ “الدِّين، والشَّرف، والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز -.

العنصر الأول : القوة الواعية المميزة في الحق، والشجاعة النادرة المنضبطة، والصبر العظيم.

العنصر الثاني : الذكاء الحاد، والفراسة الإيمانية النافذة، والقدرة على الإقناع.

العنصر الثالث : الإيمانُ العميق بالله، وأن النصر منه وحده، والاعتزاز بالدين.

العنصر الرابع : تقوى الله، والخوف منه، تلك الصفات التي تعلو بالإنسان إلى قمم الطهر والنقاء.

العنصر الخامس : التَّجرُّد العظيم تجاه إغراءات الجاه والسُّلطان.

العنصر السادس : الشعور الدائم بالمسؤولية تجاه الدِّين، والأمة، والوطن.

العنصر السابع : الفقه في الدِّين، والثقافة الواسعة، والوعي بقضايا العصر.

العنصر الثامن : تعظيم حرمات الله، وتقدير العلم والعلماء.

العنصر التاسع : إقامة الدولة على الإسلام والإحتكام إليه.

العنصر العاشر: الدعوة إلى الدين الحق، والعقيدة السلفية.

العنصر الحادي عشر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكمة وحزم.

العنصر الثاني عشر : الاهتمام بأمن المسلمين ووحدتهم.

العنصر الثالث عشر : الصبر والأناة، والحكمة، والواقعية في معالجة أمور الدولة.

العنصر الرابع عشر : تفعيل القيم الإيمانية، والمهنية في نفوس الأمة.

العنصر الخامس عشر : متابعة ولاته والنصفة منهم.

العنصر السادس عشر : القبول لدى الناس، والقدرة على الجذب.

   **

النقطة الثالثة : أنني حرصت عند بناء هذا البحث أن يقوم على الحقائق المجردة دون تدخل كثير مني فتركت أدلة عناصره تنساب تباعاً سواء من أقوال الملك عبد العزيز رحمه الله نفسه أو من أقوال غيره.

وفي الختام  : أسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، محققاً للهدف منه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه واستنَّ بسنته إلى يوم الدِّين.

 

سيرة مختصرة للملك عبد العزيز – رحمه الله تعالى – :

الاسم والنسب : هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمدبن سعود بن محمد، وينتهي نسبه إلى بكر بن وائل من بني أسد بن ربيعة.

ولادته : ولد رحمه الله في مدينة الرياض عام 1293 هـ الموافق 1876م، ويرى البعض أنه ولد عام 1297 هـ الموافق 1880م، والقول الأول هو ما يذهب إليه ويؤكده الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، وهما الخبيران بالتاريخ السعودي.

نشأته وتربيته : نشأ الملك عبد العزيز رحمه الله في ظل ظروف صعبة جدا محليا ودولياً، فالجزيرة العربية كانت تعج بالجهل والفتن والتمزق، والعالم كان يمر بمنعطف خطير وتحولات كبرى، وكان والده بصفة خاصة وأسرته بصفة عامة يدركون أهمية هذه التحديات، وأن التصدي لها يحتاج إلى قيادة فاعلة ذات مؤهلات تتناسب وعظم المسؤولية، فاعتنى والده بتربيته بدنيا وروحيا وسياسيا.

فأوكل تعليمه إلى خيرة علماء عصره، وفي مقدمتهم العالم الجليل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وإلى جانب تعليمه وتثقيفه فكرياً كان والده يعتني ببنائه جسدياً، فعلمه مبادئ الفروسية، وصقل شخصيته بكل وسيلة ممكنة، ولا شك أن شخصية الملك عبد العزيز قد تأثرت بما اكتنفها من ظروف وأحداث، فقد تعود حياة القساوة والشجاعة، وتحمل المسؤولية من حياة البادية، واتسع فكره السياسي وإحاطته بأبعاد الأحداث من لقائه بالزعماء، وعيشه في الكويت فترة من عمره، وكانت الكويت بوابة مفتوحة على العالم، وما يجري فيه من صراع وتنافس دولي، وقد احتل الفتى عبد العزيز مكاناً رئيسا في مجلس حاكم الكويت آنذاك الشيخ مبارك الصباح، فكان يحضر مجالسه الخاصة والعامة، مما أتاح له الاطلاع عن كثب على كثير مما كان يدور على الساحة من أحداث وأفكار ، وبرزت بذلك شخصية متميزة كان لها دورها المؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية.

يقول عن نفسه : “لم أتعلم في مدرسة بل علمتني التجارب، وعلمني اختلاطي بالرجال وسماعي الكثير من أخبار عظماء التاريخ”.

وقد رصد هذا البحث جوانب مهمة من سمات هذه الشخصية الفذة رحمه الله، لقد كان الملك عبد العزيز مغرما بحب سماع قصص البطولات والتعرف على سير الأبطال، وتاريخ أسرته خاصة جده فيصل بن تركي المعروف بتدينه وسعة أفقه السياسي، وشجاعته، وتجربته الكبيرة في مجال السياسة والحكم والإدارة، ومن هنا تحقق على يدي الملك عبد العزيز ما يشبه المعجزة فوق صحراء الجزيرة العربية، وصحراء الشعور الإنساني، الذي كان يكتنف العالم آنذاك.

فاستطاع الملك عبد العزيز إعادة تأسيس الدولة السعودية في مرحلتها الثالثة انطلاقاً من استرداد الرياض في ملحمة خارقة في 5/10/1319 هـ، الموافق 15 يناير 1902 م، وانتهاء بضم المخلاف السليماني في الجنوب الغربي للجزيرة عام 1351 ـ 1932 م، وأقام دولة حديثة دستورها كتاب الله وعلمها يرفع شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، ووحد ما ضم من متفرق الإمارات والقبائل والقرى تحت مسمى: “المملكة العربية السعودية” في 21/5/1351 هـ، الموافق 22 سبتمبر 1932 م، فوطن البادية، ونشر العلم، وأقام مؤسسات الدولة العصرية.

وصدق عبد الرحمن عزام حين وصف الملك عبد العزيز بقوله: ” نشأ مطارداً في أرض آبائه وأجداده فعلت همته على مصائب الدهر، فصارع خصومه، واعتمد على الله، ثم على خلق قويم، ونفس سمحة، وعزة في دهاء، وشدة في حلم ورحمة، فجمع جزيرة العرب التي لم تجتمع إلا فترات قصيرة بعد ردتها أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأمنها وتربع فيها وليس في يده إلا سيفه، وكتاب الله عدته، وقد عرفته منذ قرابة ثلاثين سنة هو هو ، الرجل الذي يملأ سمع الدنيا وبصرها… استلم ملكاً ضائعاً فجمعه وبلاداً حربة فعمرها”.

ويصفه أحد معاصريه فيقول : يظن كثير من الناس أن هذا الملك يحكم بلاده وشعبه حكماً مطلقاً، ولكن لا يجب الذهاب مع هذا الظن، فإنه قيَّد نفسه بقانون، رضيه هو وآمن به ورضيه شعبه وآمن به، وهذا القانون هو الشريعة الإسلامية، وهو لا يتدخل فيه، وإنما يعمل على حمايته، وإذا كان يسمى ملكاً دستورياً من كان مقيداً بدستور وضعه الناس، لهم أن يغيروه أو يبدلوه أو يبطلوه، فماذا يسمى من قيد نفسه بدستور وضعه الله ، لا يصح أن يبدل ، ولا أن يغير ، ولا أن يبطل؟ إننا أمام أحد رجال التاريخ الحقيقيين الذين سيظل التاريخ يذكرهم كلما ذكر الأعمال الخالدة والرجال الخالدين.

وفاته رحمه الله :

في ضحى يوم الإثنين 2/3/1373 هـ الموافق 9/11/1953 م، غادر هذه الحياة الدنيا وهو يوصي أبناءه، ويردد لا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. رحم الله الملك عبد العزيز ، وجزاه خيراً على ما قدّم لأمته الإسلامية بصفة عامة، ولشعب المملكة العربية السعودية بصفة خاصة، وأسكنه فسيح جناته.

   **

أهم سمات الدين والشرف والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى :

مما لاشك ولا جدال فيه أنّ “الدِّين، والشَّرف والمروءة” خلال اتصف بها الملك عبد العزيز رحمه الله حكمت سلوكه الشخصي وسلوكه العام في تسيير دفة أمور الدولة، وهذا حقيقة استفاضت لدى كل من لقي الملك عبد العزيز، أو اطلع على سيرته العطرة.

ويمكن تأكيد ذلك وإبرازه من خلال السمات التالية التي تحلى بها الملك عبد العزيز رحمه الله وهذه السمات ستكون مضمون عناصر البحث التالية:

العنصر الأول : القوة الواعية المميزة في الحق، والشجاعة النادرة المنضبطة، والصبر العظيم.

في أول امتحان على طريق النصر كتب الإمام عبد الرحمن مشتركاً مع مبارك الصباح أمير الكويت إلى الملك عبد العزيز – وهو في طريقه لفتح الرياض – يدعوانه إلى الرجوع والكف عما هو فيه لما رأياه من كثرة المخاطر والضغوط .. ودعواه إلى الرجوع إلى الكويت.

فخطب في صفوة رجاله في آخر يوم من رجب 1319هـ بعد أن أطلعهم على كتاب أبيه وقال : “لا أزيدكم علماً بما نحن فيه .. أنتم أحرار فيما تختارون لأنفسكم، أما أنا فلن أعرض نفسي لأكون موضع السخرية في أزقَّة الكويت، ومن أراد الراحة ولقاء أهله، والنوم، والشبع، فإلى يساري – إلى يساري، وتواثب الأربعون بل الستون إلى يمينه وأدركتهم عزة الأنفة فاستلوا سيوفهم وصاحوا مقسمين على أن يصحبوه إلى النهاية، والتفت الملك عبد العزيز إلى رسول أبيه وكان حاضراً المجلس وقال ل ه: سلم على الإمام وخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا وقل له : موعدنا إن شاء الله في الرياض”.

وهكذا اختار الملك عبد العزيز وصحبه رحمهم الله جميعاً ما يليق بهم من خيار، وهو اختيار قد بدت بوادره مبكراً منذ فتوة الملك عبد العزيز فإن “الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين أراد أن يلاطف ( الفتى ) عبد العزيز فسأله : قطر أحسن أم البحرين ؟ فأجابه عبد العزيز على الفور : الرياض أحسن منهما، فقال : سيكون لهذا الغلام شأن.

وعلى مقربة من الرياض في طريقه لاستعادتها استبقى ثلاثة وثلاثين ممن معه وجعل قيادتهم لأخيه محمد وقال لهم : لا حول ولا قوة إلا بالله إذا لم يصل إليكم رسول منا غداً فأسرعوا بالنجاة واعلموا بأننا قد استشهدنا في سبيل الله.

وفي ليلة فتح الرياض في داخل منزل لعجلان في طريقه للقضاء عليه عند الساعة الثامنة عربي ( الثانية بعد نصف الليل ) تجمع عبد العزيز ورجاله في ذلك المنزل الذي لم يكن فيه في تلك الليلة إلا زوجة عجلان وامرأة أخرى – أكلوا شيئا من التمر ثم ناموا كأنهم في بيوتهم وبعد نوم ساعة واحدة أو أقل طلع الفجر فنهض عبد العزيز وصلى بهم وجلس يسبح ويبتهل، والتفت إلى رفاقه بعد ذلك يتحدث إليهم حتى طلعت الشمس يوم 5 شوال 1319هـ.

ملحمة رائعة وعزيمة كالجبال – وموقف بطولي نادر لا يطيق مثله إلاّ من كانت له مؤهلات عبد العزيز، ولن يقبله بصدق ويسلم له إلاّ من توفرت فيه شروطٌ تقدم ذكرها.

وفي خطاب له رحمه الله أمام كبار الحجاج بمكة 1350هـ – 1932م يقول : .. وكل إنسان عنده نصيحة لنا من الكتاب أو السنة فنحن مستعدون في جميع الأوقات سواء كانت من كبير، أو صغير، أو جليل، أو حقير، ومن أرادنا على مخالفة شيء من ذلك فلا نقبل أبداً وقد أمرنا الله أن نتبع شريعة الإسلام وأن نعض عليها بالنواجذ، ومن غضب علينا لاستمساكنا بديننا فليغضب علينا إلى ما يشاء.. وإخواننا المسلمون نقبل منهم كل أمر فيه مناصحة على شرط أن تكون في الحق، ومسألتان لا يمكن أن نقبلها ولو قاتلنا أهل الأرض حتى لا يبقى فينا أحد.

التغيير في دين الله ولو مثقال خردلة لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فالكتاب والسنة لا نحيد عنهما أبداً.

والثانية أن أي أمر يلحق استقلال أو شرف بلادنا فهذا مستحيل أن نقبله ولو تكلم من تكلم أو قال من قال… كثيراً ما يقول بعض الناس ليش ما يحط ابن سعود جمعيات ودعاية ضد الإنجليز، والمسكوف، أو الطليان، أو غيرهم، ويدافع عن المسلمين فأحب أن أكشف هذه الشبهة وأبين الحقيقة فيها.

أنا لست من رجال القول الذين يرمون اللفظ بغير حساب، أنا رجل عمل إذا قلت فعلت، وعيب علىّ في ديني وشرفي أن أقول قولاً لا أتبعه بالعمل وهذا شيء ما اعتدت عليه ولا أحب أن أتعوده أبداً وإنما آمر بالسكوت إلى وقت الفعل فإذا فعلنا تكلمنا.. وإذا برز المسلمون للعمل فالعيب.. إن تأخرنا.. وأما كلام الحق الذي يراد به باطل فهو لا نقبله، ولا نقره، ولا نسمعه، وعلينا أن نحافظ على كل شيء يقدم إلينا بأمورنا وأنفسنا على الطريقة الشرعية.

قيم خالدة ودرر تترى لو تتلمذ عليها أولئك الذين ابتليت بهم شعوبهم ممن ملئوا الدنيا هديراً وجعجعة فقط فجرُّوا على عالمنا العربي والإسلامي أوخم العواقب لو تربوا في مدرسة عبد العزيز، ودانوا بالقيم والأخلاق التي سار عليها لكان حال المسلمين غير ما هم عليه اليوم.

لم يفرط صقر الجزيرة في شيء يتعارض مع دينه وشرفه وأمانته فحقق ما يصبو إليه، وضاع مَنْ تنازل عن كثير من دينه وشرفه وأمانته، سنة الله في النصر والتمكين ولن تجد لسنة الله تبديلا إن الله تعهد بنصر من نصره وخذلان من عصاه وتنكَّب هداه.

وقال في الخطاب الذي ألقاه أثناء استقباله في الطائف كبار رجالات الدولة والشخصيات والأعيان عام 1351هـ: “. .الثاني السُّفهاء الذين يُسوِّل لهم الشيطان بعض الأمور المخلة بأمن البلاد وراحتها فهؤلاء شأني معهم شأن الدّيناميت مع النار”.

وفي خطابه في حفل تكريم كبار الحجاج عام 1351هـ  1933م يقول : “أنا مسالم ومدافع، أنا مسالم للناس، وأحب النصيحة قبل كل شيء؛ لأن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، أنا مدافع لأنني ما حاولت في وقت من الأوقات أن أعتدي على إخواني، وأبناء قومي، وكنت في كل وقت أقابل ما يصدر إلىّ منهم من إساءة، أو خطيئة بصدر رحب، على أمل أن يرجعوا إلى الصواب، ولكنني إذا رأيت تمادياً في الغي والإساءة أضطر حينذاك للدفاع.. أنا عربي، ومن خيار الأسر العربية، ولست متطفِّلاً على الرياسة والملك، فإن أبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرياسة والملك، ولست ممن يتكئون على سواعد الغير في النهوض والقيام وإنما اتكالي على الله ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون ويستندون إن شاء الله، لقد حاربنا جيوشاً جرارة في أدوار مختلفة منذ أن قمنا بهذه الدعوة المباركة فكان نصيبها رغم كثرة عددها وعدَّتها الفشل والخسران ولله الحمد.

نعم ليس الملك عبد العزيز رحمه الله متطفلاً على الرياسة والملك، المتطفلون ينصبون لأغراض لا تخدم أممهم، وليس لشعوبهم في تنصيبهم خيار، ثم يتهاوون كورق الخريف بعد أن يكونوا خربوا البلاد، وأهلكوا العباد، وهذا النوع من المتطفلين هم مطلب أعداء العدل والحق، أما الحكومات الأصيلة الضاربة في أعماق التاريخ والمتدثرة بدثار العزِّ، والشَّرف، والكرامة، فهي التي يناصبها أعداء الإنسانية العداء، ويحيكون حولها التُّهم والشَّائعات. وفي كلمة له رحمه الله عام 1356هـ بمكة يقول: إنَّ الدِّين الإسلامي في نظري هو أساس الرُّقي، ومن اعترضنا في ديننا أو وطننا قاتلناه ولو كان أهل الأرض.

وقال بمنى أثناء موسم حج عام 1365هـ – 1946م : “أما قدوتنا  إن شاء الله  فهو عمر بن الخطاب في الخلفاء الراشدين ذلك الإمام الذي حمل الدقيق على ظهره لإحدى أرامل المسلمين، وفي الأمويين عمر بن عبد العزيز الذي ضرب بعدله وزهده المثل، وإنني أود أن نفنى أنا وأولادي في سبيل الله، والمسلم لا يبيت في فراشه إلا على نية الجهاد، وكذلك من لا يود أن يموت مجاهداً في سبيل الله لا يكون صحيح العقيدة، ولقد سبقت لي في الجهاد صفحات ماضيات ما باليت أن قُطعت عضدي في سبيل الله لأنني لا أقبل في الله لومة لائم، ولأن أكثر ما يهمني هو المحافظة على كلمة التوحيد ثم على محارم المسلمين، ونسأل الله أن يحيينا عبيداً، خاضعين مطيعين له خاشعين في عبادته، صادقين في إيماننا وعلينا بعد ذلك أن نسأل الله تعالى فهو الذي يقول (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ومن عرف سيرة الملك عبد العزيز وخاصة برنامجه اليومي علم أنه لا يطيق ما كان يأخذ الملك عبد العزيز نفسه به إلا أمثال السلف الصالح من الخلفاء العادلين، والعلماء الربانيين، وأتمنى أن يجمع كل ما عرف عن الملك عبد العزيز في هذا الجانب، ويُدرس ويُحلل ويبرز للناشئة إبرازاً لعظماء الأمة رجاء ترسيخ تلك المثل في حياة الناشئة الجديدة.

ويقول الملك عبد العزيز في تصريح صحفي له : “نحن قوم لا تخيفنا الحروب، ولا يرجفنا صليل السُّيوف، فقد نشأنا على متون الخيول، وسنموت على متونها إذا كان لابد من الحروب”.

ولما قال والي بغداد من قبل الحكومة العثمانية “جمال باشا السَّفَّاح” لمندوب الملك عبد العزيز – أحمد بن ثنيان -: “إن ابن سعود لا يعرف مقامه، وقد غره أن صفح عنه المشير فيضي باشا. فإن كان لا يقبل بما تطلبه الحكومة، فإن في إمكاني أن أخترق نجداً من الشمال إلى الجنوب بطابورين.

أجابه الملك عبد العزيز رحمه الله في كتاب: “قلتم إنكم تستطيعون بطابورين أن تخترقوا بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب، ونحن نقول: سنقصر لكم الطريق إن شاء الله”، كتب الملك عبد العزيز هذا الكلام، وهاجم الكوت واستولى على منطقة الإحساء في قصة مثيرة جداً كان من نتائجها أن رضيت عنه الأستانة وأهدته النيشان العثماني الأول ورتبة الوزارة، وبدأ العثمانيون يلقبونه بصاحب الدولة.

وقال الملك عبد العزيز لفلبي أثناء مناقشة سياسية : إذا لم تكن حكومتك على استعداد لتغيير سياستها فلا داعي لعودتك إلى الرياض. أورد كشك هذا الحدث وعلق عليه بقوله : لم يمر علينا في معاهدات الحماية، ولا في تاريخ الخليج، والجنوب وسائر المحميات حالة واحدة طرد فيها “المعتمد” البريطاني، أو طالب الحاكم سحبه، أو عطاء هذا الإنذار.

ويقول الدكتور رشاد فرعون : “أردت أن أخرج رصاصتين استقرتا في بطن الملك أثناء إحدى المعارك فأتيت بالمخدر لأحقنه به فقال لي: ماهذا؟ قلت: البنج. قال: لماذا؟ قلت: للتسكين حتى لا تتألم فضحك وقال: دعك من هذا وبعد البنج ماذا تنوي أن تفعل؟ قلت: بعد ذلك أشق بالمبضع جلد البطن في موضع الرصاصة، وأخرج الرصاص ثم أخيط الجلد فطلب مني المبضع، وتناوله بيده، وشق موضع الرصاص وأخرج الرصاصتين ثم قال لي: الآن تستطيع خياطة الجرح ولا تحتاج معي إلى بنج.

يقول رشاد : لقد كان أقوى من الألم رحمه الله.

ويصفه كاتب فرنسي مسلم فيقول : “… وابتدأ خطابه بإلقاء طبيعي سهل، كان خالياً من تلك الإشارات التمثيلية الثقيلة سالماً من تلك الحركات المتكلفة الركيكة، وتلك الأصوات المزعجة، فالرزانة والرجولة الكاملة، والاعتداد بالنفس كلها كانت تتفجر في خطبته، ومن العجب ألا يفارق حالته العادية وهدوءه المعتاد، حتى في ذلك الوقت الذي يبحث فيه أخطر المسائل وأهمها، ولم نر منه إشارة سوى ضم سبابتيه حينما يتكلم عن الإتحاد، وتفريقها حينما يتكلم عن التفرق، ورغم هذا كله فقد كنا نحس بأن وراء هذا الهدوء، وهذه البساطة، وهذه الرزانة حزماً، وعزماً وبطولة فذة يختص بها”.

ويصفه يوسف ياسين بقوله : خاض عبد العزيز أكثر من مئة معركة، ولما مات وجدوا على جسمه ثلاثاً وأربعين ندبة وأثر جرح، كان عملاقاً تتمثل فيه قوى الصحراء كلها، وحسب الإنسان أن يفكر في مغامرة الرياض التي أتمها عبد العزيز بقبضة من الفرسان حتى تمتلئ نفسه إعجابا. هكذا كان من سمات الملك عبد العزيز رحمه الله، قوة في الحق واعية مميزة وشجاعة منضبطة نادرة، وصبر عظيم.

   **

العنصر الثاني : الذكاء الحاد، والفراسة الإيمانية النافذة، والقدرة على الإقناع.

يقول الملك عبد العزيز رحمه الله في كلمة توجيهية لأول دفعة من خريجي المعهد العلمي السعودي 1350هـ: “… من الناس – وكثيرهم – من يعجب قوله فيأخذ بالسامع بزخرف القول إلى حد بعيد ويأتي في حديثه بأساليب تسحر، مصوغة في قالب يبهر العقول، وفي الجرائد اليومية والمجلات الشهرية شيء كثير من ذلك، وفي الصحف السيارة ما يصور للقارئ أن قسماً من الناس قطع في مضمار العلوم، ولاسيما الكونية منها شوطاً بعيداً، لو حاولتم الوصول إليه في عشرات السنين لما وصلتم نصف المرحلة التي قطعوها، ولكن ماذا كان وراء هذا العلم الوفير؟ لا ترى إلا أحزاباً يضرب بعضها بعضا، ولا تسمع إلا عويلاً يصم الآذان وهم بيد غيرهم كفتا ميزان يعلي هذا تارة ويسفل هذا تارة أخرى علم ولكن بالأقوال وعمل ولكن في غير المنافع، وإن ما أصاب هؤلاء هو من جراء تخاذلهم، وعدولهم عن الصراط المستقيم الذي شرحه الله تعالى في كتابه وعلى لسان صفوة خلقه صلى الله عليه وسلم. جهلوا تعاليم الإسلام الحقة وبهرتهم المدنية فنظروا إلى كل ما يصدر عن الغرب نظرة إكبار فأرادوا محاكاته، وحبذا لو حاكوه فيما يعلي من شأنهم، أرادوا محاكاته بل حاكوه فعلاً ولكن فيما يئن منه عقلاؤهم”.

وهكذا تأتي هذه الكلمات البليغة في وقتها وفي اللحظات التي خشي فيها الملك عبد العزيز رحمه الله على أبناء أمته الانبهار بالوافد الضار من العقائد والأفكار وقد انهزم أمامه فئام مما أفقدهم ثقتهم بأنفسهم واعتزازهم بحضارتهم الإسلامية ومع هذا التحذير السديد فقد دعاهم إلى الحرص على الأخذ بالنافع أياً كان مصدره مادام لا يتعارض مع الدين والعقيدة وقد سار على نهج الملك عبد العزيز أبناؤه من بعده فوعوا المسؤولية وعلموا أسباب الخطر فحصنوا شباب هذه البلاد ضد تلك التيارات التي استهدفت عقيدة المسلمين وكيانهم والله غالب على أمره وناصر دينه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

وفي 1350هـ قال رحمه الله أمام كبار الحجاج في القصر الملكي بمكة وهو يتحدث عما كانت عليه المملكة قبل توحيدها، وتحكيم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ربوعها: “.. ولا يخفاكم أيضا ما كان فيه من سفك الدماء، وعمل المعاصي وعدم الأمن، فلما ولانا الله عملنا ما نستطيع ونحن عباد مستعبدون لله، ليس لنا طريقة وليس لنا مذهب غير الدين الحنيف، وهذا كتاب الله بين أيدينا، وهذا شرع الإسلام نتبعه، أما خوض الرجال فإن كان من جهة الدين واعتراضهم عليه فالحق ما جاء في كتاب الله، والذي يكتم الحق ملعون، وكل أمر خالف الدين متروك، أما عن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين أو الأئمة الأربعة المهتدين فإننا نتبعهم ومن كان عنده غير ذلك يبينه لنا حتى تقوم الحجة”.

وفي خطاب له في حفل تكريم كبار الحجاج 1351هـ يقول : “… المسلمون ينقصهم معرفة الزعماء، والأشخاص ونفسياتهم، فإن هناك أشخاصاً من المسلمين يتظاهرون بالغيرة والتضحية، وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك، يتظاهرون بالغيرة ويسعون في الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية، والتجسس على أحوال إخوانهم، وهذا أمر يؤسف له لأن الأضرار التي لحقت بالمسلمين والعرب جاءت بهذه الطريقة”.

وفي مكة المكرمة 1353هـ أمام كبار الحجاج يقول : “… هناك أحزاب تتطاحن على أي شيء؟.. لا أدري.. لقد أدخل الشيطان وساوسه في عقولنا فتركنا حبل الله المتين فتفرقنا أيدي سبأ… أكثر الناس يقولون أن الأغيار هم الذين ضربونا في الصميم ففرقوا بيننا… هذا كلام.. ماذا عمل الأغيار؟ الحق أن الضرر والخسران لم يأتيا إلينا إلا من أنفسنا فنحن المسؤولون عن ذلك نحن نسعى إلى التفرقة.. ونحن نعمل للبغضاء. أذكر لكم مثلاً بسيطاً يعرفه كل واحد منكم إن صحفنا وجرائدنا إذا تكلمت عن مسلم، أو عربي تكلمت عنه بشدة وقسوة ولاذع القول ولكنها إذا تكلمت عن غربي تكلمت بأدب واحترام.. فلماذا؟. يا إخوان يجب علينا أن نحترم أنفسنا ونتكاتف ونتعاضد، فإذا نحن سرنا على هذه الطريق وفقنا الله سبحانه وتعالى واحترمنا العدو قبل الصديق”.

وفي سنة 1371هـ أبرق الملك عبد العزيز إلى الوزير السعودي المفوض في بغداد برقية جاء فيها : ولو سمحت أي دولة عربية لنفسها في أن تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة عربية أخرى عند حدوث أية أزمة من الأزمات في ذلك البلد لوقع من ذلك شرور كثيرة. وهكذا يسن الملك عبد العزيز رحمه الله نهجاً ثابتا للسياسة السعودية وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة. وقد بذل الملك عبد العزيز رحمه الله جهده في الذب عن حقوق المسلمين في فلسطين بأسلوب ينم عن ذكاء بالغ ووعي كامل بالتاريخ، وقضايا العصر.                   

ففي 1357هـ 1938م بعث جلالته إلى الرئيس الأمريكي روزفلت رسالة جاء فيها : “أما دعوى اليهود التاريخية فإنه لا يوجد ما يبررها في حين أن فلسطين كانت – ولاتزال – آهلة بالعرب في جميع أدوار التاريخ، وكان السلطان فيها لهم وإذا استثنينا الفترة التي أقام اليهود فيها، والمدة الثانية التي سيطرت فيها الإمبراطورية الرومانية عليها، فإن سلطان العرب كان منذ الزمن الأقدم على فلسطين، وقد كان العرب في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة معظمين لمقامها محترمين لقدسيتها، قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص، ولما امتد الحكم العثماني إلى فلسطين كان النفوذ العربي هو المسيطر…” فمِّما ذكر يرى أن دعوى اليهود بحقهم في فلسطين، استناداً إلى التاريخ لا حقيقة لها، فإن كان اليهود قد استوطنوها مدة أطول من ذلك فلا يمكن أن يعتبر احتلال أمة لبلد من البلدان حقاً طبيعياً يبرر مطالبتها به، ولو اعتبر هذا المبدأ في العصر الحديث لحق لكل أمة أن تطالب بالبلدان التي سبق لها إشغالها بالقوة حقبة من الزمن، ولتسبب ذلك في تغيير خريطة العالم بشكل من أعجب الأشكال، مما لا يتلاءم مع الدول ولا مع الحق ولا مع الإنصاف.

أما دعوى اليهود التي يستثيرون بها عطف العالم، وهي أنهم مشتتون في البلدان ومضطهدون فيها وأنهم يريدون إيجاد مكان يأوون إليه ليأمنوا على أنفسهم من العدوان الذي يقع عليهم في كثير من الممالك، فالمهم في هذه القضية هو التفريق بين القضية اليهودية العالمية – أو اللاسامية – وبين قضية الصهيونية السياسية، فإن كان المقصود العطف على اليهود المشتتين، فإن فلسطين الضيقة قد استوعبت منهم حتى الآن مقداراً عظيماً لا يوجد ما يماثله في أي بلد من بلدان العالم، وليس باستطاعة رقعة ضيقة كفلسطين أن تتسع لجميع يهود العالم حتى ولو فرض أنها أخليت من سكانها العرب  كما قال المستر “مالكولم” في خطاب ألقاه في مجلس النُّواب البريطاني مؤخراً  فإذا قبل مبدأ بقاء اليهود الموجودين في فلسطين في الوقت الحاضر فتكون هذه البلاد الصغيرة قد قامت بأعظم قسط إنساني لم يقم بمثله غيرها. ويرى فخامة الرئيس أنه ليس من العدل أن تسد حكومات العالم – وفي جملتها الولايات المتحدة – أبوابها في وجه مهاجري اليهود وتكليف فلسطين البلد العربي الصغير بحملهم. وأما إذا نظرنا إلى القضية من وجهة الصهيونية السياسية فإن هذه الوجهة تمثل ناحية ظالمة غاشمة سداها القضاء على شعب آمن مطمئن، وطرده من بلاده بشتى الوسائل ولحمتها النهم السياسي والطمع الشخصي لبعض أفراد الصهيونية.

وأما استناد اليهود على تصريح بلفور “ فإن التصريح بحد ذاته جاء جوراً وظلماً على بلاد آمنة مطمئنة، وقد أُعطي من قبل حكومة لم تكن تملك يوم إعطائه حق فرضه على فلسطين، كما أن عرب فلسطين لم يؤخذ رأيهم فيه ولا في نظام الانتداب الذي فرض – كما صرح بذلك ” مالكولم ” وزير المستعمرات البريطاني أيضا – وذلك برغم الوعود التي بذلها الحلفاء – وبينهم أمريكا – لهم بحق تقرير المصير. ومن المهم أن نذكر أن وعد بلفور كان مسبوقاً بوعد آخر من الحكومة البريطانية باعتراف الحلفاء بحق العرب في فلسطين وغيرها من بلاد العرب.

ومن ذلك يتبين لفخامتكم أن “حجة اليهود التاريخية” باطلة ولا يمكن اعتبارها كما أن حجتهم من الوجهة الإنسانية قد قامت فيها فلسطين بما لم يقم به بلد آخر ووعد “بلفور” الذي يستندون إليه مخالف للحق والعدل ومخالف لمبدأ تقرير المصير والمطامع الصهيونية تجعل العرب في جميع الأقطار يوجسون منها خيفة وتدعوهم لمقاومتها.

أما حقوق العرب في فلسطين فإنها لا تقبل المجادلة لأن فلسطين بلادهم منذ أقدم الأزمنة وهم لم يخرجوا منها كما خرج غيرهم، وقد كانت من الأماكن التي ازدهرت ازدهارا يدعو إلى الإعجاب، ولذلك فهي عربية عرفاً، ولساناً، وموقعاً، وثقافة، وليس في ذلك أية شبهة أو غموض، وتاريخ العرب في تلك البلاد مملوء بأحكام العدل والأعمال النافعة. .. وقد كان تدفق مهاجري البلاد من الآفاق المختلفة إلى فلسطين مدعاة تخوف العرب على مصيرهم وعلى حياتهم فحدثت في فلسطين ثورات وفتن متعددة في 1920، 1921، 1929م وكان أهم تلك الثورات عام1936م التي لاتزال نارها مستعرة حتى هذه الساعة. … إنه ليس من العدل أن يطرد اليهود من جميع أنحاء العالم المتمدن، وأن تتحمل فلسطين الضيقة المغلوبة على أمرها هذا الشعب برمته).

وفي عام 1364 وقد بدأت تظهر إلى السطح حقيقة ما يسعى إليه الصهاينة كتب الملك عبد العزيز رحمه الله رسالة إلى الرئيس “روزفلت” وأرسل نسخة طبق الأصل منها إلى رئيس الوزارة البريطانية “ونستون تشرشل” جاء فيها: لو تصورنا استقلال اليهود في مكان ما من فلسطين فما الذي يمنعهم من الاتفاق مع أي جبهة قد تكون معادية للحلفاء، ومعادية للعرب وهم قد بدأوا بعدوانهم على بريطانيا بينما هم تحت حمايتها ورحمتها. لاشك أن هذه أمور ينبغي أخذها بعين الاعتبار في إقرار السلم في العالم عندما ينظر في قضية فلسطين. ففضلاً عن أن حشد اليهود في فلسطين لا يستند إلى حجة تاريخية ولا إلى حق طبيعي، وأنه ظلم مطلق،  فهو في نفس الوقت يشكل خطراً على السلم، وعلى العرب، وعلى الشرق الأوسط. وصفوة القول، أن تكوين دولة يهودية بفلسطين، سيكون ضربة قاضية لكيان العرب، ومهدداً للسلم باستمرار. وهكذا يضع الملك عبد العزيز رحمه الله يده على موضع الألم، والنقاط على الحروف وينذر العالم بما يمثله الخطر الصهيوني على البشرية كلها.

وفي برقية من الملك عبد العزيز للأمين العام لجامعة الدول العربية رداً على برقية منه كان أرسلها حول أحداث حصلت في الشام جاء فيها: “… ما هو خافيكم مقاصد الحكومات وأهدافها البعيدة والقريبة، فهذه لابد أن تضعوها أمام أعينكم، واعلموا جزماً بأنهم يقدمون مصالحهم على كل شيء، وإذا حدث شيء من المشاكل فإن مصالحهم مقدمة على كل حال”.

وفي مناقشة مع إحدى الشخصيات العربية البارزة حول تحريم شرب الدخان في المملكة قال الملك عبد العزيز: إذا لم ننظر إلى ناحية التحليل والتحريم وأبيح التدخين فكم ينفق المدخنون عندنا… إلى أن قال: ما عندنا دخان ولا ورق للدخان ولاشيء من آلاته، كله يأتي من الخارج تريد أن نرسل مع فقرنا خمسة آلاف جنيه هدية إلى الخارج كل يوم مقابل ما ننفخه في الهواء. نصوص واضحة، تدل على ما كان يتمتع به الملك عبد العزيز رحمه الله من ذكاء، وفراسة، وقدرة على الإقناع.

   **

العنصر الثالث : الإيمان العميق بالله وأن النصر منه وحده والاعتزاز بالدِّين.

يقول الملك عبد العزيز رحمه الله في مكة 1347هـ – 1929م: “… ولقد ابتعدوا – يعني المسلمين – عن العمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانغمسوا في حمأة الشرور والآثام فخذلهم الله جل شأنه، ووصلوا إلى ما هم عليه من ذل وهوان، ولو كانوا مستمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أصابهم ما أصابهم من محن، وآثام، ولما أضاعوا عزهم وفخارهم.

لقد كنت لا شيء.. وأصبحت اليوم وقد استوليت على بلاد شاسعة يحدها شمالاً العراق وبرُّ الشام، وجنوباً اليمن، وغرباً البحر الأحمر، وشرقاً الخليج.. لقد فتحت هذه البلاد ولم يكن عندي من الأعتاد سوى قوة الإيمان، وقوة التوحيد، ومن التجدد غير التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، فنصرني الله نصراً عزيزاً.

لقد خرجت وأنا لا أملك شيئاً من حطام الدنيا، ومن القوة البشرية، وقد تألب الأعداء علىّ ولكن بفضل الله وقوته تغلبت على أعدائي وفتحت كل هذه البلاد وفي مكة 1348هـ – 1930م يقول في حفل أقيم لجلالته رحمه الله: “… لعل الله يوفقنا بذلك لخدمة الدين ونشر حقيقته وبهذا وحده ننال العز والفخار في الدنيا والآخرة، وثقوا بأن الله يؤيد من يعمل ويسعى في هذا السبيل.. أما نحن فإننا نعتصم بحبل الله تعالى ومن اعتصم بالله فهو حسبه”.

وفي المؤتمر الوطني الذي انعقد في القصر الملكي بمنى 1350هـ، 1931م يقول رحمه الله: يستحيل على الإنسان أن يكون شيئاً يذكر إلا أن ينال عناية من الله تعالى، وعناية الله لا تكون إلا لمن تبع أمر الله تعالى، ومن وفَّقه الله وكان في كنف الله وفي عنايته كان النصر حليفه بدون شك… أنتم تعرفون أن هناك قبيلاً من البشر يسمونهم “العرب” ولو كان لأحد أن يفتخر بهم لوجب أن أفتخر أنا بهم.. وكانوا في ظلمات الجهل والضلالة ولكن الله منّ عليهم بنعمته وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وليس من شك في أن أفضل قبيلة في الدنيا هي القبيلة التي بعث منها محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضل بقعة هي البقعة التي بعث منها صلى الله عليه وسلم فالشرف العظيم لا يُنال بالانتساب إلى الآباء وإنما يُنال بالتقوى، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.. والشَّرف يكون بأمرين: بالدين ثم بالصدق في الأقوال والأفعال.. وأفضل شيء يقام هو تنفيذ أوامر الله تعالى في هذه البقعة المباركة التي أنزل بها الوحي وبعث بها محمد صلى الله عليه وسلم وهي مسقط رأسه ومدفنه.

وفي الكلمة التوجيهية التي ألقاها الملك عبد العزيز رحمه الله في أول دفعة من خريجي المعهد العلمي السعودي 1350هـ، 1931م قال: “اعلموا أن الناس لو كانوا جميعاً على قلب أكفر رجل لما ضروا الله شيئاً، ولو كانوا على قلب أتقى رجل لما نفعوا الله شيئاً إن الله لغني عن العالمين”.

وفي مكة 1350هـ 1932م في الحفل الذي أقامه جلالة الملك عبد العزيز تكريماً لكبار الحجاج قال: “… أما السلاح الثاني – وهو الأعظم – فالذي أوصي به نفسي وأوصيكم به، وهو التقوى والاعتصام بحبل الله جميعاً فإذا علمتم ذلك نلتم العزة في الدنيا، والعفو في الآخرة، ورحمة الله وسعت كل شيء ولا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها وكل طريق غير ذلك لا يفيد.

وفي المحرم 1351هـ، 1932م ألقى كلمة أمام كبار رجالات الدولة، والشخصيات، والأعيان قال فيها: الشريعة كلها خير، وإن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل ووضع فيها ما أمرهم به وما نهاهم عنه.

والأمر لا يتم إلا بمسألتين : الأولى: التوفيق.. والتوفيق لا يكون إلا بالله  {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} والإنسان بلا توفيق لا يستطيع أن يعمل شيئاً.. أما نحن فلا عز لنا إلا بالإسلام ولا سلاح لنا إلا التمسك به، وإذا حافظنا عليه حافظنا على عزنا وسلاحنا وإذا أضعناه ضيعنا أنفسنا وبؤنا بغضب من الله، وإن الذي أريده وأطلبه منكم هو ما ذكرته لكم من التمسك بدين الله وهذه طريقتي التي أسير عليها والتي لا يمكن أن أحيد عنها مهما تكلفت، وإنِّي أحب أن أردد عليكم هذا لاعتقادي أنه كالمطر إذا تكرر نزوله على الأرض أنبتت وأثمر نباتها.. وقال هنا أيضا: لا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام ولا عز لنا إلاّ بالتمسك به.

ثم قال أيضا: ولينعم كل إنسان بنعمة الإسلام، وحرية الإسلام، وغير هذا لا نعمة ولا حرية فمن كان مشارفاً بنظره من قرب أو بعد فليعلم أن الناس لم يتركونا رحمة أو عطفاً وإنما تركونا لأن الله أراد تأييدنا ونصرنا.

وفي موسم حج عام 1352 هـ جاء في خطابه في الحفل السنوي لكبار الحجاج: أنا قوي بالله تعالى ثم بإيماني ثم بشعبي، وشعبي كل منهم كتاب الله في رقابهم وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعددهم أو عددهم، ولكنهم أقوياء – إن شاء الله – بإيمانهم”.

وفي ذي الحجة 1356هـ قال أمام كبار الحجاج: من نعم الله علينا معرفة لا إله إلا الله وكل إنسان يعمل بها تتم له السعادة، فهذه الكلمة هي كل شيء، ومضمون كل شيء.. وكل إنسان لا يؤمن بكتاب الله، ويعمل بحكمته، ويؤمن بمتشابهها فهو ضال.. وكل إنسان لا يؤمن بمحمد، وبما جاء به محمد، ويصدقه بالأقوال والأفعال، ويكون أحب إليه من نفسه وماله فهو ما عرف الله ولا آمن به.

ويقول حفيده الأمير عبد الله الفيصل وهو يتحدث عن مزايا جده وسر ما وصل إليه فيقول: “إنني أعزو ذلك لعدة أسباب:

أولها : الصلة بين العبد المؤمن الصادق في إيمانه وبين الخالق جلّ وعلا، إن صلة عبد العزيز بالله، لم تكن صلة مقرونة برغبة دنيوية. فعقيدته عقيدة خالصة لوجه الله، وإيمانه مطلق ليس له حد، فلذلك نجد التوفيق حليفه في أعماله..

وبعد هزيمة الملك عبد العزيز في جراب.. تلك الهزيمة المؤلمة صادفه فيصل الحمود الرشيد وأخذ يبكي متأثراً بالهزيمة فقال الملك عبد العزيز  والقصة لحفيده عبد الله الفيصل : يا فيصل لا تبك فأنا والله بالأمس في حالة الخوف من أن يوكلني ربي على قوتي، والآن في حال الرجاء أن ينصرني، وسوف أسترد قوتي بحول الله قبل نهاية الشهر.. فكان من القلائل الذين يستمدون من الضعف قوة”.

ويقول يوسف ياسين : سمعت الملك عبد العزيز يقول غير مرة: إذا أراد المسلمون والعرب قتال أعدائهم فإن أعدَّ المسلمون والعرب آلةً واحدة من آلات الحرب أعدلهم أعداؤهم مئات وألوفاً، ولكن قوة واحدة إذا أعدها المسلمون والعرب لا يمكن أعداءهم أن يأتوهم بمثلها، هي إيمانهم بالله. وثقتهم به، هذه القوة لا قبل لا حد بها.

وفي حديث لمجلة “لايف” الأمريكية وهي تتحدث عن الملك عبد العزيز تقول : “… وأعظم صفةٍ خلابة في الملك عبد العزيز، اعتقاده الوثيق بالعدل الإلهي، وهو لهذا لم يندهش كثيراً عندما أمد الله البلاد العربية بالزيوت، كما أمدها بالأمطار فيما مضى، ولن يدهشه كثيراً أن يمد الله العالم بالسلام وما يتبعه من رخاء”.

ونشرت مجلة بلجيكية سلسلة مقالات تحت عنوان “سيد جزيرة العرب” قالت في إحداها: “الملك عبد العزيز، مسلم ورع اتصل عن طريق الزواج بجميع الأسر النبيلة وربط أواصر صداقته مع القبائل … وهو يتحلى بصفات السياسي المحنك استطاع بدهائه العربي أن يتغلب حتى على بريطانيا، وأن يصبح الآن أبرز شخصية من شخصيات العالم الشرقي، وأصبح محط أنظار العالم الإسلامي وموضع مجاملة الدول الغربية”.

وفي برقية لولي عهده ابنه الملك سعود يقول : “تفهم أننا نحن والناس جميعاً ما نعز أحداً ولا نذل أحداً وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره (عياذاً بالله) وقع وهلك..” .

   **

العنصر الرابع : تقوى الله، والخوف منه، تلك الصفات التي تعلو بالإنسان إلى قمم الطهر والنقاء.

تتجلى هذه الصفات في شخص الملك عبد العزيز في أجمل الصور، ومن أبرز ما يوضح ذلك برنامجه اليومي.

يقول الزركلي وهو يتحدث عن برنامج الملك عبد العزيز رحمه الله اليومي:

يستيقظ قبل الفجر بنحو ساعة، فيقرأ سوراً من القرآن الكريم، ويتعبد ويتهجد، وكثيراً ما يسمع له نشيج، ويستمر إلى أن يؤذن الفجر فيصلي الصبح مع الجماعة. ثم يسبح ويقرأ ورد الصباح. ثم يدخل فيضطجع قليلاً، وينهض فيغتسل، ويلبس ثيابه ويفطر. ثم يخرج إلى المجلس الخاص فتعرض عليه مهام الحكومة في فترة غير طويلة يأذن بعدها بالمقابلات الخاصة لكبار الزوار. ثم ينتقل إلى المجلس العام حيث يدخل كل من يريد مقابلته ويمكث نحو ساعة فإذا اقترب وقت الظهر نهض للغداء، ومنه إلى القصر فيستريح قليلاً ثم يصلي الظهر مع الجماعة ويعود إلى مجلسه الخاص فيعرض عليه ما تجدد من الشئون العامة إلى صلاة العصر، ويجلس بعدها لإخوانه وأولاده، وأقاربه، وكبار الموظفين. ثم يخرج بسيارته إلى ظاهر المدينة للرياضة، ويعود بعد صلاة المغرب. وبعد العشاء يجلس في مجلس شبه عام، وهناك يحضر القارئ فيتلو فصولاً من كتب مختلفة، وبعد قليل يدخل قارئ الإذاعة العربية فيتلوا ما التقط من محطات الإذاعة الشرقية من متنوع الأخبار، ويأتي بعده قارئ الإذاعات الأجنبية، ويتكرر قراء الإذاعات في الضحى، وبعد العصر، والهزيع الأول من الليل في نحو العاشرة زوالي فينفض المجلس بنهوض الملك عائداً إلى داخل القصر.

وتتحدث مجلة “لايف” الأمريكية عن برنامجه أيضا فتقول: “ويقضي الملك معظم أوقاته في تصريف شؤون المملكة، فهو بعد تلاوة ما تيسر من القرآن مدة ساعة قبل الفجر ينهض للصلاة ثم يستحم ويتعطر بعطر الورد.. ويذهب بعد الإفطار إلى البلاط حيث يتقدم وزراؤه واحداً بعد واحد لإحاطته علماً بما حدث منذ اليوم السابق وتحوي هذه المحادثات كل كبيرة وصغيرة.. وفي البلاط الآن ثلاثة تراجم يتلقون الأنباء الخارجية ويترجمونها للملك في أوقات منظمة.. .

ويتحدث “فلبي” عن جانب من برنامج الملك عبد العزيز اليومي فيقول : ” إن عبد العزيز لم يكن يستطيع أن يختم القرآن أكثر من 4 مرات في رمضان كل سنة بسبب مشاغل الدولة؟ وفي رمضان ينام ساعة بعد الفجر، وساعتين ونصف بعد الضحى، وساعة بعد صلاة العصر وثلاث ساعات على الأكثر في الليل، وقد عود نفسه طوال حياته على نوم ساعات قليلة تقسم على فترات”. لقد جاء الدين الإسلامي بالتأكيد على قيمة الوقت، وقرر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله يوم القيامة ووعي ذلك المتقون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ وجنى المسلمون أفضل الثمار يوم كان للوقت أهميته في حياتهم، ويوم كانوا يحاسبون أنفسهم على اليسير من أوقاتهم. وكان للملك عبد العزيز في ذلك أروع الأمثلة كما تقدم وحتى في سفره الذي هو بالتأكيد في ذلك الزمن محل النصب والعناء كان يستثمر وقته بشكل لم يعهد له مثيل في عصره.

يقول الريحاني: “… إذا ما طال الليل وملّ الحادي سمعنا صوت السلطان ينادي العجيري.. فيحث الراوية راحلته، وبعد أن يدنوا من عبد العزيز.. ماذا يبغي الإمام فصلاً في مكارم الأخلاق؟ فصلاً في الشجاعة والإقدام؟ فصلاً في البر والتقوى؟ فصلاً من نوادر الملوك؟.. وفي ساعة الإدلاج.. نسمع الصوت ينادي العجيري فيدنو الراوية من عظمة السلطان ويطفق يرتل طائفة من آيات الذكر الحكيم ترتيلاً جميلاً أنيقا “تكاد تعد منه حروفه” ثم يؤذن المؤذن صلاة الفجر.

وبعد الصلاة والقهوة يستأنف الركب السير فينادي السلطان : أين الشيخ، فيلبيه أحد العلماء ويشرع يتلو شيئاً من القرآن، ثم بعد الضحى يدعوه ثانية أو يدعو غيره من العلماء، قارئ الرحلة مثلاً فيسلم هذا قياد راحلته إلى خادم يقودها، ويتناول من حقيبته السيرة النبوية، أو صحيح مسلم، أو تاريخ ابن الأثير، أو كتاب الترغيب والترهيب، فيطفق يقرأ ساعة أو ساعتين بصوت عال يسمعه المتقدمون في الموكب والمتأخرون. منهج حياة لا يطيقه إلا الكبار عقيدة وسلوكاً وأنيّ – بعد هذا – لقوةٍ أن تخترق مَنْ هذا منهجه أو أن تنال منه شيئاً.

يقول عوني عبد الهادي 1936م: “شيئان هائلان في الجزيرة: الصحراء، وابن سعود. ابن سعود عبارة عن عالَم في رجل ملمُ كل الإلمام بدخائل ملكه مؤمن متدين إلى حد عظيم، قالوا: إن الذي يصغي إليه وهو يقرأ كتاب الله في الليل لا يملك نفسه عن البكاء”.

ويقول العقاد:  “إن ابن سعود، من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسِّمون فلا يحارون في أسباب زعامتهم ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا لماذا كان هؤلاء زعماء..؟ لأن الإيمان باستحقاق هؤلاء منزلة الزعامة في أقوامهم أسهل كثيراً من الشك في ذلك الاستحقاق.

واقتُرح على الملك عبد العزيز رحمه الله تدمير إحدى المدن، فكان رده كالتالي: “… ولكن ما هو بخاف أن هدمها مشكلُ: أولاً: من طرف الله وخوفاً منه تعالى في الأمور التي تتجاوز الحد…” الخ.

أورد التويجري هذا الرد الورع وعلق عليه بقوله: “.. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن رده… كان جامعا لمكارم الأخلاق، كافيا أن يكون تاريخ حياته، وعنوان شخصيته العظيمة، والمدخل إلى دراستها، فرحم الله الملك عبد العزيز، الرد كان جليلاً وعظيماً تمثلت فيه تقواه فخوف الله كان مالكاً عليه كل تصرفاته، في غضبه ورضاه، في هزيمته وانتصاره”.

ويصفه د.”فون ويزل” الذي زار جلالته عام 1345هـ 1926م فيقول: “… وفي ابن سعود ميزة أخرى وهي أنه كريم وصادق، وقد حادثته مرتين في شؤون مختلفة كان بعضها دقيقاً جداً فلم ألحظ قط أنه يلبس الباطل ثوب الحق.. نعم.. كان “سياسياً” أحياناً في أجوبته – فلا يقول كل مايعرفه – ولكنه لم يتلفظ بكلمة واحدة غير صادقة.. والظاهر أن هذا شأنه مع الجميع فإني لما قابلت القناصل الأجانب في جدة قالوا لي “إذا قال لك ابن سعود شيئاً فثق أنه يقول لك الحقيقة التي لا تشوبها شائبة”. نهج فريد في القيم والأخلاق، العالم اليوم في أمس الحاجة إليه وقد ابتلي بسياسات تقوم في مجملها في التعامل السياسي الدولي على الغدر والغش والخيانة وقد أحس بعض مفكري تلك السياسات وأبناء تلك الحضارات بعظمة ما يمثله النهج الإسلامي – والذي كان النهج الذي سار عليه الملك عبد العزيز – فأشادوا به وهو نهج كان ولا يزال يفرض نفسه في مجال القيم والأخلاق على الأمم والشعوب فلعل الله ينقذ البشرية من وهدتها بالأوبة إلى دين الله.

ويقول الأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية في مقال له بعد وفاة الملك عبد العزيز رحمه الله: “نشأ مطارداً في أرض أبائه وأجداده فعلت همته على مصائب الدهر، فصارع خصومه، واعتمد على الله، ثم على خلق قويم ونفس سمحة وعزة في دهاء، وشدة في حلم ورحمة، فجمع جزيرة العرب التي لم تجتمع إلا فترات قصيرة بعد ردتها أيام أبي بكر رضي الله عنه، وأمّنها وتربع فيها، وليس في يده إلا سيفه وكتاب الله عدته، وقد عرفته منذ قرابة ثلاثين سنة، هو، هو. الرجل الذي يملأ سمع الدنيا وبصرها. كان متعدد الجوانب كامل الرجولة، لا أعرف أن أحداً التقى به من خصومه أو مواليه إلا أثر فيه بشخصيته التي لم يجد التاريخ إلا شذوذاً بمثلها. عرفته وهو لا يملك من المال لإدارة هذا الملك الواسع إلا الكفاف، وعرفته والدنيا تفيض بين يديه خيراً وبركة – فلم يكن إلا عبد العزيز ابن سعود.-. وُلد سيداً ومات سيداً. يعطي كل ما يملك من القليل، ويعطي كل ما بيده من الكثير، لا يعرف المن والأذى كان رجلاً، إذا أخذت الأمور على طبائعها فإنه ليس إلا شيخاً كبيراً في قوم من البدو، بلاده ومن فيها تعيش في القرون الوسطى، ولكنه بشخصه وبما أودع فيه من مهابة واستقامة وروح شعاعة، استطاع أن يلفت أنظار الدنيا كلها إلى شخصه ثم إلى وطنه ثم إلى العرب كافة. لم يكن يملك جيشاً ولا مالاً ولا سلطاناً يساوي شيئاً مما كان لشخصه في النفوس في العالم الجديد والقديم، فهو بهذا الاعتبار عربي لم تعرف الجزيرة منذ أيام عمر رضي الله عنه له مثيلاً وسيبقى خالداً”. شهادة حق من رجل كفؤ تؤكد أيضا أن سر عظمة الملك عبد العزيز في أخلاقه وقيمه الرفيعة .

وفي كلمة له ألقاها عام 1348هـ  1930م في مكة يقول: “… وقد جعل الله الفخار لأي كان بالتقوى لا بغيرها، فلم يكن في الإسلام تفاضل بين العربي وغير العربي إلا بها وفخار العرب، وعزهم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والكريم عند الله هو التقي الورع {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وقد أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خير الكتب فأمرنا بهذا الكتاب المبين وبرسوله، وهذا خير فخار لنا”.

وفي خطبة له في سنة 1350هـ 1931م أمام المؤتمر الوطني يقول: “إن الناس ليس لهم حياة إلا بعناية الله وتوفيقه، وهم غير معذورين في تركهم الاستمساك بما أمر الله به أوفي ارتكاب ما نهي عنه: قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور}.

وفي عام 1351هـ – 1932م استقبل كبار رجالات الدولة والشخصيات والأعيان وألقى كلمة فيهم جاء فيها: “..إني أعتمد في جميع أعمالي على الله وحده لا شريك له أعتمد عليه في السر والعلانية والظاهر والباطن، وإن الله سهل طريقنا لاعتمادنا عليه وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي فذلك فضل من الله، وكل عمل لا يتم إلا بالإخلاص فالنصيحة للمسلمين واجبة وقد قيل “الدِّين النصيحة” ومن عمل ذلك وجاهد فيه فقد أدى ما عليه”.

ويقول في خطاب له عام 1352هـ – 1933م أمام كبار الحجاج: “أنا لا أبرئ نفسي فذنوبي كثيرة، أرجو من الله الرحمة والغفران، وإنما غاية ما أرجوه أن أكون صادقاً في القول، والعمل، وفي الباطن والظاهر، وأنا وإن كنت ملكاً ولكنني أوقفت نفسي وعملي على ثلاث مسائل:

1 – أنني أعمل ما فيه الخير والصلاح لديني إن شاء الله.

2 – ليس لي رغبة في معاداة أحد من المسلمين صغيراً أو كبيراً.

3 – أنا لا أحب الاعتداء على أيٍّ كان، وجل غايتي في كل وقت الدفاع عن ديني وشرفي وبلادي، وأشهد الله في هذا الشهر المبارك على أنني أتمنى وأسعى للائتلاف والتصافي في كل وقت وآن”.

وفي كلمة له عام 1356هـ – 1937م يقول: “إن الإسلام ملك علينا قلوبنا وكل جوارحنا، ونسأل الله أن يميتنا على الإسلام، ويحفظنا بالإسلام، ويحفظ بنا وبالمسلمين الإسلام”.

ومقومات الإنسان عند الملك عبد العزيز رحمه الله : الدين، والمروءة، والشرف يقول: وإذا ذهبت واحدة من هذه سلبته معنى الإنسانية. وله رحمه الله أذكار عجيبة  منتقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك كان لسانه يلهج بها في أوقات مناجاة ربه يقول الزركلي: “أخبرني أحد ضباط القصر الملكي. قال: رأيت الملك عبد العزيز في الهزيع الأخير من الليل عند صلاة الفجر يتمسك بأستار الكعبة ويدعو قائلاً: “اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي وإن كان فيه شر لي وللمسلمين فانزعه مني ومن أولادي”.

ويبرق لولي عهده الملك سعود رحمه الله برقية جاء فيها : “تفهم أننا نحن والناس جميعاً ما نعز أحداً وإنما المعز، والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا ومن اغتر بغيره – عياذاً بالله – وقع وهلك.. ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:

أولاً: نية صالحة وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون دينك إعلاء كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتاً خاصة لعبادة الله، والتضرع بين يديه في أوقات فراغك. تعبد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلاّ العمل الخفي الذي بين المرء وربه.

ثانياً: عليك أن تجدَّ وتجتهد في النَّظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سراً وعلانية والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطناً وظاهراً وينبغي أن لا تأخذك في الله لومة لائم.

ثالثاً: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة، وفي أمر أسرتك خاصة اجعل كبيرهم والداً ومتوسطهم أخاً، وصغيرهم ولداً، وهنْ نفسك لرضاهم وامحُ زلتهم وأقل عثرتهم، وانصح لهم واقض لوازمهم بقدر إمكانك فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير.

هذا قليل من كثير من أدلة تقوى الملك عبد العزيز رحمه الله وخوفه من ربه ذلك السلاح العظيم والحصن الحصين الذي احتمى به الملك عبد العزيز من شرور أعدائه ومن خطل القول والفعل. وكان من أعظم أسباب النصر والتمكين له. قل المال عليه وهو يحاصر جُدَّة وضاقت صدور الرجال، فنظر الملك عبد العزيز إلى من حوله وقال: المؤن متوفرة في نجد.. من شاء منكم الرحيل فليرحل، أما أنا فمقيم والفرج من عند الله. وجاء الفرج فقبل أن يُمسي ذلك اليوم وصلت قافلة يتقدمها إسماعيل بن مبيريك أمير رابغ .. جاء بالطاعة وبعشرين بعيراً تحمل التمر، والسمن، والبر، ولما كان في حصار جدة جاءه الخبر أن طائرة جُهزت بمدفع رشاش لتقصف معسكر الملك عبد العزيز وليس فيه يومئذ ما يعصم من غارات الجو، لا مدافع مضادة للطائرات ولا مخابئ فقال : يكفينا الله شرها ؟ وحلقت الطائرة فوق مخيم الملك عبد العزيز قبيل الظهر، وعلى ظهرها شاب يحمل قنبلتين يدويتين وكان قال في مطار جده – كما روى من تمنى له النجاح قبل اقلاع الطائرة -: “سألقيهما على رأس عبد العزيز ولكن الله كفى شرها فانفجرت قنبلة في الطائرة واشتعلت النار في الجو وهوت الطائرة وكفى الله المؤمنين شرها وأصبحت ومن فيها كومة من الرماد أمام خيمة الملك عبد العزيز”. تقوى الله استجلب بها عبد العزيز النصر والتمكين، واحتمى بها من الوقوع في خطل القول والفعل.

يقول الزركلي: “ليس في تاريخ عبد العزيز حادث واحد يدل على أنه ابتدأ إنساناً بشر أو عداء”. ويوم كان بناة وحماة!! ما عرف “بالقومية العربية”، والمرتزقة من مقاتليها ينفذون خطط لورنس وقادته، ويسفكون الدماء المسلمة المغلوبة على أمرها من عملاء الإنجليز في الجانب الآخر. في هذا الوقت نفسه كان الملك عبد العزيز يراقب الله في تحركاته وهو يتصدى لبناء أمة من جديد بناءً عقدياً وعملياً، ماذا فعل يوم اضطر إلى الاصطدام بجنود الدولة العثمانية؟

تورط سامي باشا الفاروقي قائد الجيش التركي في القصيم فخيره الملك عبد العزيز بين أمرين:

إما أن يرحل بجيشه خلال خمسة أيام إلى السر… وإما أن يتولى هو – ابن سعود – ترحيل الجيش… ورضي الباشا بالأمر الثاني، فضمن ابن سعود سلامة الفريقين… ورحل فريق العراق على ركائب ابن سعود أمنين شاكرين، وبعد شهرين أرسل السلطان عبد الحميد يشكر “الأمير الخطير، والزعيم الكبير عبد العزيز باشا سعود” على معاملته عساكر الدولة تلك المعاملة الشريفة، ويسأله أن يرسل وفداً من رجاله إلى الأستانه، فأرسل ثلاثة نزلوا ضيوفاً على الحضرة الشاهانية، ومنحوا ألقاب “الباشوية” والنياشين.

وفي عام 1331هـ – 1913م قرر الملك عبد العزيز أن يسترد الأحساء وأن يهاجم الكوت (القلعة) وتقدم بستمائة من رجاله في الهزيع الأول من الليل وكانت وصيته لجنده “لا تدخلوا البيوت ولا تقتربوا من النساء” وعند الفجر وقد أقبل الناس على عبد العزيز مرحبين ولجأ الجند إلى الحصون أرسل إليهم الملك عبد العزيز أن يسلموا فيؤمنهم ويرحلهم إلى بلادهم، وقبل القائد والمتصرف وسلمت الحامية وكانت 1200 جندي فأذن لهم عبد العزيز بحمل سلاحهم.. وقال لا ننزع من الجندي العثماني سلاحه… وأمر بالركائب فرحلهم وعيالهم إلى العقير، وأرسل معهم أحمد بن ثنيان يخفرهم ويؤمن طريقهم.

موقف وسلوك أملته القيم والأخلاق التي كان تربى الملك عبد العزيز عليها وإنك لترى العجب حين تقارن بين مواقف الملك عبد العزيز وتلك المواقف التي حصلت من غيره في البلاد العربية ممن يزعم الإسلام والله المستعان. وتتكرر المواقف التي يظهر فيها تقى الملك عبد العزيز وخوفه من الله فبعد أسبوع من معركة تربه وصل الملك عبد العزيز إلى الموقع ولم يعلم بالمعركة إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام من وقوعها فلما رأى جثث القتلى كالتلال ترقرق الدمع في عينيه وبكاهم.

ويوم لقي ربه رحمه الله لم يخلف سوى “300” جنيه ذهباً وزعت صدقة عليه ، ولكنه خلف ملكاً عظيماً وسمعة سجلها التاريخ بأحرف من نور وسيلقى أجره العظيم عند ربه إن شاء الله جنات ونعيم.  

 

الدِّينُ والشَّرَفُ والمُروءَةُ في حِسِّ المَلِكِ عَبْدِ العَزيزِ ـ رحمه الله تعالى ( 1 ) ـ كتبه د/ عوض بن أحمد بن سلطان الشهري – أستاذ مساعد بقسم التاريخ – في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية – سلسلة حلقات  ( 1 من 4 )

 

مقالك37

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *