صحيفة النماص اليوم :
لطالما كانت الجغرافيا السعودية المتنوعة منبعًا لقصص التاريخ وعمق التراث، وملاذًا للباحثين عن جمال الطبيعة البكر. في قلب هذه التضاريس الشاهقة، تبرز قرية عقبة تلاع في منطقة عسير كواحدة من تلك الوجهات الفريدة التي تجسد هذا التمازج الساحر. لا تقتصر جاذبيتها على مناظرها الطبيعية الخلابة فحسب، بل تمتد لتشمل عمارة أصيلة تحكي قصص الأجداد، وتراثًا بيئيًا حيويًا يعكس ثراء المنطقة. هذه القرية، التي كانت ولا تزال نقطة التقاء تاريخية وجغرافية، تقدم تجربة غنية تمزج بين الاستكشاف الطبيعي والتعمق الثقافي، وتدعو الزوار لاستحضار روح الماضي في أحضان الحاضر. وتتمتع قرية عقبة تلاع بموقع استراتيجي فريد يربط بين الحجاز وتهامة، وهو ما منحها أهمية تاريخية وجغرافية خاصة عبر العصور. هذا الموقع لم يحدد دورها كمعبر فحسب، بل أثر أيضًا في طبيعة عمارتها التي تعكس تكيف الإنسان مع بيئته الجبلية. تتميز القرية بطراز معماري عربي قديم يعتمد بشكل أساسي على الحجر كمادة بناء رئيسية للقلاع والحصون والمنازل، وهي سمة غالبة في قرى الجبال بمنطقة عسير. ويعكس البناء الحجري في قرية عقبة تلاع عمق التراث المعماري للمنطقة، حيث كانت القلاع والحصون جزءًا لا يتجزأ من النسيج العمراني، لا سيما مع وجود الساحات والمنازل التقليدية التي تُسقف بأغصان أشجار الزيتون والعرعر. هذا الطراز لم يكن مجرد وسيلة للبناء، بل كان نظام حياة يوفر الحماية والدفء، ويخلق أجواءً ساحرة تنقل الزوار إلى عقود مضت، ليستلهموا نمط معيشة الأجداد وتحدياتهم. وتتبع قرية عقبة تلاع لمركز وادي زيد، وتنقسم جغرافيًا وقبليًا إلى قسمين رئيسيين، يعكس كل منهما تاريخًا اجتماعيًا عريقًا. يضم القسم الأول قرى تابعة لبلدة الخضراء، وتشمل الظاهرة، وآل مسلم، والمنقورة. أما القسم الثاني، فيتبع لقبائل آل خشرم، ويضم قرى شعب حماط، والبيرية، والقرن، والقزعة، ويدرة، والرهوين، والذنوب، بالإضافة إلى قرى جبل شيبان. هذا التقسيم يسلط الضوء على التركيبة الاجتماعية والتاريخية للمنطقة. ولم تكن قرية عقبة تلاع مجرد مستقر بشري، بل كانت أيضًا بيئة طبيعية غنية ومتنوعة تحتضن ثروة حيوانية فريدة. هذه الثروة الحيوانية تنقسم بين المستأنسة، مثل الأغنام والأبقار والدواجن، والتي كانت تشكل جزءًا أساسيًا من اقتصاد السكان المحليين، والحيوانات البرية التي تزيد من جاذبية المنطقة البيئية. وتزخر المنطقة بوجود أنواع نادرة من الحيوانات البرية، مثل الوشق والسباع، بالإضافة إلى النمور العربية النادرة التي تعتبر مؤشرًا على سلامة النظام البيئي. كما توجد فصائل من الثعابين، مثل ذات الأجراس، والوبران، فضلًا عن الطيور الجبلية كالحجل المعروف بـ “القهبية” أو “الدُّرَي”. هذا التنوع الحيوي يجعل من عقبة تلاع مركزًا للباحثين عن الطبيعة ومحبي الحياة الفطرية، ويعزز من أهميتها كوجهة سياحية بيئية. كما تظل قرية عقبة تلاع في منطقة عسير نموذجًا حيًا لكيفية تمازج التاريخ والجغرافيا والتراث في مكان واحد. إنها ليست مجرد مجموعة من القرى القديمة، بل هي متحف مفتوح يحكي قصة حضارة، ويجسد صمود الإنسان في بيئة جبلية قاسية. إن زيارة هذه القرية لا تقتصر على الاستمتاع بجمال المناظر أو الطراز المعماري العريق، بل هي دعوة للتأمل في عمق الثقافة السعودية وثرائها البيئي، وفرصة لاستحضار روح الماضي في مشهد يجمع بين الأصالة والجمال. فهل يمكن لمثل هذه القرى أن تلعب دورًا أكبر في تعريف الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم وعمق حضارتها؟ وكيف يمكن للمسؤولين عن السياحة الحفاظ على هذا الإرث الثقافي والطبيعي مع تطويره ليناسب تطلعات الزوار المعاصرين؟

التعليقات