منذ أكثر من قرن، لا يزال اسم سايكس بيكو عالقًا في الوجدان العربي كجرحٍ لم يندمل. ورغم أن الاتفاقية كانت عنوانًا للتقسيم والاستعمار، فإن مراجعةً هادئة لمسار التاريخ تكشف أن نتائجها لم تكن أحادية الاتجاه. فبينما ظنّ المستعمر أنه يرسم حدودَ التبعية، كانت تلك الخطوط تشكّل – من دون قصد – بداية وعيٍ سياسي جديد، وفتحًا لبابٍ لم يكن العرب قد ولجوه من قبل: باب الدولة الحديثة، والهوية الوطنية، والشعور بالمصير المشترك.
ظل اسم سايكس – بيكو يتردد في الوجدان العربي كجرحٍ مفتوح، وكأنه الحدث الذي اختزل كل خيبات الأمة في القرن العشرين. اتفاقيةٌ وُقِّعت بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 لتقسيم المشرق العربي بعد سقوط الدولة العثمانية، فكانت رمزًا للغدر والتقسيم والاستعمار. لكنّ التأمل الهادئ في التاريخ يكشف أن الأشياء ليست دومًا كما تبدو، وأنّ بعض ما نعدّه شرًّا مطلقًا قد يخفي في جوفه نعمةً لم ندركها إلا بعد عقود.
كثيرون يتحدثون عمّا قبل سايكس – بيكو وكأنها حقبة مثالية ضاعت، بينما الحقيقة أن الوضع العربي آنذاك لم يكن منسجمًا ولا موحّدًا. كانت العصبيات القبلية والمناطقية والطائفية حاضرة بقوة، وكانت الخصومة السياسية والوصولية تسيطر على المشهد أكثر من روح التعاون.
كل إمارةٍ تبحث عن نفوذها، وكل زعامةٍ تتنافس على رضا السلطان أو على كسب الحلفاء الأجانب. لم يكن العرب في وحدةٍ حتى نقول إن سايكس بيكو فرّقتهم، بل كانت الفرقة كامنة فيهم تنتظر من يوقظها.
وحين جاءت تلك الاتفاقية الاستعمارية، لم تخلق الشرّ من العدم، بل نظّمت فوضى كانت قائمة أصلًا. صحيح أنها قسّمت الجغرافيا، لكنها في المقابل وضعت نهاية لعصرٍ من الحدود المائعة التي كانت تسمح لكل قوة أجنبية بالتدخل والتلاعب متى شاءت وكيفما شاءت.
ومع كل ما حملته تلك الاتفاقية من ألم، فقد أفرزت مفهومًا جديدًا لم يكن مألوفًا في المشرق العربي: مفهوم الدولة ذات الكيان والحدود والسيادة. لقد ظنّ الغرب أنه يُحكم السيطرة من خلال اختلاق تلك الحدود الوهمية، لكنه في الواقع أغلق الباب أمام الفوضى القديمة التي كان يتسلل منها، فظهرت إدارات وطنية وجيوش محلية، ونشأ وعي جديد اسمه “الهوية الوطنية”.
ظنّ المستعمر أنه بذلك التقسيم يزرع التبعية من خلال تمزيق أوصال العالم العربي بحدودٍ وهمية تُبقيه في دائرة الضعف، لكن ما لم يدركه حين رسم تلك الخطوط هو أنّه – من غير قصد – أيقظ بذور الوعي وكشف للعرب هشاشة واقعهم.
أعتقد أنه بتقسيم الجغرافيا سيكسر الروابط بينهم، لكنه في الحقيقة أطلق في النفوس شوقًا أعمق إلى معنى أكبر يتجاوز الحدود، إلى وحدةٍ لا تُقاس بمساحة الأرض، بل باتساع الوجدان.
وهكذا بدأ العرب، رغم الأسلاك والأسوار، يدركون أن الانتماء الحقيقي لا تحدده الجغرافيا، بل يصنعه الشعور المشترك والمصير الواحد. ومن هذه اليقظة المتدرّجة، ومن الخريطة المصطنعة – سايكس بيكو – التي فُرضت عليهم قسرًا، نشأت إرادة التحرر، وصعدت حركات الاستقلال، وتكوّنت ملامح الانتماء السياسي الحديث. وهنا تتجلّى المفارقة الكبرى: الشرّ الذي أراده الاستعمار كان هو نفسه الشرارة التي دفعت نحو النضج.
وعلى الرغم من أن سايكس بيكو كانت طعنةً مؤلمة، فإنها كانت أيضًا صفعة وعيٍ أيقظت أمة كانت تغفو على أمجادٍ مضت، لتكتشف في النهاية أن قدر الشعوب يكتبه وعيها، حتى لو بدا أحيانًا أنه مكتوبٌ بأقلام لا تدرك عمق قضاياه.


التعليقات