الخميس ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٥ الموافق ٢ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ

سلام العدالة لا سلام القوة – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

سلام العدالة لا سلام القوة – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

على افتراض حسن النية من الجميع، يمكن القول إن العالم ما زال يتطلع إلى عملية سلامٍ حقيقية تنهي هذا الصراع الدامي الذي أرهق المنطقة لعقود طويلة، سلامٍ يقوم على الاعتراف المتبادل والعيش الآمن لا على منطق القوة والتفوق.

إسرائيل، مع كل محاولة لإيقاف هذا النزيف المتواصل، ترفض الرضوخ لمنطق التعايش وتصرّ على أن تبقى القوة بديلاً عن العدالة، والهيمنة بديلاً عن التفاهم، وكأنها لا ترى في عمليات السلام التي يدعى إليها بين الحين والآخر إلا هدنةً مؤقتة لترتيب جولة قادمة من الصراع.

التعايش مع إسرائيل ليس مسألة عاطفية أو شعاراً يُرفع في المؤتمرات، بل هو سؤال وجودي يتصل بجوهر الصراع ذاته. فمنذ قيام هذا الكيان على أنقاض وطنٍ وشعبٍ كان يعيش بسلام على أرضه، لم يعرف الفلسطينيون يوماً معنى الاستقرار، ولم يعرف العالم معنى العدالة في التعامل مع هذه المأساة الممتدة.

إسرائيل بنت مكانتها على جبلٍ من الكراهية صنعته بيديها، كراهية تولّدت أولاً في قلوب الفلسطينيين الذين رأوا بيوتهم تُهدم فوق رؤوسهم وأراضيهم تُصادر، ثم انتقلت إلى محيطهم العربي الذي شاهد كيف يُقتل الأبرياء وتُمحى القرى ولا أحد يحاسب، ثم إلى العالم الإسلامي الذي رأى في هذا الظلم المستمر اعتداءً على القيم التي أمر الله بها، ثم أخيراً إلى ضمير العالم الحر الذي خذل نفسه قبل أن يخذل القضية الفلسطينية.

لم تولد الكراهية من فراغ، بل من مشاهد يومية متكررة منذ أكثر من سبعين عاماً، طفلٌ يُقتل لأن حجراً في يده، أمٌّ تُودع أبناءها عند حواجز الاحتلال، مُزارعٌ يُطرد من أرضه ليُقيم عليها مستوطَن جديد، ثم يُقال بعد ذلك إن الفلسطيني لا يريد السلام. كيف يمكن لإنسانٍ حُرم من حقه في الحياة والكرامة أن يُمنح دروساً في التعايش؟

المشكلة ليست في رفض الفلسطينيين للتعايش، بل في رفض إسرائيل لوجودهم من الأساس. حين يطلق صاروخ بدائي من غزة يسقط في الصحراء أو في مزرعة مهجورة وربما يصاب شخص هنا أو هناك، فترد إسرائيل بقصفٍ شاملٍ يهدم البيوت ويقتل العائلات ويبتلع الأرض. هذا التفاوت بين الفعل ورد الفعل ليس دفاعاً عن النفس كما يدّعون، بل هو سياسة ممنهجة لإبقاء الفلسطينيين تحت الحصار والخوف، ولتأكيد فكرة القوة التي لا تُسأل ولا تُحاسَب.

العالم الذي يدّعي الدفاع عن القيم والحرية والكرامة الإنسانية يقف عاجزاً أمام هذه الجرائم. الأمم المتحدة تصدر قراراتٍ منذ عقود، لكن لا شيء يُنفّذ، لأن إرادة القوة والمال والفيتو الأمريكي تحمي إسرائيل من المساءلة. المنظمات الدولية التي تتحرك لأجل قضايا بعيدة لا تجد الشجاعة لفرض العدالة في هذه القضية الأقرب إلى الضمير الإنساني. بهذا العجز ترسخت قناعة لدى الشعوب أن النظام الدولي لا يرى الفلسطينيين بشراً متساوين في الحقوق، وأن القانون لا يطبّق إلا على الضعفاء.

التعايش الحقيقي لا يولد من خلال فوهات البنادق ولا من المفاوضات الشكلية، بل من اعترافٍ كاملٍ وصادقٍ بأن هناك شعباً له حقوق، له تاريخ، له أرض، له ذاكرة، وله كرامة. وأن على إسرائيل أن تدرك ذلك وتعلم أن قوتها العسكرية لن تمنحها شرعية، وأن تطبيعها مع دولٍ عربية لن يُنسي الشعوب جرح فلسطين، فسلام القوة لا يعيش طويلاً، أما سلام العدالة فهو وحده القادر على أن يستمر.

إن قبلت إسرائيل أن تكون جاراً لا جلاداً، وأن ترى في الفلسطيني إنساناً لا عدواً، يمكن عندها أن يولد التعايش. وإن ظلت على غطرستها واستقوائها بالغرب، فلن تكسب سوى عزلةٍ أخلاقيةٍ تتسع يوماً بعد يوم. التاريخ لا يرحم، وضمير الشعوب لا يُشترى، وما من قوةٍ على الأرض تستطيع أن تُسكِت الحق حين يطالب بالعدالة.

الحل لا يحتاج معجزات، بل إرادة صادقة من العالم لفرض السلام العادل لا السلام المفروض. أن تُجبَر إسرائيل على احترام القانون الدولي، وأن يُمكّن الفلسطيني من حقه الطبيعي في الحياة على أرضه. عندها فقط يمكن أن يولد جيلٌ جديد لا يعرف الخوف، ولا يحمل الكراهية التي صنعتها الحروب، بل يحمل أملاً جديداً في إنسانيةٍ لم تمت بعد.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *