الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده : سررت بصدور كتاب: عسير في الوثائق العثمانية خلال الفترة الممتدة بين العامين الهجريين (1300 و 1327هـ)، هذا العمل التوثيقي المترجم الذي قام عليه الأستاذ الدكتور غيثان بن علي بن جريس، وشاركه في إعداده الدكتور رشاد بن عبدالله الشهري،والدكتور أنعم محمد الكباشي ، ولعلمي رغبة الدكتور غيثان في نقد أعماله التوثيقية من الدارسين والمهتمين والقراء، وذلك مما يثري العمل ويزيده رصانة ولي بعض الآراء التي سجلتها في هذه القراءة التصويبية.
استمر النفوذ العثماني على عسير قرابة نصف قرن من الزمان، وما كُتب خلال هذه السنين ـ لاشك ـ كثير من المخطوطات والوثائق ، والمذكرات، والسجلات، والفرمانات والمراسلات، إلخ، التي تزخر بها خزائن الأرشيف العثماني، واقتصر المترجمون لهذا العلم على ما ورد وكُتب من الوثائق خلال الفترة التي بينوها في عنوان الكتاب وتمتد لمدة سبع وعشرين عاماً من (1300ــ1327هـ/1882ــ1909م) عدا أعوام يسيرة.
من المؤكد أن تلك المكاتبات ليست إلا جزء يسير من الزمن الذي بسط فيه العثمانيون سلطانهم على عسير الممتدة في التنظيم الإداري العثماني من ميناء القنفذة في تهامة إلى جازان وما حولها من تهامة اليمن، وما بين أطراف بلاد زهران السروية شمالاً إلى نهاية بلاد قحطان جنوباً، وهذه منطقة جغرافية واسعة تضم الجزر والساحل ، وغور تهامة، وأصدار الجبال، وجبال السروات، والسهول الشرقية لأرض السروات.
اعتمدت السلطنة العثمانية بالأستانة مدينة أبها عاصمة للمتصرفية في عسير يتبعها العديد من الأقضية الإدارية، وفي أبها مقر المتصرف العثماني، وقائد الجيش منذ بداية إحكام القبضة العثمانية على بلاد تهامة والسراة، وتولى إدارة المتصرفية العديد من المتصرفين، والقادة العسكريين، ومعظمهم برتبة فريق أو لواء . ومنهم من استمر المدة المقررة له وآخرون تم عزلهم بسبب ضعفهم، أو سوء استخدام السلطة والبطش الذي مارسوه على السكان، مما جعل الثوار لا يكفون عن خروجهم على الحكومة العثمانية التي تكبدت خسائر كبيرة من الجنود والعتاد.
وخلال نصف قرن من النفوذ العثماني، وتماشياً مع كافة الأحداث في المتصرفية، فإنه جرى تبادل الكثير من الرسائل ، والبرقيات، وصدر العديد من القرارات الـ( فرمانات ) والأوامر بين أبها وولاية اليمن، وبين أبها واستانبول ، وقد بلغت في الأرشيف العثماني مبلغاً ضخماً . وقام الباحثون باختيار (424) وثيقة مما له صلة بتاريخ أحداث هذه المنطقة التي نجهل كثيراً منها لأسباب كثيرة ليس هنا محل بسطها، وهذه الوثائق المختارة كشفت جوانب عديدة من ذلك، وأبانت لنا أموراً لم نكن نعرفها لولا ترجمة هذه المصادر الوثائقية. .
(*) نجد في هذا العمل، بالرغم من أهميته، بعض السلبيات التي قد تؤخذ على المترجمين الباحثين، ومنها :
1ــ عدم تحقيق مادة الوثائق تحقيقاً علمياً وتمحيص ما ورد فيها من معلومات، واكتفوا فقط بالترجمة الحرفية لنصوصها، إلا إنا ندعو الله أن يمنح المترجمين، أو باحثين آخرين في القريب العاجل القدرة والعون على أن يقدموا تحقيقاً ودراسة رصينة لهذه الوثائق تُحيط بكل ما ورد فيها من جوانب.
2 ـ لم يحرص المترجمون أثناء صف الكتاب وطباعته مقابلة صورة الوثيقة مع الترجمة في معظم الكتاب بحيث تكون في صفحتين متقابلتين، بل وجدت أن معظم (صور الوثائق) في صفحة بينما في الصفحة المقابلة ( ترجمة لوثيقة أخرى )، وهذا أمر مزعج للقارئ، والأفضل أن تكون الوثيقة في الصفحة المقابلة للترجمة.
3 ــ من السلبيات أيضاً أن صور الوثائق صغيرة مما يجعل قراءاتها أو التمعن في كلماتها عسيراً، وحبذا لو كانت أوضح من ذلك.
4 ــ لم يوضح الباحثون المترجمون في المقدمة وفي خطة العمل هل الترجمة حرفية كما كُتبت في الأصل، أم أنهم فقط ترجموا خلاصة الوثيقة ومضمونها.
هذه الملاحظات لا تقلل من جهد المترجمين، ولا من أهمية العمل الذي قدموه لنا، بل لهم منا جزيل الشكر، إذ قدموا للباحثين والقراء مادة علمية كبيرة وفيها الكثير من الموضوعات الثرية، التي ستفتح للمؤرخين آفاقاً واسعة، وتنير لهم الطريق إلى مزيد من البحث والتحقيق، وسبر أغوار تاريخ المنطقة في جوانب متعددة على امتداد خارطة المتصرفية في تهامة أو جبال السروات، وبقية نواحيها في عسير، والباحة، وجازان. والدارس لنصوص هذه الوثائق سيجد كماً كبيراً من المادة العلمية التي لا توجد في غيرها من المصادر.
أكدت العديد من الوثائق العثمانية اشتعال الثورات الأهلية المستمرة، ونفور القبائل أفراداً وجماعات من الوجود العثماني في بلادهم . وزاد من ذلك التنافر استبداد الولاة والقادة العسكريين والجند، وإساءة استخدامهم السلطة ضد الأهالي وأموالهم وكرامتهم في أوطانهم في ظل بُعدهم عن مقر السلطنة في (الأستانة) وعدم وصول تذمرهم وشكواهم للخليفة أو الصدر الأعظم، ويؤكد ذلك ما ورد من صدور بعض القرارات/ الفرمانات، بعزل بعض القادة أو المتصرفين من مناصبهم واستبدالهم بغيرهم، أو نقلهم لأماكن أخرى لما ثبت من سوء إدارتهم ونفور الأهالي منهم، مما جعل الثورات لا تنطفئ في أجزاء كثيرة، أو بسبب فرض الإتاوات والضرائب الجائرة على الناس، وعدم وجود أي رعاية أو خدمات للسكان، وهذا مما جعلهم يرون أن السلطات العثمانية باتت عبئاً لايطاق، ولم يجدوا منها إلا القمع وسلب الحرية والاستيلاء على الأموال.
لعل هذا النفور الشعبي من الوجود العثماني في عسير جعل بعض الولاة يميلون لمنحى آخر فيدعون السلطات العليا، بحسب بعض الوثائق المترجمة، إلى إخراج الأهالي من بداوتهم، والعمل على نشر العلم والمدارس، وإلحاق أبناء البدو بها، وتم افتتاح (12) مدرسة، ومنها مدرسة في أبها، وتلك محاولة تغيير النظرة القبلية للوجود العثماني المستبد.
أشارت الوثائق أن السلطات العثمانية وقعت بين نارين : ثوار الداخل، والتدخل الأجنبي الإنجليزي/ الإيطالي في البحر الأحمر وساحله الغربي في إفريقيا، وكان من أسباب استمرار الثورات القبلية على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، التغلغل الإنجليزي، والإيطالي ودعم الثوار بالأسلحة، وتهريبها لهم من ميناءي سواكن، ومصوع الإفريقيين، وما تبع ذلك أيضاً من التقارب مع الإمارة الإدريسية في صبيا.
الذي استرعى انتباهي في الوثائق ما ورد في الوثيقة رقم (41) بأن بيشة كانت في التنظيم الإداري العثماني (ناحية) تابعة لقضاء بني شهر الملحق بالمتصرفية في أبها. كذلك بعض الوثائق من مكاتبات وبرقيات و تقارير أشارت إلى تعرض بعض الأماكن في قضاء بني شهر لبعض الأمراض، كالطاعون، والكوليرا، وهذا مما جعل السلطات العثمانية المحلية تتخذ بعض الاحترازات الصحية الضعيفة كالحجر، ومنع خروج المرضى من منطقة الوباء، واستدعاء الأطباء لبحث الأسباب، ووضع التوصيات، خاصة في مواسم الحج لئلا يتم نقل الوباء لحجاج البيت الحرام ، والرفع بما تم حيال ذلك لسلطة المتصرفية وسلطات الولاية، وهي بدورها تخاطب الصدارة العظمى في العاصمة استانبول.
لاحظت وجود خطأ مطبعي يسير، إذ كُتب التاريخ في المقدمة ص (15)، السطر الـ (5) (1993م) بينما صوابه (1893م). وورد اسم عقبة الصماء خطأ في نص الوثيقة بــ (عقبة حما) وتكرر الخطأ في ترجمة الوثيقة (63) وصوابه “عقبة صماء” أو “عقبة الصماء” لأن العجم لا ينطقون ال التعريف العربية. وجاء في الوثيقة (77) و (94) وغيرها اسم (ولجة) اسم مكان والصواب (اللحية) وهو ميناء يمني قُرب ميناء الحديدة اليمني.
ذكرت بعض الوثائق عصيان وتمرد ضباط وجنود الجيش العثماني على القيادة في متصرفية عسير، وعدم الطاعة ، أو امتثال الأوامر، وتركهم حمل سلاحهم، وقام بعضهم بنزع الأنواط والأوسمة الممنوحة لهم من مقام الخليفة العثماني، بسبب التأخر في صرف معاشاتهم، وسوء الرعاية، وطول مُكثهم بعيداً عن أهاليهم، مما وضع متصرفية عسير في حرج بالغ أمام الولاية في اليمن، والسلطة المركزية في استانبول، وسعياً لحل هذا الانفلات العسكري الخطير دعا المسؤولون بأبها للاستعانة بما يأتي من دعم مالي وعيني من لواء الحديدة لسد العجز المالي في لواء عسير، وكانت القيادة في متصرفية عسير تلجأ إلى سد العجز المالي بما يتم جمعه من جباية الضرائب الزراعية والتجارية في لواء الحديدة الساحلي .
هنالك عناوين كثيرة تستحق من الباحثين والمؤرخين بحثها والإفادة منها في بحوث مستقلة. ومن ذلك ما ورد في الوثائق من مصطلحات إدارية عديدة، ومنها “ولاية” و “لواء” و “متصرفية” و “قائمقامية ” و “قضاء” و “سنجق” و”ناحية” .ووظائف بعض المسؤولين: “كالوالي” و” المتصرف ” و”القائمقام” و ” مدير ناحية”. وبعض المصطلحات الخاصة بالمؤسسات الإدارية في الدولة العثمانية، مثل: ” دائرة الصدارة العظمى” و” نظارة الداخلية” و”نظارة البحرية”، و “نظارة الصحة” و “نظارة الشؤون المالية” و “مشيريةالضرائب” و”أمانة الضرائب” و”دائرة المكاتبات” و”إدارة التبغ”. وكذلك بعض الألقاب كالباشا، و”الأغا”، و “البيك”، و”الأفندي”، و “الياور” و ” القومندان” و “آغا طابور”،و “ناظر الصحة”. وكذلك عبارات تعظيم كبار المسؤولين، مثل: صاحب المقام العالي الصدر الأعظم، وصاحب المقام العالي قائد الجيش، وصاحب الفخامة.
لا يسعني إلا تقديم الشكر والتقدير لمترجمي هذا العمل الثري وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور غيثان بن علي بن جريس الذي عرفنا حرصه على تلمس مواطن الضعف أو الخلل في نتاجه العلمي، وقبوله للنقد البناء والبعيد عن المدح والثناء، وما ذلك إلا لحرصه للوصول إلى مادة علمية رصينة وشمولية نافعة لكل من تلقفها من طلاب العلم والباحثين. والله الموفق ، وصلى الله وسلم على رسول الله.






التعليقات