إذا درسنا القرآن الكريم وكتب الأحاديث الشريفة نجد تفصيلات كثير تنص على أهمية الصحة للعقل، والجسد، والنفس. والدين الإسلامي الصحيح رسم للإنسان طريق الحياة في كل شيء، ومنها الأحوال الصحية الطبية التي تساعد الفرد للعيش صحيحاً معافى في جميع أوضاعه الروحية، والنفسية، والجسدية، والعقلية. ومن يبحث في كتب التراث الإسلامي المتنوعة خلال القرون الإسلامية المختلفة يجد في بعضها ذكراً واسعاً للتاريخ الصحي الطبي عند المسلمين وغيرهم.
عرفت بلدان شبه الجزيرة العربية العديد من الأطباء والممارسات الطبية المتنوعة قبل الإسلام وبعده. ومن يبحث عن مسيرة الحياة الصحية في هذه الديار فسوف يجد في القرآن الكريم الذي نزل على الرسول الكريم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب (عليه أفضل الصلاة والسلام) آيات كثيرة حثت على الأقوال والأفعال الإيجابية أو السلبية التي لها صلة بصحة الإنسان من جميع النواحي.
وكان الرسول (ﷺ) يروي ويرشد الناس إلى أمور عملية لها علاقة مباشرة بالأوضاع الصحية. وظهر في مناكب البلاد عند عامة الناس وخاصتهم وسائل وطرق عديدة للتداوي، وكان بينهم من يمارس مهنة الطب والتطبيب كل حسب قدراته ومعرفته وتجاربه.
بدأ القرن الرابع عشر الهجري (19ــ20م)، وسكان السروات وتهامة جزء صغير من منظومة العالم الإسلامي الذي تسوده الصراعات والفرقة والحروب المحلية، والإقليمية والعالمية. وكان عند أهل البلاد بعض الثقافات التي ورثوها من الأجيال السابقة، أو وصلت إليهم مع العناصر البشرية التي جاءت إلى بلادهم في هيئة أفراد أو جماعات عسكرية أو مدنية، وجلبوا معهم بعض العلوم والمعارف، ومنها خبرات صحية ممثلة في كوادر بشرية، أو أدوات وأدوية طبية.
ومن يطّلع على الوثائق العثمانية، أو البريطانية والإيطالية وغيرها من الدول الغربية، أو يبحث في المصادر والوثائق والمراجع العربية المحلية والرسمية يجد معلومات تتعلق بالطب والتطبيب في الحجاز، والسراة وتهامة، واليمن. ومنها ممارسات صحية بدائية تعتمد على ما تحتويه البيئة المحلية من مكونات مادية ومعنوية، وأخرى جاءت مع الجيوش العثمانية والأجنبية الغازية التي وصلت إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، واستولت على الأرض وما تحتوي عليه من مقدرات طبيعية وبشرية.
(*) ناقشت في عدد من بحوثي المطبوعة والمنشورة خلال العصر الحديث تاريخ الطب والتطبيب في جنوب شبه الجزيرة العربية خلال العصر الحديث، وبخاصة السروات وتهامة المعنية في هذه الدراسة،واتضح لي عدة أمور، أذكر بعضها في المحاور الآتية:
1 – قسوة الحياة وصعوبتها انتجت الكثير من العقبات، مثل انتشار الأمراض بأنواعها بين الناس، وكانت طرق التداوي المعروفة عند الناس بسيطة وقديمة وبدائية. ومن أكثر الأوبئة التي فتكت بالبشر حتى سبعينيات وربما ثمانينيات القرن (14هـ/20م) الطاعون، والجدري، والسل (الدرن)، والحمى وغيرها..
حتى إن الناس صاروا يؤرخون ببعض السنوات التي انتشرت فيها هذه الأمراض وقضت على أعداد كبيرة منهم، فيقال: سنة الجدري، أو سنة الطاعون، والجدري، والسل (الدرن)، وغيرها، ويقصدون بها سنة محددة انتشر فيها مرض أو أمراض معينة، وأهلكت خلقاً كثيراً.
2 – كان الطب الشعبي هو السائد بين الناس، وبعض العارفين، أو من يسمون بــ (الأطباء الشعبيين) يعالجون العديد من الأمراض بالكي، أو مكونات نباتية أو حيوانية تُوصف للمريض، أو يجمعونها ثم يخلطونها ببعضها بعد سحقها أو بدون ويعطونها للمرضى لتناولها، وأحياناً تنجح في العلاج، ومرات أخرى كثيرة لا تفيد، وغالباً تعتمد على نوع المرض، والعضو المصاب.
ولا ينحصر التطبيب البدائي المحلي على الإنسان، فهناك أمراض كثيرة تصيب الحيوانات والطيور والزروع والنباتات، وكان عند الأوائل معارف وثقافات بسيطة يستخدمونها في علاج الإنسان وغيره.
3 – سمعت ورأيت أطباء شعبيين ماهرين في تجبير الكسور، ومازال بعض العارفين بهذه المهنة حتى وقتنا الحاضر، لكن أعدادهم في الماضي كثيرة، واليوم صاروا من النوادر. وكان بعض السرويين والتهاميين يمارسون عملية الختان، ويعتبر بعضهم صاحب علم وخبرة ودراية في هذا الباب. ووجد خلال القرن الهجري الماضي، وهذا القرن(15هـ/20ــ21م) من يعالج بالقرآن الكريم، وآخرون يدعون أنهم يستخدمون القرآن في العلاج، لكن لا تخلو أعمالهم من الخرافات والشعوذة والطلاسم.
4 – كتابة تاريخ الطب الشعبي عن بلاد واسعة مثل السروات وتهامة خلال قرن ونصف تقريباً (1300ـ1447 هـ /1883ــ2025م) موضوع كبير جداً يستحق أن يوثق في عشرات الكتب والبحوث والرسائل الجامعية. ومن يعمل في هذا المجال يجب عليه أن يلم بالمصادر والمراجع المكتوبة، وهي متوفرة داخل البلاد وخارجها، كما لا ينسى مقابلة بعض الأعلام والرواة الحاذقين الذين يستطيعون رواية معلومات دقيقة وصحيحة.
ويجب توظيف التجارب والمشاهدات من خلال المعاصرة، ومن يزور المتاحف الرسمية والخاصة في أنحاء البلاد فسوف يرى مواد تراثية وأثرية لها علاقة بالحياة الصحية والطب والتطبيب الذي كان يمارسه أبناء هذه البلاد (تهامة وسراة) خلال القرن (14هـ/19ــ20م) .
5 – أما الطب والتطبيب الحديث في أرض تهامة والسراة، فبوادره الأولية جاءت مع الجيوش العثمانية والحكومات الاستعمارية الأجنبية عندما وصلت إلى البلاد في القرن (13هـ/18ــ 19م)، وتشير إلى أسماء أطباء غربيين وعثمانيين ومسلمين وعرب وصلوا إلى بعض مدن وقرى وحواضر عسير ، وجازان ، وبيشة ، والقنفذة ، والطائف ، ونجران وغيرها ، وجلبوا معهم بعض العلاجات والأدوية الحديثة.
لكن هذه البدايات كانت محدودة في أعدادها وخدماتها، ولا يستفيد منها إلا قلة قليلة من علية الناس وبخاصة العناصر البشرية الأجنبية الوافدة، وإن وصل أثرها الإيجابي إلى بعض أهل البلاد فذلك لا يتجاوز الأفراد الذين هم من أصحاب القرار والشأن الرفيع في بلادهم ولهم صلات جيدة مع القوى الأجنبية الغازية وغيرهم من الوافدين.
بعد دخول البلاد تحت نفوذ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل (رحمه الله) نجد الوضع بدأ في التحول الإيجابي في بناء الأرض والناس، وشملت إصلاحات هذا الإمام الموفق جميع مفاصل الحياة العامة والخاصة المعنوية والمادية. وأنشئت مديرية الصحة السعودية في مكة المكرمة من أربعينيات القرن الهجري الماضي..
وعملت واجتهدت على نشر الوعي الطبي والصحي في أرجاء الدولة السعودية الحديثة. وكان لي بعض التجارب والمحاولات العلمية في جمع معلومات تاريخية عن بدايات وتطور الطب والتطبيب في جنوب المملكة العربية السعودية، ولم أكتف بجمع مواد علمية في هذا الباب من الوثائق والسجلات والمدونات المكتوبة، إنما اتصلت ببعض رواد الفكر والعلم والقلم الذين عاصروا النهضة الحديثة في السروات وتهامة، ومنها الحياة الصحية..
وجمعت صفحات ومذكرات عديدة من بضعة أعلام، ونشرت بعضها، وأخرى مازالت محفوظة ضمن أوراقي الخاصة، آمل أن أتمكن في قادم الأيام من دراستها وطباعتها ونشرها مع غيرها من المدونات والمذكرات المتنوعة والجديدة في محتواها.
من الرواد الذين ساعدوني في كتابة بعض المقتطفات عن بدايات الطب السعودي الحديث في السروات وتهامة الأستاذ محمد بن أحمد (أنور) (رحمه الله)، فأشار إلى شيء من تاريخ الحياة الصحية الحديثة في مدينة أبها خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الهجري الماضي، فقال: ” بدأت الصحة في أبها بطبيب سوري اسمه خيري، كان ذلك في عام (1346هـ/1927م)، ومعه موظف يدعى أحمد أبو شقرة من أهالي أبها..
ثم انتقل من أبها وجاء بعده أطباء سوريون عديدون من ضمنهم: عبدالعليم الأتاسي، ثم الدكتور أكرم البيطار، ثم الدكتور فؤاد أبوغزالة، ثم انضم لهم كتاب ومحاسبون وممرضون…ولم تكن الإمكانيات الطبية مثلها الآن. وأذكر أن طبيب أسنان يدعى عبدالستار العلمي جلس مدة طويلة يتقاضى راتباً ضخماً وبدون عمل في انتظار وصول المعدات الطبية من كرسي وما يستلزم عمله كطبيب أسنان..
ثم تطور الحال بأطباء ومساعدين وممرضين وممرضات إلى ما هو موجود الآن، ولم يكن هناك عقبات ولا مشاكل، فالطبيب العادي يستطيع مكافحة كل مرض علماً بأن أسماء كثير من الأمراض المسماة الآن لم تكن موجودة ولا معروفة ، وكان أهم الأمراض الجدري، والحصبة، والسل، وكان يقوم مقام السرطان الآن، ومريضه الكل يتحاشاه ويبتعد عنه».
نستخلص من هذه المدونة تأسيس الطب الحديث في أرض السروات وتهامة وكانت بداية بسيطة، ومدينة أبها من أوائل البلدان التي حظيت بالرعاية الصحية الحديثة، ثم انتشرت الخدمات الطبية تدريجيًّا إلى المدن والحواضر الأخرى. وكانت جميع الأيدي العاملة الفنية وافدة من دول عربية وسوريا في المقدمة، ثم دول عربية أخرى كالأردن، وفلسطين ، ومصر، والسودان وغيرها.
كتب الأستاذ يحيى بن حسن بن مستور العسيري مذكرة تفصيلية تشتمل على معلومات قيمة عن مسيرة الحياة الصحية الحديثة في جنوب البلاد السعودية منذ بدايتها حتى منتصف العقد الثاني من هذا القرن (15هـ/ 20م)، وجل توثيقاته عن منطقة عسير، وتحديداً حاضرة أبها وما حولها، فذكر تفشي الأمراض في البلاد خصوصاً مرض الجدري في منتصف القرن الهجري الماضي..
ولم يكن في الديار طبيب مختص يعالج الناس، وفي عام (1355هـ/1935م) قدم إلى سروات عسير طبيب هندي يدعى عطاء، جاء من عدن إلى جازان حتى أبها، وجلب معه بعض الأودية واللقاحات لمرض الجدري، وبدأ تطعيم موظفي الإمارة، والجنود، وطلاب المدارس، ومن رغب في التطعيم من بقية الناس..
وأنشئت أول طبابة في أبها عام (1356هـ/1935م) بطبيب واحد وممرض وثلاثة عمال، وتركزت أعمالهم على معاينة من يتوظف في الجيش أو الشرطة، أو من يرسل لهم من المساجين. والأدوية المستخدمة آنذاك مساحيق تجهز بواسطة مساعد الصيدلي، وبعض الحبوب المتنوعة في أحجامها وأشكالها، وبعض الإبر (الحقن) العلاجية، وقطرات بسيطة للعيون، وصبغات اليود المطهرة للجروح، وبعض المراهم.
وفي بداية الستينيات من القرن (14هـ/20م) تطورت طبابة أبها إلى مسمى (مديرية صحة عسير)، وكانت متربطة ماليًّا وإداريًّا وفنيًّا بالمديرية العامة للصحة في مكة المكرمة. ونجد أوائل الطبابات والمراكز الصحية الحديثة التي تأسست في الطائف، والقنفذة ، والباحة ، والنماص، وبيشة، ونجران وجازان وحواضر أخرى في تهامة والسراة خلال الفترة الممتدة من (1345ــ1374هـ/1926ــ1954م)، كانت جميعها تستمد قراراتها من المديرية العامة للصحة في الحجاز.
وبذلت تلك المؤسسة جهوداً كبيرة في تأسيس ونشر الكثير من الخدمات الطبية الحديثة والضرورية في أرجاء المملكة العربية السعودية، وفازت بلاد السروات وتهامة بالنصيب الوافر من تلك الخدمات.
الأستاذان محمد أنور ويحيى بن مستور وبعض السجلات والوثائق تشير إلى بعض الصعوبات التي واجهت المراكز الطبية في البلاد التهامية والسروية خلال العقدين السادس والسابع من القرن الهجري الماضي، مثل: محدودية الأيدي العاملة من الأطباء والممرضات والممرضين..
والذي زاد من الصعوبة ضعف وسائل المواصلات ووعورة الطرق التي تربط بين أجزاء البلاد، أو بين تهامة والسراة والحجاز، ومع هذا كان القائمون على الخدمات الصحية في الحجاز أو المناطق النائية المتفرقة لا يدخرون جهداً في تقديم أفضل ما عندهم حسب قدراتهم وإمكاناتهم المادية والفنية والطبية .
تحولت المديرية العامة للصحة في مكة المكرمة إلى وزارة للصحة، ونقلت جميع الوزارات من المنطقة الغربية إلى العاصمة الرياض، وقام وزير الصحة آنذاك الدكتور رشاد فرعون بزيارة لبعض مناطق المملكة ومنها سروات عسير وتحديداً مدينة أبها..
وكانت فرصة أن عرض عليه الناس مشاكلهم الصحية، وطالبوه بزيادة الخدمات الصحية بتوفير الأجهزة والإمكانات اللازمة، كالأشعة والمختبرات والأعداد المناسبة من الأطباء والأخصائيين والفنيين وغيرهم، فوافقهم على كل مطالبهم، لكن ذلك لا يتحقق إلا بتوفير مبني لمستشفى حكومي، يلي ذلك التجهيزات اللازمة.
وأثناء زيارة الملك سعود لمنطقة عسير عام (1374ــ1954م) عرضوا عليه طلباتهم فأمر ببناء مستشفى حكومي بأبها وتم افتتاحه عام (1378هـ/1958م)، وتزويده بالكثير من المعدات والتجهيزات الطبية والكوادر البشرية متعددة التخصصات. وفي الفترة نفسها توسعت الخدمات الصحية في مدن ومناطق السروات وتهامة الرئيسية، وبدأت المستشفيات والمراكز الصحية تنشئ في أمكنة عديدة من مناطق غامد وزهران، والقنفذة، وحواضر ومدن عسير، وجازان، ونجران.
وجدت مذكرة في وزارة الصحة مؤرخة في بداية العقد الثاني من القرن (15هـ/20م) تلخص مسيرة الحياة الطبية في بلدان تهامة والسراة، وتذكر أسماء بعض الطبابات والمراكز ثم المستشفيات الصحية التي افتتحت في بلاد جازان، وعسير، والباحة، والطائف، والقنفذة خلال النصف الثاني من القرن الهجري الماضي وبدايات القرن الحالي، لكن الجميل فيها أن وثقت لمحات موجزة عن الطب والتطبيب في هذه الديار الجنوبية السعودية قبل بدايات هذا القرن (15هـ/20م) .
وذكرت أن الخدمات الصحية في جنوب المملكة العربية السعودية كانت قاصرة على مدن وحواضر محدودة، من خلال الطبابات ثم المستوصفات أو النقاط الصحية القليلة، وأخيراً بعض المستشفيات المحدودة حتى نهاية التسعينيات من القرن(14هـ/20م)، وكان قوامها ممرضاً أو مساعد ممرض يعمل في غرفة أو غرفتين من البيوت الشعبية، وإمكاناتها من الأدوات والتجهيزات الصحية متواضعة، وكان الدور الأساسي لتلك المراكز الصحية دوراً علاجياً محدوداً جداً، ونظراً لقلة هذه النقاط الطبية، فكانت لا تغطي إلا أجزاء قليلة من البلاد،
أما النواحي الوقائية فتعمل بإمكانات بسيطة ضمن المكاتب الصحية، أو مراكز رعاية الأمومة والطفولة، ولم تكن تمارس وظائفها ضمن استراتيجيات وأسلوب عمل مركز ومستمر وكبير، إنما كانت في معظم الأوقات تجتهد نسبياً في السيطرة على الوباء عند تفشيه، ولم تكن الاستعدادات الموجودة حينذاك تتبع الرعاية والتخطيط المدروس للسيطرة على الأمراض المعدية قبل حدوثها، ولم يكن هناك تطعيمات أساسية إجبارية، إنما كانت التلقيحات إذا وجدت لمن يبحث عنها، ويحرص على أخذها، ولا يوجد لتلك المستوصفات والمراكز الصحية أو المستشفيات المحدودة أي عناية أو اهتمامات بالبيئة أو صحة المياه.
والعاملون في القطاع الصحي خلال العقود الأخيرة من القرن الهجري الماضي يواجهون صعوبات كثيرة، كانعدام أو ضعف وسائل النقل، ووعورة الطرق، وقلة أو ضعف الإمكانات المساندة كالمقرات أو الأبنية المناسبة، والكهرباء، والمياه، والاتصالات، والتجهيزات الصحية، ووسائل الإسعاف. وإذا كانت الخدمات الطبية بدأت من خمسينيات القرن (14هـ/20م)، إلا أنها أخذت عقوداً حتى تحسنت نوعاً ما ، وعند بدايات هذا القرن(15هـ/20م) أصبحت الرعاية الصحية العامة والخاصة تسير نحو التطور في شتى المجالات الطبية .
(*) ومعرفتي ومشاهدتي لجزئيات متعددة من تاريخ الصحة الحديثة في جنوب المملكة العربية السعودية جعلني أوثق بعض الصور العامة لهذا الميدان الحضاري الحديث والمعاصر من تسعينيات القرن الهجري الماضي إلى الآن ( 1447 هـ/2025 م)، وهي على النحو الآتي:
بدأت حياتي التعليمية المبكرة في النماص، ورأيت مستوصفاً وحيداً في بلدة النماص، وطاقمه البشري لا يتجاوز الشخصين أو الثلاثة، أحدهم الطبيب المسؤول والمشرف على المركز، ولا أعرف في الثمانينيات من القرن الهجري الماضي مركزاً صحيًّا آخر في السروات الممتدة من بلاد بلقرن وشمران شمالاً إلى بلَّسمر وبلّحمر جنوباً .
وشاهدت من بعد عام (1385هـ/1965م) بعض الأطباء الذين يأتون من أبها إلى مدارس النماص الابتدائية، والمتوسطة لتطعيم الطلاب من بعض الأمراض المعدية كالسل، والحصبة، والملاريا وغيرها. وذكر لي أن مثل تلك الخدمات الصحية كانت منتشرة في العديد من مدن وقرى وبلدان السراة وتهامة خلال العقدين الأخيرين من القرن الهجري الماضي.
انتقلت إلى أبها في منتصف تسعينيات القرن(14هـ/20م)، وزرت العديد من المدن والنواحي في منطقة عسير، وجازان، ونجران، والباحة خلال العقدين الأوليين من هذا القرن (15هـ/20م)، ورأيت العديد من المستشفيات المدنية الحديثة في الكثير من المدن الرئيسية بالمحافظات الجنوبية السعودية، ويعمل فيها العديد من الأطباء والفنيين والموظفين.
وبعض تلك المستشفيات مجهزة بالكثير من الأجهزة والمعدات الطبية لخدمة المرضى في التحاليل والعمليات والفحوصات الطبية المتعددة. ولم تخلو حواضر المناطق الرئيسية من مراكز ومستوصفات وأحياناً مستشفيات أهلية. ومعظم الطبيبات والأطباء والفنيين من بلدان عربية وإسلامية وأحياناً أجنبية.
وجود إدارات عسكرية أمنية ودفاعية في تهامة والسراة، وقد اجتهدت وزارتي الدفاع والداخلية على إنشاء مراكز صحية ثم مستشفيات مخصصة لخدمة منسوبي القطاعات العسكرية. ورأيت مدينتي الطائف وخميس مشيط من أفضل بلدان السروات وتهامة التي أنشئ فيها مستشفيات عسكرية مجهزة بالأيدي العاملة الجيدة من الأطباء، والممرضات والممرضين والفنيين في مجالات صحية عديدة.
وزرت بعض مستشفيات خميس مشيط والطائف في أعوام عديدة من العقدين الأولين من هذا القرن(15هـ/20م)، وشاهدت مقرات عمرانية حكومية كبيرة متعددة المرافق والأغراض الطبية، ورأيت فيها الكثير من الطبيبات والأطباء العرب والأجانب، بالإضافة إلى التجهيزات والخدمات الطبية المتنوعة. ويوجد مراكز صحية عديدة في عسير، وجازان، ونجران، والباحة لخدمة منسوبي وزارة الداخلية، لكنها ليست في مستوى المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الخاصة بوزارة الدفاع .
إن للتعليم الجامعي الذي أنشئ في مدينة أبها عام(1396هـ/1976م) دوراً رياديًّا في تطوير معظم مجالات الحياة في مناطق عسير، وجازان، ونجران وغيرها. فكان تأسيس كلية الطب في بداية هذا القرن في سروات عسير، وتحديداً في حاضرة أبها خطوة مباركة لتطوير الحياة الصحية في جنوب البلاد السعودية.
وعملت طالباً ثم أستاذاً في فرع جامعة الملك سعود في أبها، وعاصرت الكثير من المنجزات الطبية التي قامت عليها ورعتها تلك الكلية الطبية الرائدة وشاهدت وعرفت عشرات الأساتذة المميزين الذين كانوا يدرسون ويعملون في تلك الكلية، وتخرج فيها مئات الطالبات والطلاب خلال العشرين سنة الأولى من تاريخها (1401ــ1420هـ/ 1981ــ1999م)، وقد نشرت دراسة علمية تفصيلية عن هذه الكلية منذ نشأتها إلى أربعينيات هذا القرن (15هـ/21م) .
ودراسة الآثار الإيجابية طبيًّا ومعرفيًّا وصحيًّا لتلك الكلية ليس على مجتمع منطقة أبها أو عسير، بل جميع بلدان السروات وتهامة، وعلى بعض مدن ومناطق وحواضر أخرى في المملكة العربية السعودية، يُعد من الموضوعات البحثية الجديدة التي لم تُدرس في هيئة كتاب أو رسالة علمية جامعية، آمل أن نرى باحثاً جاداً يقوم بخدمة هذا الموضوع الجدير بالاهتمام بحثيًّا وتحليليًّا.
انتشرت الكثير من الكليات، والمراكز، والمستشفيات التخصصية في مدن عديدة من تهامة والسراة، مثل مراكز طب الأسنان الحكومية ثم الخاصة التجارية. والكليات الصحية التابعة لوزارة الصحة، وتدرس العديد من العلوم الطبية: كالمختبرات، والأشعة، وطب الأسرة، والعلاج الطبيعي، والتمريض وغيرها، ومستشفيات الصحة النفسية، ومستشفيات الأمراض الصدرية ومراكز أخرى عديدة للطب الشرعي، ومركز مرضى السكري، ومراكز القلب، والتأهيل الطبي وغيرها من الإدارات والقطاعات الطبية التي بدأت مبكراً في الطائف، ثم مدينتي أبها، وخميس مشيط، ثم حواضر أخرى في جازان، ونجران، والباحة.
حصلت على بعض التقارير والسجلات والإحصائيات عن مستشفيات في منطقة عسير، مثل مستشفى عسير المركزي الذي بدأ العمل فيه عام (1403هـ/1983م)، وكان تشغيله التجريبي عام (1408هـ/1988م). ومستشفى الصحة النفسية في مدينة أبها الذي افتتح عام (1407هـ/1987م). ومستشفى الأمراض الصدرية والحميات الذي بدأ العمل فيه عام (1388هـ/1968م) تحت مسمى مصحة أبها لعلاج حالات الأمراض السارية )..
ثم تغير الاسم إلى مستشفى العزل بأبها، ثم تحول اسمه إلى مستشفى الأمراض الصدرية والحميات بأبها، واستمر يؤدي عمله حتى ألغي عام (1414ــ1415هـ)، ووضع مكانه بين مدينتي أبها وخميس مشيط كلية العلوم الصحية للبنين. ومستشفى النساء والولادة الذي حل محل مستشفى أبها العام بعد افتتاح مستشفى عسير، ثم نقل إلى مقره الجديد على طريق المحالة.
وجمعت أيضاً بعض المذكرات والمعلومات والوثائق والصور الفوتوغرافية عن مستشفيات خميس مشيط، وسمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في بيشة، والنماص، وسبت العلايا، وسراة عبيدة، ورجال ألمع، وبارق، والمجاردة، وأحد رفيدة وغيرها. واتضح لي من خلال هذا المسح الصحي السريع أن العشرين سنة الأولى من هذا القرن(15هـ/20م) كانت مباركة لكثرة ما افتتح من المستشفيات والمستوصفات ومراكز الرعاية الأولية في جميع مناطق تهامة والسراة.
(*) إذا درسنا التطور التاريخي الصحي في مناطق جنوب المملكة من العشرينيات إلى أربعينيات هذا القرن (15هـ/21م)، فإننا نجد قفزات طبية كبيرة في شتى الجوانب. وفي الصفحات التالية أذكر شيئاً من هذه النهضة الحضارية التهامية والسروية.
أ – بعد تأسيس جامعة الملك خالد جرى تطوير التعليم العالي في مناطق عسير، وجازان، ونجران حتى صار في هذه البلدان أربع جامعات وفي كل جامعة عدد من الكليات الصحية، (طب عام، وطب أسنان، وصيدلة، وعلوم طبية تطبيقية)، والوضع نفسه حصل في مناطق الباحة، والطائف، والليث، والقنفذة من خلال جامعات أم القرى، والطائف والباحة.
وهذه المؤسسات الطبية في أرجاء تهامة والسراة خدمت الحياة الصحية في مجالات كثيرة تعليمية، وتدريبية، وعلاجية. وتوظيفية، بالإضافة إلى عقد الكثير من اللقاءات، والندوات، والمؤتمرات المحلية والإقليمية والعالمية. وصدر عن هذه الكليات وأقسامها وأساتذتها وطلابها مئات الدراسات الطبية في ميادين بحثية عديدة. ناهيك عن الوعي الثقافي الصحي الذي انتشر بين الناس.
وإذا تعمقنا في جهود هذه المؤسسات الجامعية وما نتج عنها من فوائد على المستوى المحلي والوطني فسنجد أشياء إيجابية كثيرة تحققت خلال العقدين الأخيرين(1426 – 1446هـ 2005 – 2024م). ونلاحظ إنشاء العديد من المستشفيات الجامعية ومراكز الخدمات الطبية التي ترعاها وتشرف عليها الكليات الصحية في هذه الجامعات المحلية.
ب ــ زرت معظم الكليات الصحية في جامعات السروات وتهامة خلال ثلاثينيات هذا القرن (15هـ/20م)، ورأيت ضمن مرافقها المعمارية الكثيرة من الأجهزة الطبية المتقدمة، بالإضافة إلى مكتبات رقمية، ومختبرات طبية مدعومة بأفضل المواد والمعدات الصحية. وشاهدت معظم أعضاء هيئة التدريس من السعوديين..
وأكثرهم تخرجوا في كلية الطب بفرع جامعة الملك سعود في أبها (1401ــ1420هـ/ 1981ــ1999م)، ثم واصلوا دراساتهم العليا في عدد من دول العالم الغربي والشرقي، وهم حالياً يتولون الإدارة والقيادة والإشراف على الكليات الطبية في الباحة، وبيشة، وجازان، ونجران.
ج ــ جمعت الكثير من التقارير السنوية لجامعات السروات وتهامة، واطلعت على التطور الكيفي والكمي لكل جامعة من حيث أعداد الطالبات والطلاب، لجميع المراحل(البكالوريوس، والدبلومات، والماجستير، والدكتوراه)، وأعضاء هيئة التدريس السعوديين وغير السعوديين، وقرأت كيف بدأت كل جامعة وكانت أعداد المتعاقدات والمتعاقدين فيها الأكثرية، وفي عامي ( 1445 – 1446هـ / 2023 – 2024م) ارتفعت نسبة السعوديين في الكليات الصحية وبخاصة في جامعة الملك خالد حتى صارت بعض الأقسام مخدومة بنسبة (70ــ90%) من الكوادر الوطنية..
ومازال هناك أقسام طبية في بعض الجامعات مثل جازان، ونجران، وبيشة، والباحة ونسبة المتعاقدين فيها تزيد عن (60ــ80%). أما المرافق الطبية العمرانية فأوضاعها في الوقت الحاضر جيدة جداً مقارنة بفترة العشرينيات من هذا القرن، والموظفات والموظفون في عام (1445/ 2023م) جميعهم سعوديات وسعوديين ماعدا بعض الإدارات والمراكز والوحدات الفنية والتقنية فأعداد المتعاقدين فيها عالية.
ونجد أعداداً كثيرة من المبتعثات والمبتعثين في أقسام صحية متعددة يدرسون دراساتهم العليا في دول عربية، وإسلامية، وأجنبية كثيرة، ولكل كلية صحية أنشطة علمية متنوعة من محاضرات عامة، وندوات ومؤتمرات محلية وإقليمية وعالمية، بالإضافة إلى أوراق بحثية تخصصية متنوعة منشورة في مجلات عربية وأجنبية. والكثير من الجامعات والكليات الصحية التهامية والسروية عقدت تعاون وشراكات مع مؤسسات حكومية وأهلية في المملكة العربية السعودية ، وبعضها وقعت اتفاقيات مع جامعات ومؤسسات علمية ومعرفية عربية وإسلامية وأجنبية.
د – إذا بحثنا عن ميزانيات الجامعات المحلية منذ نشأتها إلى الآن، نجدالكليات والأقسام الطبية في ميزانية كل جامعة قد حظيت بالنصيب الأوفر من الخدمات التي يعود أثرها على مسارات التعليم والتدريب والإشراف والمتابعات الصحية المتعددة. وعرفت مؤخراً أن بعض الكليات والأقسام الصحية حصلت على تقييمات واعتمادات أكاديمية إقليمية وعالمية.
ومن يزور جميع المستشفيات الحكومية والأهلية، ومراكز الرعاية الصحية، وبعض المستوصفات الأهلية في حواضر الطائف، والليث، والقنفذة. ومناطق عسير، والباحة، وجازان، ونجران فسيجد لأساتذة وطلاب الكليات الصحية وجود عملي وعلمي كبير وبخاصة في الحواضر الرئيسية القريبة من مقرات الجامعات الأم، مثل: مدن أبها، وخميس مشيط، والباحة، وبيشة، ومدينتي جازان ونجران.
ومن يدرس ريادة وإبداعات بعض أساتذة كليات الطب في المنطقة الجنوبية السعودية فسيجد أعداداً كثيرة منهم برعوا في تخصصاتهم ليس على مستوى السروات وتهامة، ومنهم من فاقت سمعته العلمية أرجاء الوطن وامتدت إلى بلدان عربية وإسلامية وأجنبية عديدة، وتشير بعض الإحصائيات إلى تفوق بعض الطالبات والطلاب أو الأساتذة الذين حصلوا على جوائز إقليمية وعالمية في بعض منجزاتهم واختراعاتهم العلمية والطبية.
هـ – لا ننسى جهود وزارات الصحة، والداخلية، والدفاع، والحرس الوطني فلها أعمالاً كثيرة ومتنوعة في خدمة الحياة الصحية في المملكة العربية السعودية. والوزارات العسكرية (الدفاع ، والداخلية، والحرس الوطني) طورت منظومتها الصحية ابتداءً من مدينة الرياض العاصمة..
ثم امتدت جهودها إلى جميع مناطق المملكة التي يوجد فيها مستشفيات وخدمات صحية تابعة لهذه الوزارة، ولم تتوانى في تقديم الكثير من الرعاية والخدمات الطبية المتنوعة لمنسوبي هذه المؤسسات وجميع أفراد أسرهم، وفي بلاد تهامة والسروات إدارات طبية كثيرة تابعة لهذه القطاعات العسكرية، ولها تاريخ واسع ومتشعب في الخدمات الصحية.
و – اجتهدت وزارة الصحة في أداء أعمالها الطبية منذ كانت مديرية في مكة المكرمة إلى أن صارت وزارة كبيرة تشرف على الحياة الصحية في أرجاء البلاد. ومن يتابع جهودها في مناطق السروات وتهامة يجد أنها لم تدخر جهداً في تقديم الكثير من الخدمات ابتداءً بالطبابات والمراكز الصحية القليلة والمحدودة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن (14هـ/20م) إلى أن صار عندها عشرات المستشفيات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في أنحاء البلاد، ناهيك عن مراكز الرعاية الصحية المنتشرة في كل مدينة، وحاضرة، وقرية، وريف، وبادية.
كذلك النقاط الصحية، ثم المستوصفات، ومؤخراً المستشفيات الخاصة الموجودة في كل مكان من السروات وتهامة وبخاصة المدن الكبيرة والمتوسطة. وإذا بحثنا في الإحصائيات المادية والبشرية التي حظيت بها القطاعات الصحية الحكومية والأهلية التي تشرف عليها وزارة الصحة فإننا سنجد تطوراً هائلاَ شمل جميع مفاصل هذا القطاع الحيوي المهم، وتعد العشرين سنة الأخيرة ( 1426 – 1446هـ / 2005 – 2024م )العصر الذهبي لنهوض وتطور وتنوع الخدمات الطبية التابعة لوزارة الصحة في أرجاء المملكة العربية السعودية .
ز – تجولت في السروات وتهامة خلال الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن 15هـ / 21 ن)، ورأيت الكثير من الطبيبات والأطباء، والفنيين والمتخصصين الصحيين السعوديين الذين درسوا في كليات طب أو علوم طبية تطبيقية سعودية وغير سعودية وأصبحوا هم الذين يقودون مسيرة الحياة الصحية في أوطانهم ومناطقهم.
وشاهدت مئات الصيدليات الحكومية والتجارية المنتشرة في كل ناحية من مناطق تهامة والسراة، ومحلات تجارية أخرى كثيرة متخصصة في مجالات طبية متنوعة مثل نظارات العيون، ومحلات تجميلية، ومواد طبية وأطراف صناعية وغيرها من الأغراض والمهن الصحية. وبعض هذه الخدمات موجودة من تسعينيات القرن الهجري الماضي إلى نهاية العقد الثاني من هذا القرن (15هـ/20م)، لكنها كانت محدودة في المدن الكبيرة ، أما اليوم فصارت في كل مكان من البلاد، ومازالت تزداد انتشاراً وتطوراً كميًّا وكيفيًّا .
ح – دخلت خدمات الإنترنت والتقنية الحديثة في كل شيء في حياة الناس. والقطاعات الصحية من الميادين التي استفادت كثيراً من عالم التقنية. وشاهدت جميع المؤسسات الطبية التوعوية، والتعليمية، والخدماتية، والعلاجية، والفنية، والإدارية والمالية، والإشرافية وغيرها في مناطق السراة وتهامة نجحت في توظيف المجال التقني في أعمالها، وهذا مما جعلها تزدهر وتتطور في ميادين صحية كثيرة خلال العشرين سنة الأخيرة، وسوف نرى في قادم الأيام تطورات أوسع وأكثر وأفضل في العدد والنوع والجودة .


















التعليقات