اولاً – الألغاز والأحاجي : 1 – الألغاز : ضرب من ضروب الغموض والالتواء وعدم الوضوح. ومفردها لغز، ويذكر اللغز في الشعر والنثر، وينقسم إلى قسمين:
أ – الألغاز المعنوية : يشار فيها الموصوف بذكر صفات الشيء. ويعرف باسم اللغز الوصفي أو البسيط. والألغاز الأدبية واللغوية، والرياضية، والشرعية الفقهية تعد من الألغاز المعنوية، وتعرف أيضاً بالفنية .
ب – الألغاز اللفظية : الإشارة إلى الموصوف من خلال مفردات، أو عبارات تحتوي على اسم الموصوف، أو بعض أجزائه أو حروفه، ويحدث ذلك بالتصحيف، أو الحذف، أو القلب والتبديل.
2- الأحاجي: جمع أحجية، مشتقة من الحجا، أي العقل والفطنة والإدراك. والأحاجي نوع من الألعاب الفكرية القائمة على الحدس والظن، وتعتبر من الموضوعات المبهمة والغامضة، وقريبة إلى حد ما من الألغاز.
والأحاجي والألغاز فنون علمية ومعرفية عُرفت عند الحضارات القديمة ( الإغريقية، والفرعونية، والفارسية، والهندية، والصينية وغيرها ). كما عرفها العرب ومارسوها في حياتهم العامة والخاصة. وبعد ظهور الإسلام وانتشاره استمرت الألغاز والأحاجي سارية في المجتمعات العربية والإسلامية.
ونجد الكثير من علماء المسلمين الأوائل وبخاصة أصحاب اللغة والأدب والتاريخ قد ألفوا في فنون الأحاجي والألغاز مؤلفات كثيرة، كلية أو جزئية، وبعضهم أسهبوا الحديث في تعريفها، وذكر الكثير من أنواعها، وأهدافها، ومناسباتها.
والألغاز والأحاجي من أقدم أشكال الأدب التراثي، وتشبه الأمثال الشعبية في سردها وصياغتها. وتتنوع الألغاز في أساليبها وتركيباتها اللغوية باختلاف البيئات والشعوب التي تمارسها. وكانت الأحاجي والألغاز في العصر الإسلامي المبكر والوسيط تكتب وتروى باللغة العربية الفصحى خالية من اللحن والتحريف.
وفي القرون المتأخرة صارت الألغاز والأحاجي تكتب وتقال باللهجات العامية، ونجد جلال الدين السيوطي من أهل القرنين (9ــ10هـ/15ــ16م) يُعرف الألغاز في كتابه: الطراز في الألغاز، فيذكر أنها عدة أنواع: ألغاز قصدها العرب، وألغاز قصدتها أئمة اللغة، ونوع ثالث لم تقصد العرب الألغاز بها إنما قالتها فصادفت أن تكون ألغازاً، وأحياناً تكون لغزاً من حيث المعنى، وعرف هذا النوع باسم ( أبيات المعاني) لأنها تحتاج إلى أن يُسأل عن معانيها، ولا تفهم من أول وهلة، أو تكون ألغازاً من حيث اللفظ والتركيب والإعراب.
والجزيرة العربية مهد اللغة العربية قبل الإسلام وبعده. والباحث في مصادر اليمن والحجاز المبكرة سيجد الكثير من الألغاز والأحاجي المدونة في كتب التاريخ، والفقه، والشعر، واللغة والأدب والتراجم والطبقات. ولا تخلو مجتمعات شبه الجزيرة العربية من روايات وأشعار عربية وشعبية (مكتوبة، وشفهية) يتخللها استعارات وكنايات وأمثال تشتمل على ألغاز وأحاجي متنوعة.
معظم الألغاز والأحاجي في العصر الحديث والمعاصر شعبية، ولها العديد من المسميات، وتختلف أحياناً معاني وأسماء كلمة (لغز) حسب البيئة أو الناحية أو البلد، أو المنطقة. والاختلاف يشمل أيضاً مفهوم الأحجية أو اللغز. ومدلوله اللغوي. لكن مفردة (لغز) الكلمة المشهورة والمتداولة بشكل واسع في البلاد العربية وبعض الإسلامية لسلاسة لفظها، ودقة مفهومها. وهناك تسميات أخرى متعارف عليها بعضها عربية فصيحة، وأخرى عامية، نسمعها في أمكنة عديدة من بلدان الشرق الأوسط.
ومن تلك الاصطلاحات اللغوية: الحزورة أو الفزورة، أو الحجي، أو الغطاوي وغيرها. وفي المملكة العربية السعودية نجد لفظة (لغز) هي المتعارف عليها. والأحاجي تعرف أيضاً بالحجايا، أو الفوازير، أو (الغبايا)، ومن الناس من يستخدم مصطلح (أحاجي) أو (الأحاجي). والحجي تعني الأحجية من حجى، ويُقصد بذلك الظن في الشيء الذي لا يُستيقن معرفته وصحته. والأحاجي من الكلام المغلق وغير المفهوم من أول سماعه والاصغاء إليه .
والأحاجي والألغاز وإن اختلفت في الألفاظ والكلمات والمعاني فإنها جميعها تدور حول أمر واحد، ألا وهو الإخفاء والتمويه والسؤال والغموض. وغالباً تقال في صيغة سؤال بطريقة خفية ومستمرة حتى لا يستطيع المستمع التوصل إلى الإجابة بسهولة، بل يحتاج إلى عصر الذهن والتفكير والمعرفة والتمعن في الكلمات ومعانيها ودلالاتها اللفظية واللغوية.
والأوطان التهامية والسروية جزء من البلاد العربية التي عرفت الأحاجي والألغاز وانتشرت بين فئات المجتمع بجميع طبقاته. ومن يبحث في بعض المصادر الإسلامية المبكرة والوسيطة التي أرخت لبلدان نجران، وعسير، وجازان، وغامد وزهران، والطائف فسوف يجد بعض الشذرات القليلة في هذا الباب. وإذا بحثنا في الموضوع نفسه في العصر الحديث والمعاصر نجد المادة العلمية الموثقة كثيرة ومتنوعة.
(*) في الصفحات التالية أدون لمحات من تاريخ السرويين والتهاميين الاجتماعي خلال العصر الحديث والمعاصروبخاصة في حياتهم الاجتماعية الترفيهية الترويحية، وتحديداً موضوع الأحاجي والألغاز:
كانت القبيلة العربية صاحبة الحل والربط في بلادها خلال العصر الإسلامي حتى منتصف القرن (14هـ/20م). ولا ننكر أن الديار السروية والتهامية عرفت بعض الإمارات المحلية من بدايات القرن (13هـ/18م)، وجاء العثمانيون فحكموا البلاد حوالي خمسة عقود (1289ــ1337هـ/ 1872ــ1919م).
وهذا التشكيل السياسي أوجد في المجتمع الكثير من الحراك التاريخي الحضاري بسبب الأحداث السياسية، والحروب العسكرية والقبلية والعشائرية، ومن يبحث في الكتب المطبوعة والمنشورة، والوثائق والمدونات والسجلات التاريخية التي تعود إلى ذلك العصر فسوف يجد الكثير من تراث الألغاز والأحاجي غير المكتوبة والموثقة التي بعضها جاءت من الأجيال السابقة، أو الموروث الأدبي والمعرفي العربي الفصيح والعامي المدون داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها.
ولو بحثنا عن حياة الناس العامة في مدنهم، وقراهم، وبواديهم السروية والتهامية (السهلية والساحلية) فإننا سنجد شيئاً من الأحجية والألغاز المحلية. ومن يدرس تاريخ القبيلة في جنوب الجزيرة العربية حتى منتصف القرن(14هـ /20م) يجد أن لها الكثير من الأنظمة والقواعد والأشعار والألعاب والأهازيج المروية أو المكتوبة.
وكانت كل عشيرة أو قبيلة منطوية على نفسها في ديارها، ولها صلات وتحالفات مع غيرها، وفي الوقت نفسه تخوض صراعات ومشاكل مع بعض القبائل والعشائر المجاورة، ولا تخلو داخل حدودها من مشاكل محلية عديدة ومتنوعة. ومن يدرس أوضاع كل ناحية أو قبيلة يجد لها تراث محلي له صلة بفن الأحاجي والألغاز.
جمعت بعض المصادر والمراجع النثرية والأدبية الشعرية التي وثقت شيئاً من تاريخ وحضارة جازان، ونجران، وعسير ، والباحة ، والطائف ، والقنفذة وغيرها خلال القرون الثلاثة الماضية (12ـــ14هـ/18ــــ20م) ، فوجدت فيها مواد علمية متنوعة، منها بعض الأشعار والقصص الأدبية الفصيحة والشعبية، ويتخللها الكثير من الأحاجي والألغاز التي كان يكتبها مؤلفو تلك الكتب، بعضها موجهة إلى بعض الأمراء ورجال الإدارة والسياسة داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها..
وأخرى رسائل إخوانية في قوالب علمية أدبية، وألوان أخرى ثقافية وفكرية وعلمية وغيرها. وجلست خلال العقود الأخيرة من القرن (14هـ/20م) في مجالس اجتماعية عديدة (رسمية وأهلية) وسمعت من يروي أشعار شعبية وقصص نثرية سمعها من الآباء والأجداد، وهم سمعوها من أجيال ورواة سابقين لعصرهم. والملاحظ أن هذا النوع من التراث الشفهي لا يخلو من ألغاز وأحاجي تكثر فيها الاستعارات والكنايات، والغموض في ألفاظها ومعانيها.
توحدت المملكة العربية السعودية، وبذل القائمون على جمع شتاتها والسير بأرضها وأهلها نحو الاستقرار والنماء، وأنشئت مؤسسات الدولة المختلفة التي أشرفت على تطوير الأرض والإنسان. والسروات وتهامة من أوائل البلدان التي حظيت بهذه المكرمات، وأدرك ولاة الأمر أن هذا الجزء من الدولة الحديثة (المملكة العربية السعودية) غني جداً. بموروثه الحضاري الجغرافي والبشري، والمادي والمعنوي. ومن يدرس تاريخ التنمية الحضارية الحديثة في أرجاء المملكة عموماً، وفي السراة وتهامة خصوصاً يجد أنها شملت جميع قطاعات الحياة.
(*) وفي العناصر التالية أنوه إلى بعض الأمور التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالأحاجي والألغاز في البلاد التهامية والسروية، في عصر الدولة السعودية الحديثة ، وأوردها على النحو الآتي:
الألغاز والأحاجي موجودة كجزء من حياة عامة الناس وخاصتهم من قديم الزمان، لكنها كانت محدودة في بيئاتها الاجتماعية الصغيرة، وإن انتشرت في البلاد فكان انتشارها محدوداً، لكثرة الصراعات القبلية المحلية، وعدم وجود الأمن، لكن بعد توحيد البلاد بدأ الناس المحليين يتصلون بغيرهم داخل بلادهم وخارجهم، وجاءت عناصر بشرية اجتماعية أخرى كثيرة من داخل المملكة وخارجها، ولأهداف متنوعة إلى مناطق عسير، ونجران، وجازان، والباحة، والليث، والطائف، وتربة وغيرها. وهذه الشرائح المجتمعية أوجدت بيئة معرفية واجتماعية وثقافية واسعة، تولد عنها تقارب العلوم والمعارف. وتوسعت قاعدة الألغاز والأحاجي في أرجاء البلاد.
الباحث في المسيرة العلمية والتعليمية والثقافية التي عاشها التهاميون والسرويون من عام (1350ـ 1400هـ/1931ـ1980م) يجد حياة نهضوية بامتياز، فأنشئت المدارس الحكومية، وجلبت لها الكوادر البشرية الجيدة من داخل المملكة وخارجها، وتزامن مع ذلك زيادة الوعي والثقافة بين الناس، وكثرة أنواع المعرفة، من كتب دراسية وعلمية وثقافية، وجرائد ومجلات، ووسائل أعلام أخرى كالراديو والرائي(التلفاز).
وظهرت ثم تزايدت المجالس العلمية والاجتماعية المختلفة، وصار هناك اجتماعات ولقاءات وندوات ومحاضرات ومؤتمرات جميعها تصب في تطور الحياة العلمية والثقافية الحضارية. وهذا بدون شك أثر في نمط حياة الناس، فتعلموا ثقافات أخرى، وتبادلوا مع غيرهم فنون معرفية مختلفة مثل الأحاجي والألغاز.
جاء هذا القرن(15هـ/20ـ21م)وكثرت أساليب ومجالات التنمية الحديثة، وتكاثرت العناصر البشرية الوافدة، وزادت وتوسعت أهداف وغايات وأسفار الإنسان التهامي والسروي (ذكوراً وإناثاً). وتزايدت وتطورت وسائل المواصلات والاتصالات التقنية والاجتماعية. وأنشئت المعاهد، والكليات، ثم الجامعات المحلية.
وتنوعت الأنشطة المجتمعية العامة والخاصة، الأهلية والرسمية، وأصبحنا نشاهد الكثير من الأحاجي والألغاز التي لم تكن معروفة من قبل، وصارت تقدم على شاشة الرائي(التلفاز)، أو في وسائل التواصل الحديثة المتعددة، أو من خلال أنشطة المدارس، والكليات، والمهرجانات الاجتماعية والثقافية المتنوعة.
الذي شاهدته في مدن وقرى وبوادي السروات وتهامة من ثمانينيات القرن (14هـ/20م)، أن جميع أفراد المجتمع كانوا في كدح وكد طوال ساعات النهار، حتى وقت العشاء، وأحياناً يمتد الوقت ببعضهم قليلاً فتراهم يقضون وقتاً للسمر داخل البيت، أو قريباً منه. ومن ضمن برامجهم ممارسة بعض الألعاب العضلية أو الفكرية التي لا تخلو من فوازير وألغاز وأحاجي شعبية.
ورأيت مثل هذه الأنشطة مع الرعاة، أو الفتيات والشباب الذين يتشاركون في بعض الألعاب قريباً من منازلهم، أو مزارعهم، أو أثناء ممارسة أنشطة أخرى مختلفة. ولم يكن لديهم وسائل أخرى تشغلهم كما نشاهد اليوم مع تعدد قنوات الرائي(التلفاز)،وظهور وسائل التواصل الرقمية المتنوعة التي أهدرت معظم أوقات الناس.
رأيت خلال الخمسين سنة الماضية الأخيرة بعض الأنشطة التي تعرض في التلفزيون، أو تكتب في المجلات والجرائد، أو بعض الوسائل الإعلامية والثقافية الأخرى، أو في المدارس والكليات الجامعية الرسمية والأهلية، ومنها مسابقات فوازير، أو أحاجي وألغاز، وتعقد بين الأفراد، أو فرق وتوزع عليهم جوائز مادية أو عينية.
وأحياناً تكون مادة الفوازير مقتبسة من دراسات وكتب قديمة وحديثة، وبعضها من الأحاجي والألغاز المحلية داخل المملكة العربية السعودية. وفي العقدين الماضيين الأخيرين أصبحنا نرى طرقاً أخرى جديدة مع فنون الأحاجي والفوازير وغيرها، بعضها ألعاب عن طريق الأجهزة الإلكترونية، أو ألغاز وفوازير وتعرض بالإشارة أو الرسومات والصور الفوتوغرافية، وغيرها من الطرق الحديثة.
التقيت خلال العقود الماضية (1404-1446هـ/ 1984-2024 م) ببعض فئات المجتمع النجراني، والعسيري، والجازاني. ومنهم سعوديون، وأجناس أخرى مصرية، وسودانية، ويمنية، وبعض المجموعات من بلدان آسيوية وإفريقية. وكانوا أصحاب وظائف ومهن عديدة، ففيهم من يعمل في قطاعات تعليمية، وصحية، واقتصادية حكومية وأهلية، وآخرين في حرف عديدة بالأسواق الشعبية واليومية، وبالمدن الصناعية، وفي مهن الزراعة، والرعي، والبناء والتشييد وغيرها، واتضح لي تباين ثقافاتهم ولهجاتهم.
ورأيت لهم جلسات مرح ونشاطات اجتماعية عديدة ومنها ممارسة بعض الألعاب الحسابية، والألفاظ والعبارات اللغوية التي لا تخلو من الغاز واختبارات تعتمد على العقل والفطنة والتفكير. وهذا النوع من التاريخ الإنسان الحديث والمعاصر منتشر بين الأسر والأفراد والجماعات في أنحاء البلاد التهامية والسروية، ومازلنا نسمعه ونراه مشافهة، ولا نجد عنه بحوث علمية جادة. ولا نعذر الأقسام المتخصصة في جامعاتنا المحلية، فالواجب عليها دعم وتشجيع مثل هذه الموضوعات الجديدة التي تعكس جزئيات من تاريخ السكان وأحوالهم الحضارية.
ثانيا – الطرائف والنكت : النكت: مفردها نكتة .والطرائف: مفردها طرفة. والنادرة ( النوادر)، أو الفكاهة، أو الدعابة، أو المزح (المزحة). جميعها مفردات نقيض الجد. وهي أي شيء من قول أو فعل يراد به المباسطة والضحك وإدخال السرور على نفس قائلها وسامعها بشرط أن لا تفضي إلى أذى، وإذا تجاوزت إلى هذا الحد فقد تتحول إلى تحقير وسخرية. والطرفة نوع من أنواع الأدب الشعبي الذي يمكن تقديمه كتابيًّا أو شفويًّا.
والنكت (الطرائف) قديمة جداً، واختلف الباحثون في بداياتها، فمنهم من أعاد نشأتها إلى عصر الإغريق، وآخرون أرجعوا بدايتها إلى الحضارة السومرية التي ظهرت في العراق قبل الميلاد بحوالي عشرين قرناً، وآراء أخرى اختلفت مع القولين السابقين. واستمرت مع جميع شعوب الأرض فوجدنا ذكرها عند الروم والفرس والعرب قبل الإسلام .ومن يبحث في مصادر التراث العربي والإسلامي المبكر والوسيط (ق1ــ ق11هـ/ق7ــ ق17م)، فسيجد تفصيلات كثيرة عن النوادر والطرف، وأماكن انتشارها، وأعلامها وأنواعها.
نجد الدين الإسلامي يدعو إلى الوسطية والاعتدال في كل شيء ومن ذلك الدعابة أو المزح، وممارسة الضحك والفكاهة. وكان الرسول (ﷺ) يمزح، فقد قال له الصحابة (رضوان الله عليهم) إنك تداعبنا! قال (عليه الصلاة والسلام «إني لا أقول إلا حقاً «. وقال أيضاً «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له». ويدعو الهدي النبوي إلى الابتسامة والمزاح الصادق والتودد للناس..
وفي الحديث الشريف «تبسمك في وجه أخيك صدقة». وعُرف في صدر الإسلام الأدب الفكاهي، ثم ظهر في عصور الإسلام التالية الكثير من الظرفاء، والأدباء، والشعراء الذين كانوا يجالسون الأمراء، والوزراء، والخلفاء، مثل جحا، وأشعب، وأبودلامة، وأبونواس وغيرهم .ونجد في شعر بعض الشعراء الكبار، كالحطيئة، وجرير، والفرزدق، والمتنبي وغيرهم بعض أشعار الهجاء المختلطة بأسلوب السخرية القريب إلى سخرية الطرفة ( النكتة ) .
ظهر العديد من علماء المسلمين الأوائل الذين ألفوا الرسائل والكتب الكثيرة في فن النوادر والفكاهة، مثل: الجاحظ، في كتابه (البخلاء) وفي بعض مؤلفاته الأخرى، والأصفهاني في كتاب الأغاني. وكتاب(التطفيل وحكاية الطفيليين ونوادرهم وأخبارهم، للخطيب البغدادي).
وكتاب (يتيمة الدهر، لأبي منصور الثعالبي). وجمع الجواهر في الملح والنوادر، لأبي إسحاق الحصري. وكتب (أخبار الظرفاء والمتماجنين، وأخبار الحمقى والمغفلين، والأذكياء، وعيون الحكايات، واللطائف وغيرها لجمال الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي). والمستطرف في كل فن مستظرف، لشهاب الدين الأبشيهي، وغيرهم.
واصلت الطرائف والفكاهة رحلتها في العالم العربي والإسلامي خلال العصر الحديث، وتوسعت موضوعاتها وطرق ممارستها. والظروف السياسية والحضارية أثرت بشكل جوهري في حياة الناس، وكان لتواصل بلدان العالمين العربي والإسلامي مع بعضهم، ومع غيرهم من الأمم النصرانية، واليهودية، والفارسية، والصينية، وغيرها وما تعيشه من معتقدات وثقافات تأثيرات كثيرة على حياة الفكاهة والطرائف وغيرها من الجوانب الترفيهية الجادة والهزلية في أوطان المسلمين وبخاصة البلدان العربية.
توسعت وتنوعت حياة البشر الحضارية من بدايات القرن (14هـ/19م) إلى وقتنا الحاضر(1447هـ/ 2025م))، وللاحتلال الغربي والشرقي الذي امتد إلى البلاد العربية آثار مادية ومعنوية متعددة الوجوه. واللغة والأدب والثقافة والتعليم من أكثر المجالات التي سادها تغيرات كثيرة. وإذا حصرنا حديثنا على مجال الحياة الفكاهية والنوادر والدعابة، فإننا نجد خليطاً كبيراً من هذا الأدب الشعبي، وأصبحت كل ناحية في كل وطن عربي لها أنماط معينة من هذا الفن المعرفي، ولا تخلو من التشابهات والاختلافات فيما بينها.
والملاحظ انتشار النكتة في مختلف وسائل التواصل الرقمية الاجتماعية في العالم العربي والإسلامي والأجنبي. ويبدو أنها ثورة أو ردة فعل على ما يحدث في المجتمعات من أحداث سياسية وعسكرية. وتعتبر النكت السياسية متصدرة لما تحتوي عليه من خصوبة معلوماتية، وماله صلة بالجوانب الإنسانية الأخرى ( الاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية الثقافية والمعرفية، والتقنية وغيرها).
والكثير من الطرائف التي نقرأها ونشاهدها في وقتنا الحاضر تشبه (الكاريكاتير) إلى حد كبير، حيث تقدم في قوالب طريفة تهدف إلى إثارة ضحك المستمع أو القارئ، من أجل التخفيف والتنفيس من وطأة الأخبار والأحداث المحيطة به والمنتشرة في كل مكان.
شبه الجزيرة العربية جزء من هذا العالم الكبير، عاش أهلها في النصف الأول من القرن الهجري الماضي حياة متنوعة في أحوالهم الإنسانية، والحضارية. ومارسوا أنواع كثيرة من مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والصلاتية. وجاء النصف الثاني من القرن نفسه، وتشكلت الأوضاع السياسية والحضارية مع ظهور دول حديثة وعصرية. وكانت الحكومة السعودية الحديثة أكبرها، وأكثرها اتساعاً وتأثيراً على الأرض والناس، وتولد فيها الكثير من المظاهر الأدبية والثقافية والحضارية والمادية والمعنوية .
(*) تهامة والسراة مليئة بأصناف الثقافات والحضارات القديمة والحديثة، وامتاز إنسانها بالتنوع في طبيعة أرضه، وفكره، ولهجاته، وحزنه وفرحه، وفي وسائل الترفيه عن نفسه. وفي الفقرات التالية أوثق لمحات من تاريخه الفكاهي خلال القرن الهجري الماضي، وهذا القرن (15هـ/20ـ21م) .
لا نجد الكثير من المادة العلمية المدروسة والموثقة عن الطرائف والفكاهة عند التهاميين والسرويين، وهذا لا يعني أنه لم يكن عندهم شيء من ذلك. فأرضهم بجميع ظروفها الجغرافية موطن الأصالة العربية في شتى الميادين. ناهيك عن الأحداث السياسية والحضارية المتنوعة التي عاشتها البلاد خلال العصر الحديث (ق12ــ ق14هـ/ق18ــق20م)، ورصدت الكثير من السجلات والوثائق والمصادر والمراجع صفحات كثيرة من تاريخها السياسي والعسكري، وجزئيات من حياتها الحضارية.
وإذا بحثنا في التراث الموجود نجد إشارات من الطرائف متعددة الأغراض والأهداف في بعض النصوص التاريخية والأدبية (الشعرية والنثرية). ونسمع في الكثير من المجالس الاجتماعية العامة والخاصة بعض القصص والنوادر الشعبية التي عرفها وعاصرها إنسان هذه البلاد خلال القرنين الهجريين الماضيين(13ــ14هـ/19ــ20م)
وصل العثمانيون إلى أرض تهامة والسراة، وحكموا جبالها وسهولها وبواديها، وأسسوا قواعد إدارية عسكرية في بعض حواضرها. وجرت حروب عديدة بين الجيوش العثمانية والقبائل المحلية، ونشأت حياة حضارية متنوعة المجالات، واللغة والثقافة والنوادر والطرائف أحد الميادين المعنوية التي عرفها ومارسها الإنسان السروي والتهامي مع بني جلدته، ومع الأجناس البشرية التي جاءت إلى البلاد في مجموعات سياسية وتاريخية متنوعة.
جاء إلى جنوب البلاد السعودية في النصف الثاني من القرن(14هـ/20م)، عناصر بشرية أخرى بعضها من ديار نجد، والحجاز، وأخرى من أوطان عربية وإسلامية وأجنبية، وتفاوتت تواريخ عيشهم وإقامتهم في بلدان تهامة والسراة، لكنهم عملوا في أعمال وحرف عديدة، وجلبوا معهم فنون ومعارف وثقافات فأثروا وتأثروا.
وقرأت وعاصرت صوراً تاريخية متنوعة في مناطق غامد وزهران، وسروات وتهامة منطقة عسير، وجازان، وسمعت ورأيت من كان يروي القصص الشعبية التي يتخللها الكثير من النوادر والنكت الاجتماعية، وبعضها جاءت مع الحجازيين والنجديين، أو مع المعلمات والمعلمين المتعاقدين الذين جاءوا من بلاد الشام، ومصر، والعراق، والسودان وغيرها. وفي العقود الأخيرة من القرن الماضي زادت أعداد الأيدي المهنية الخارجية. ولكل صنف من أولئك ثقافات وألوان من المزاح والطرائف المختلفة.
كان في أرض السروات وتهامة طلبة علم وبيوتات تعلم وتعليم خلال القرن الهجري الماضي، بعضهم ارتحلوا في طلب العلم داخل البلاد وخارجها. ومنذ خمسينيات القرن نفسه أنشئت المدارس ثم المعاهد والكليات، وزادت نسبة العلم والتنوير المعرفي، وجُلبت مصادر التعليم المختلفة، وهذه التحولات زادت نسبة الوعي والثقافة، ونتج عن ذلك حراك حضاري ثقافي في حياة الناس العامة والخاصة..
وكان للفكاهة والمرح نصيب بين جميع شرائح المجتمع. فمن يدرس أوضاع الطبقة العليا من الأمراء ورجال الدولة يجد لهم طرائفهم وأوقات متنوعة للمزاح والتسلية، كذلك عامة السكان من البوادي، والقرى والأرياف في السروات، والسهول والسواحل التهامية، لهم أيضاً طرق عديدة ورصيد من النكت والنوادر.
رأيت أثناء التعليم العام في سراة وتهامة عسير خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن (14هـ /20م) أنشطة رياضية، وثقافية، وترفيهية كانت تعقد في بعض المدارس، أو التجمعات المحلية، ويقدم فيها أنواع من النشاطات الاجتماعية التي يغلب عليها التسلية والترفيه، ويتخلل بعض فقراتها مسابقات ثقافية، منها مقتطفات فكاهية، ونوادر عربية وشعبية. وشريحة المعلمين والمثقفين هم من يرتب لهذه المناشط ويشرف عليها، ويشترك فيها الطلاب وبعض الحاضرين من الجمهور. ولا تخلو مدارس البنات ومعاهدهن من نشاطات مشابهة.
عشت جزءاً من بداية حياتي في البوادي والقرى والأرياف، ثم انتقلت إلى المدن، وسافرت داخل المملكة وخارجها خلال العقد الأخير من القرن(14هـ/20م)، والعقد الأول من القرن الحالي. وشاهدت وشاركت في العديد من الأنشطة الاجتماعية التي كانت تعقدها المدارس والكليات التي درست فيها، وجلست في مئات المجالس الاجتماعية، الأسرية، والقبلية، والمدرسية، والجامعية، وتجمعات أخرى كبيرة وصغيرة، أو عامة وخاصة، وعرفت وسمعت في هذه اللقاءات أنواع كثيرة من المزاح والطرائف التي قالها السرويون والتهاميون، بعضها نابعة من تراث بيئاتهم المختلفة، وأخرى رواها آخرين ولها صلة بالمجتمعات السعودية، ولا تخلو مناطق تهامة والسراة من تلك النوادر الشعبية.
واكب هذا القرن(15هـ/20ـ21م) طفرة حضارية متنوعة، واختلفت حياة الناس كثيراً عما كانت عليه أجيال القرن(14هــ/19ـ20م)، وحياة التمدن والتطور الصناعي والتقني الحديث والمعاصر ساهم كثيراً في سرعة التحولات في معظم مفاصل الحياة، وتزايدت التداخلات الحضارية المحلية والإقليمية والعالمية، ووقع الكثير من الأحداث السياسية والعسكرية، والاقتصادية، والصحية، والاجتماعية، والفنية التقنية وغيرها.
وهذه التبدلات خلقت الكثير من الإيجابيات والسلبيات في حياة الفرد، والأفراد، والمجتمعات، والحضارات الحديثة والمعاصرة، وأصبحنا نسمع ونشاهد على مدار الساعة كم هائل من الثقافات، ومنها أساليب المزاح، والطرائف، وأحياناً السخرية وغيرها من الأفعال والأقوال التي تُقدم في هيئة مادة مكتوبة، أو مروية، وأحياناً تدعم بالصوت والصورة.
وإذا قارنا تاريخ الفكاهة والطرائف في العشرين سنة الأخيرة (1425ــ1446هـ/2004ــ2024م) مع ما سبقها من العقود والقرون الماضية فسوف نجد البون الشاسع على ما حدث من تطورات وانفتاح فضائي عالمي خلال العقدين أخيرين. والنكتة والطرائف مازالت سارية ومتداولة بقوة بين جميع الشرائح في بلاد السراة وتهامة، أو في أي ناحية من بلدان شبه الجزيرة العربية، أو أي جزء جغرافي وبشري في العالم.
لم تعد الطرائف والنادرة اليوم بنفس المستوى الذي كانت عليه في العصور الإسلامية الوسيطة، أو حتى في القرون الماضية المتأخرة، لما جرى عليها من تبدلات سلبية في اللفظ، والأهداف والمعاني. وبالرغم من أن النكتة فن أدبي وثقافي في أي زمان ومكان، وتعتبر الطرائف ظاهرة اجتماعية تعكس جوانب عديدة من حياة الناس، لكن ينبغي على من يمارسها أو يستمع إليها أن يكونوا حذرين في صياغتها وتلقيها.
فبعض أساليب المزاح والدعابة عند المسلمين تتعارض مع منهج القرآن الكريم والسنة النبوية، ويكون لها تأثيرات غير جيدة على المبادئ والقيم والعادات، وفي الناس من لا يدرك الأهداف البعيدة أو السيئة لها، ففي ظاهرها الضحك والتفكه والتسلية، لكن تحمل في طياتها جوانب ضارة وسلبية على الثقافة والمعتقدات والثوابت الإسلامية والحضارية.
وإذا كانت الطرائف، أو الطرفة غير هادفة وتعالج قضية ما، ومكتوبة أو مروية بألفاظ لائقة، وإلا ستترك انطباعات وآثار سيئة في المجتمع أو المجتمعات التي تستمع إليها، وتنتشر على أرضها.
وصل الله وسلم على الرسول الكريم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام .
التعليقات
تعليق واحد على "نبذة عن الألغاز والأحاجي، والطرائف والنكت في تهامة والسراة خلال العصر الحديث – بقلم : أ . د . غيثان بن علي بن جريس"
مقال قيم يقف على جانب مهم من جوانب الأدب العربي…