في الأسبوع الماضي، تحدثنا عن كيفية تعامل الأفراد والأسرة مع ارتفاع الأسعار من منظور المستهلكين، بعنوان «كيف نتعامل مع ارتفاع الأسعار؟»، وبما أن النظام الاقتصادي متعدد، والمستهلكون ليسوا إلا عنصرا من عناصر مكونات الإدارة الاقتصادية، فإن السياسات المالية والنقدية تمثل الطرف الآخر، أي إن صناع السياسات الاقتصادية هم المعنيون بالسياسات النقدية والمالية والسياسات الاقتصادية الأخرى، كالسياسات التجارية والضريبية وغيرها من أدوات إدارة نمو الاقتصاد ومعالجة اعتلالاته.
إن حالات التضخم inflation والانكماش deflation تتسبب في مشكلات اقتصادية محتملة وحرجة وتختلف من اقتصاد إلى آخر، مثل: ارتفاع عبء خدمة الديون، وتراجع الإنفاق الحكومي، وفي نهاية المطاف معدلات بطالة أعلى. العالم يعاني حالة تضخم متعددة الأسباب والمستويات، وفي الوقت نفسه التأثير يختلف من بلد إلى آخر بحسب ظروف كل دولة، غير أن جذر التضخم الأساس منذ 2020 يرجع إلى اختلال جانبي العرض والطلب السلعي سواء بسبب سلاسل الإمداد أو الأزمة الروسية الأوكرانية التي أثرت في الغذاء والطاقة، إضافة إلى اختلال مستوى حجم العرض النقدي من الدولار داخل الاقتصاد الأمريكي والناتج من سياسات التسهيل الكمي المفرطة وما عقبها من أثر انسحابي لرفع سعر الفائدة وما تبعها من تأثيرات في الاقتصاد العالمي، ولا سيما في الدول الهشة اقتصاديا.
الحكومات في الأغلب تفضل السياسات النقدية، ولا سيما في الدول المتقدمة، أما الدول الناشئة فالسياسات المالية تعد خيارها الأفضل إذا ما كانت الحكومة نشطة في منافسة القطاع الخاص مثل الصين، وعلى الرغم من المزج بين السياسات النقدية والمالية، إلا أن كل دولة تختلف بحسب نموذجها الاقتصادي. ليست هناك وصفة ملائمة تعالج التضخم والانكماش الحالي في كل الدول، لكن العودة إلى الأسس وفهم ميكانيكية الطلب الكلي Aggregate Demand لكل دولة على حدة ومعالجة اختلال كل عنصر بمزيج من السياسات الاقتصادية وغير الاقتصادية، تسهم في التعامل معهما. تتكون عناصر الطلب الكلي من المعادلة الشهيرة التالية، إنفاق المستهلكين C، الإنفاق الاستثماري الخاص I، إنفاق الحكومة G، حجم الصادرات إلى الواردات عبر طرح حجم الصادرات من الواردات، وتمثل بـالصيغة التالي AD=C+I+G+(X-M)
مؤثرات الطلب الحالية ناتجة في الأساس من عوامل غير اقتصادية، مثل: كورونا، والأزمة الروسية، واختلال سلاسل الإمداد، وهنا تكمن أهمية بناء استراتيجية مزدوجة تعتمد على الأدوات التي نعرفها كاقتصاديين، مثل السياسات النقدية والمالية والتجارية والضريبية للتخفيف أو للحد من المؤثرات على الطلب، أي من خلال مزيج من السياسات لكل عنصر من عناصر معادلة الطلب الكلي، وسياسات أخرى غير اقتصادية تعالج العوامل نفسها غير الاقتصادية التي كانت سببا في نشوء ذلك الاختلال، إضافة إلى التركيز على النمو الذي يقوده المستهلك والحد من أي مؤثرات على عجز الحساب الجاري، لأن التضخم في الدول النامية في الأغلب ناتج من أزمات خارجية مع وجود ضعف هيكلي في كل عنصر من معادلة الطلب الكلي..
سؤال المقال لا يزال قائما، عن أدوات وخيارات الحكومات في السيطرة على ارتفاع الأسعار، هناك ثلاث طرق أساسية في ترويض التضخم، وسنتحدث اليوم عن أول تلك الطرق. نظام ضبط الأسعار price control، وقد تبناه نيكسون، ويعد من أدوات التدخل المباشرة في الاقتصاد وتعطيل قوى السوق مؤقتا، أي أنه تقييد تنظيمي للأسعار من الحكومة للسلع الاستهلاكية الأساسية في الأسواق الحرة مثل الوقود والطعام والإيجارات، وفي الأغلب يستخدم هذا النموذج في أوقات الحروب والكوارث والأزمات الاقتصادية، كما يستخدم في فترات الإصلاح التنافسي مثل تقييد الإيجارات حتى زيادة معروض الوحدات السكنية، وتم تطبيق rent ceiling للإيجارات بعد الحرب العالمية في مدينة نيويورك أو بسبب خلل السياسات الاقتصادية.
هناك أسلوبان في ضبط الأسعار، أولا، الحد الأدنى للسعر Price Floor ولا يعد السعر مقبولا إذا انخفض عن هذا المعدل ويستخدم لحماية الأسواق، ومن تطبيقاته دعم المنتجين والحد الأدنى للأجور ومنع حروب الأسعار بين الشركات في التجارة الداخلية، وتسعير السلع المضرة بالصحة مثل التبغ دون ضريبة، ويسمى هذا النوع دعم الأسعار price support بشرط أن يكون أعلى من سعر التوازن. ثانيا، أسلوب التسعير بسقف سعري ويسمى Price Ceiling يستخدم لحماية المستهلكين ويحد من انخفاض القيمة الحقيقية للأجور المكتسبة عن أسعار السلع ويقلص من التلاعب بالأسعار في فترات التضخم المفرط، لكن يؤدي إلى مشكلات على المدى الطويل وخسائر للمنتجين وانخفاض الجودة أو انحسار المكاسب القصوى بسبب تقييد السلوك الطبيعي للأسواق الحرة، لذا مفيد على المدى القصير، وكما يقال لكل سياسة حكومية رابحون وخاسرون.
ففي صيف 1971، الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون جمد الأسعار والأجور في جميع الولايات، للسيطرة على ارتفاع الأسعار، واعتمد قرار نيكسون على قانون الاستقرار الاقتصادي 1970 لتثبيت الأسعار والإيجارات وأجور العمل وأسعار الفائدة والأرباح والتحويلات، فالتضخم في تلك المرحلة كان تضخما ركوديا ولم يكن مشهورا هذا النوع وكان يسمى التضخم المصحوب بالركود، وهو ناتج عن الآثار السابقة لحرب فيتنام وأزمة الطاقة وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وانخفاض عدد القوى العاملة، وبموجب قانون الاستقرار الاقتصادي أنشأ وكالة مستقلة بمسمى مجلس تكلفة المعيشة، وتم تنفيذ البرامج على أربع مراحل، في المرحلة الأولى جمد الأسعار والأجور لمدة 90 يوما شملت مراقبة ممارسة الأعمال، أما المرحلة الثانية كلف مجلس تكلفة المعيشة بمراقبة الأسعار ومتابعتها، وفي المرحلة الثالثة تم فرض تجميد للأسعار بطرق انتقائية على المدخلات الضرورية في بعض الضروريات وبشكل انتقائي مثل أعلاف الحيوانات التي هي مدخلات إنتاج اللحوم والدواجن والحليب، والمرحلة الرابعة والأخيرة وهي مرحلة الامتثال الاختياري من القطاع الخاص ثم الإلغاء التدريجي للسيطرة على الأسعار price control بنهاية 1974. ومن اللافت في برنامج مكافحة التضخم، أن نيكسون كان يدرك مخاطر هذا الأسلوب بحسب خطاباته.
الأسلوب الثاني للتحكم في التضخم عبر السياسات النقدية. وقبل البدء، علينا توضيح الفرق بين ارتفاع الأسعار والتضخم، نمو الأسعار أمر طبيعي بسبب ميكانيكية عمل الأموال الحديثة، لذا نمو الأسعار مع الزمن وعلى فترات زمنية متباعدة نسبيا لا يعد تضخما، التضخم هو صعود جماعي للأسعار في الوقت نفسه، بمعنى آخر، التضخم هو سرعة وتيرة تراجع القوة الشرائية لأموال المستهلكين، وارتفاع الأسعار في فترات زمنية قصيرة بطريقة يشعر بها الناس. الأسلوب الأكثر شهرة بين الدول للسيطرة على التضخم مهما كانت أسبابه، سحب الأموال من الأسواق والناس عبر رفع سعر الفائدة، أي رفع تكلفة القروض على المستهلكين والشركات، ويشار إليه بالسياسة النقدية الانكماشية، وهذا يقلص تدفق الأموال من البنوك إلى الاقتصاد، وبالتالي يتراجع الطلب نتيجة لتراجع حجم الأموال. كما أن البنوك المركزية تؤثر في أسعار الفائدة من خلال تغيير حجم ونسب الاحتياطي للبنوك Reserve، وهي نسب من أموال لا يسمح بإقراضها.
بمعنى آخر، إن هذه الأموال المحتجزة في البنوك بأمر البنك المركزي هدفها تقليل تدفق الأموال إلى الاقتصاد، وبالتالي تؤدي إلى تراجع التضخم. أما النوع الآخر من السياسات النقدية، ويعرف بعمليات السوق المفتوحة، وتتدخل البنوك المركزية فيها عبر اتفاقيات إعادة الشراء “الريبو” واتفاقيات إعادة الشراء العكسي “الريبو العكسي”، والفرق بينهما أن الريبو خاص بمعدل الفوائد على البنوك التجارية عند اقتراضها من البنك المركزي، أما الريبو العكسي فهو معدل الفائدة التي يدفعها البنك المركزي للمصارف عند الاحتفاظ بأموال المصارف لديه، وهي طريقة لتقليص حجم الأموال في المصارف، أي إن تجارة النقود التي كانت بين البنوك التجارية والأفراد والشركات سيذهب جزء منها إلى تجارة مغلقة ـ إن صح التعبير ـ بين البنوك التجارية والبنك المركزي عندما يرتفع سعر الريبو العكسي بمعدلات أعلى، لأن البنوك ستكسب مزيدا من الأموال عندما تضع جزءا من أموالها لدى البنك المركزي بدلا من إقراضها للشركات والأفراد، ونتيجة لذلك تتناقص الأموال الزائدة من الأسواق وتتراجع الأسعار تبعا لذلك، ولا تلجأ المصارف إلى الاقتراض من البنوك المركزية إلا عندما تكون هناك مشكلة كبيرة في التدفق النقدي للبنك، وبدلا من ذلك يتم الاعتماد على ما يعرف بـ”السايبور”،
أي اقتراض المصارف من بعضها دون اللجوء إلى البنك المركزي، إلا أن البنك المركزي السعودي – على سبيل المثال – يتدخل ويعزز سيولة المصارف عندما يرتفع السايبور، للمحافظة على إقراض القطاع الخاص والأفراد اعتمادا على تجارة النقود بين البنوك التجارية، وتحقيق ما يعرف بالهبوط الناعم soft-landing وهي محاولة لخفض التضخم وتجنب الانكماش والصدمات. وفي نهاية المطاف، وعلى الرغم من أهمية السياسات النقدية إلا أن أدواتها للتحكم في أنواع معينة من التضخم لا تزال غير فاعلة، وتأثرها مفرط في التلاعب بالنقد كمستودع للقيمة، إضافة إلى مشكلات اختلال العرض النقدي مع الناتج الحقيقي…
السياسات المالية وعلى مدى الـ40 عاما الماضية تم استخدامها مع السياسات النقدية بطريقة مزدوجة بعد تحطم المدرسة الكلاسيكية للاقتصاد الكلي القائمة على عدم التدخل، ومن أبزر تطبيقات السياسة المالية، الإنفاق الحكومي العام والاجتماعي والضرائب وإدارة الاقتصاد بالتدخل، وهي سياسات فاعلة في مواجهة التقلبات الدورية، بما فيها ترويض التضخم ومعالجة اختلالات النمو والركود، لأن السياسات المالية لها قدرة على معاكسة الدورات الاقتصادية، وإنفاق الحكومة من أهم أفكار جون كينز، بما في ذلك تدخل الحكومة في إدارة الاقتصاد، وتحولت لاحقا إلى ما يعرف بالنظرة الكينزية، أي التدخل والإنفاق الحكومي لتخطي مشكلات الركود أو الكساد. أثناء فترات الركود تخفض الحكومات ضرائبها، وفي الازدهار تقلص الإنفاق وتزيد الضرائب إذا ما كان هناك حاجة، وعلى الرغم من ذلك لا تعد قاعدة مطردة في السيطرة على التضخم وإدارة النمو، لأنها محكومة بمستوى التنمية، وبكفاءة التجارة الداخلية وتناسب عدد المتنافسين مع حجم السوق، وخلو الأسواق من الاختلالات مثل الاحتكار والتنظيم الخفي من الشركات للأسواق، إضافة إلى ظروف القطاع العائلي والبطالة والمساكن ومدى توازن اقتصاد الحكومة مع القطاعين الخاص والعائلي. السياسات المالية في واقعها العملي ما هي إلا تركيبة واسعة من الإنفاق الحكومي والإيرادات الحكومية والتحكم في إدارة عجز الميزانية والدين الحكومي وانضباطها المالي من أجل تحقيق استقرار اقتصادي كلي، لذا السياسات المالية في نظر الاقتصاديين من الأدوات التي تخفف من صدمتي التضخم inflation والانكماش deflation.
السياسات النقدية تمثل قرارات البنوك المركزية المستقلة عن السياسيين والبرلمانات، أي أنها مستقلة عن الحكومة ولا يسمح بالتدخل في قراراتها، في مقابل أن السياسات المالية تشير إلى قرارات الحكومة وآراء البرلمانات في الإنفاق والضرائب، وفي الأغلب يقودها وزراء المالية ويسمح بتدخل الجميع في نقاشات السياسات المالية، لذا فإن جزءا كبيرا من أزمة الضغوط التضخمية في أمريكا ناتجة من تدخل السياسيين في السياسات النقدية، كفرط التسهيل الكمي لتحقيق أهداف انتخابية لبايدن، أي أنها لم تكن أهدافا اقتصادية عبر الضغط على الفيدرالي الأمريكي لزيادة المعروض النقدي الذي أدى – بطبيعة الحالة – إلى تسارع معدلات التضخم بعد الأزمة الروسية – الأوكرانية المفاجئة. إذا ما كانت السياسات النقدية فاعلة على المدى القصير لمحاربة التضخم، فإن السياسات المالية فاعلة على المدى الأطول وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنموي، ولا سيما عندما تكون الحكومة مسؤولة عن نسبة كبيرة من الإنفاق والتوظيف وزيادة معدلات المتنافسين للسيطرة على التضخم وزيادة عدد الوظائف في القطاعين العام والخاص.
في الختام، شدة التضخم العالمي الحالية ناتجة من مزيج تلاعب بالسياسات الاقتصادية وكسر قواعدها والأزمات الجيوسياسية، لذا ليس أمام صناع السياسات الاقتصادية سوى إدارة الاقتصاد وفق أسس قطاعية والجمع بين السياسات النقدية والمالية والتجارية والتنموية وسياسات الديون وتوزيع الدخل والثروات في المجتمع، والتحكم بالأسعار – إذا لزم الأمر – في الأزمات، ووضع خطط تفتيت الطلب المكبوت بطرق استباقية.
التعليقات