الأربعاء ١٤ مايو ٢٠٢٥ الموافق ١٧ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

مسؤولية الشعوب – حرب الهوية – مقال أ. محمد بن الشيبه الشهري

مسؤولية الشعوب – حرب الهوية – مقال أ. محمد بن الشيبه الشهري

 

قد يظن المنسلخ عن هويته الإسلامية أنه قد أصبح مستقلا عندما تخلّى عن ثوبه ولبس ثوب غيره، وهو في الحقيقة لم يزد على أن صار تابعا حقيرا لثقافة لا تمثل حاضره ولا تاريخه ولا مستقبله، وسيبقى ذليلا بين أقوام لا يبدأ حديثه معهم إلا بتقديم قرابين التخلي عن دينه ووطنه وحضارته.

جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه” قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: “فمن”.

إنه نذير الحسرة من نبي الأمة ﷺ الذي يخبرنا بأن ثمّة من سيستبدل الأدنى بالذي هو خير، يستبدل هويته التي شكّلتها شريعة الإسلام على الفطرة السليمة بهوية مشوهة عبثت بها العقول السقيمة. إنه شعور الألم من نبينا ﷺ بأن الأمة السامية الشامخة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) سيهبط فئام منها إلى مستنقع التبعية والذلّ لأراذل الأمم.

ومازال النبي ﷺ يُشعل فينا جذوة التمسك بهويتنا الإسلامية العظيمة مرة بعد مرة، ويحذّرنا من التشبه بغيرها كما قال ﷺ ” من تشبه بقوم فهو منهم” إلا أن أقواما ابتعدوا عن دين الله تعالى وفهم مقاصده حتى طمس الله على قلوبهم فأصبحوا أداة تحارب الأمة الإسلامية من الداخل، أجسادهم أجسادنا وقلبوهم قلوب أعدائنا، وقد قال ﷺ كما جاء عند الطبراني بسند ثابت : “ليأتينَّ على الناس زمانٌ تكون فيه القلوب قلوب الأعاجم” يعني من أعداء الله من اليهود والنصارى،

وما ذاك منهم إلا هروبا من أحكام الشريعة الإسلامية إلى انفلات الثقافات الأخرى في الدين والأخلاق، وما مبرراتهم لمهاجمة دينهم وتاريخهم وحضارتهم إلا زعمهم بأن دول الكفر لم تتقدم إلا بالابتعاد عن أديانها، مقارنين بذلك دين الله العظيم الكامل الشامل الحق الذي جعله خاتما وناسخا لكل الأديان؛ بأديان أخرى نقض أهلها مواثيقهم مع الله، وحرّفوا كلامه، وخانوا الله وأنبياءه، وعبدوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله، وتسلّطوا على البشر بالخرافة والدجل والكهانة والاستعباد، واستبدلوا أحكام الله تعالى بأحكام شرّعتها أهواؤهم وشهواتهم حتى انسلخت فطرهم الإنسانية فأصبحوا كالبهائم بل أضل.

قد يظن المنسلخ عن هويته الإسلامية أنه قد أصبح مستقلا عندما تخلّى عن ثوبه ولبس ثوب غيره، وهو في الحقيقة لم يزد على أن صار تابعا حقيرا لثقافة لا تمثل حاضره ولا تاريخه ولا مستقبله، وسيبقى ذليلا بين أقوام لا يبدأ حديثه معهم إلا بتقديم قرابين التخلي عن دينه ووطنه وحضارته في واقع مهين نراه بأعيننا في من يسمون أنفسهم “باليبراليين” وهم في الحقيقة “منسلخين” لا يظهر منهم إلا الهجوم على الدين ومناهج وعلماء الشريعة والمؤسسات الدينية، ومثلهم أيضا زمرة المتسكعين في دول الغرب الصليبي القابعين بين ظهرانيهم والهاربين إليهم ممن يستفتحون حياتهم هناك بالإلحاد وشرب الخمر وأكل الخنزير والتعرّي والانخراط في شبكات معادية لدينهم ووطنهم، وما ذاك إلا مبلغهم من هذا الانسلاخ عن دينهم وحضارتهم.

إن الحضارة التي تَنكّر لها مسلوبو الهوية هي التي صنعت حضارة اليوم وتخلّفُ المسلمين فيها عن ميدان الصناعة والتقدم والعلوم سببه أنفسهم وليس منهجهم، ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى ذلك وجود أمثال هؤلاء المنهزمين بينهم كجرثومة خبيثة تحارب مواطن العزة فيها، وتستقصد تأخيرها، وتفرح بتبعيّتها، فلا هم دفعوا أوطانهم للتقدّم، ولا كفّوا أذاهم عنهم، بل جاوزا ذلك إلى أن أصبحوا خُدّاما لدول أخرى يودّون لو استجلبوا أديانهم وأخلاقهم الفاسدة لبلاد المسلمين ولو على ظهر دبابة حربية أو قذيفة مدفعية.

الحضارة السامية التي هذّبت الشعوب والثقافات التي دخلت تحت لوائها بمختلف أعراقهم ولغاتهم، ولاقحت بين أفهامهم وأفكارهم، وأطلقت العنان لإبداعاتهم وابتكاراتهم وفق منظومة القيم الإسلامية السمحة، التي تحفّز على العمل والتجديد والإبداع، وتحفظ الدين والأخلاق والقيم، في الوقت الذي كان فيه العلماء في أوروبا يواجهون القتل والترهيب من قساوسة الكنائس بتهم الهرطقة!!

الحضارة الإسلامية العظيمة التي تستمد سيرها من ربانية مصدرها، الشاملة لجميع جوانب حياة الإنسان في دينه ودنياه، والقائمة على التسامح والعدل والرحمة والمساواة، وتوازن علاقة الإنسان الدينية والدنيوية، المراعية لحق الفرد والمجتمع وتكامل أدوار البشر؛ فلا تضاد بين راع ورعيته ووالد وولده وزوج وزوجه، في نظام متوازن بديع يعجز العقل البشري القاصر إلى الوصول إلى مثله.  

الحضارة الإسلامية العظيمة التي نقلت العلوم المختلفة من النظر إلى التطبيق، في تنافس كبير بين خلفاء هذه الحضارة وأمرائها على رعاية العلم والعلماء وتشجيعهم، وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات والمرافق المختلفة، فأبدع العلماء المسلمين في مجالات شتى غير علوم الشريعة والعربية، فتميزوا في الطب والبيطرة والرياضيات والزراعة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا والفلك والزخرفة والملاحة والطيران، والكثير من الفنون المختلفة في مجالات عديدة، حفّزهم إلى ذلك البيئة العلمية المهيأة، وانتشار العلم والعلماء، والاعتزاز بالهوية الإسلامية الراقية على كل الأمم، التي جعلت منهم قامات سامقة، ولم تجعل منهم منهزمين تابعين أذلاء لغيرهم.

لقد بدأ الإسلام بشخص واحد، وهو اليوم يُشكّل ثلث العالم، ومازال انتشاره سريعا فاعلا في الشرق والغرب، ومنذ أن بُعث النبي ﷺ والإسلام يهذّب ويطوّر البشرية ويتمم مكارم الأخلاق، ويحارب الجاهلية والفساد في كل زمان ومكان، ومازال كذلك قرنا بعد قرن حتى تربّع على عرش العالم جغرافيا وثقافيا وعلميا في جميع المجالات، وامتد ملكه من حدود الصين إلى أوروبا، وانتشل أقواما من الحضيض، كان الماء لا يمس أجسادهم في كل عام إلا مرة أو مرتين إلى أن أصبحوا أشخاصا بارزين محترمين نظيفين يعيشون في أعظم حضارة بشرية عرفها الناس إذ ذاك، وفجّرت فيهم الطاقات العلمية ومكامن الرقي والإبداع والنبوغ.

نعم حكموا قريبا من ثلث العالم بالدين والأخلاق والأدب والعلم والفضيلة لا بالتعري والخمور والشذوذ وانتشار الفواحش المنكرات وانتكاس الفِطر.

حكموا العالم وشكّلوا أكبر حضارة علمية عرفها التاريخ إلى وقتهم، واستفاد منها الإنسان والحيوان والنبات والجماد، والتي هي أصل للتقدم العلمي الذي يعيشه العالم اليوم، فقد امتد الإسلام إلى ديار شاسعة حاملا معه النظام الإنساني المتكامل الذي يضمن صلاح الإنسان في حياته الدنيا ويدله على طريق الجنة في الآخرة، وصدق الله تعالى إذ يقول ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) وكل من يفكر عبثا بأن يفصل حاضر الأمة عن تاريخها وموروثها الذي قامت عليه فهو إما جاهل، أو مهزوم ذليل باع نفسه وعقله وتاريخه وحضارته لمن لن يرضى عنه أبدا حتى يكون على ما هو عليه تماما، كما قال تعالى ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ولن يُصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها، كما قال الإمام مالك رحمه الله.

ونحن في هذا الوقت الذي نشتكي فيه من نكوص بعض المسلمين عن دينهم أو تفريطهم فيه أو انسلاخهم عن هويتهم نُذكّر بأن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، كما ذكر ذلك النبي ﷺ، وبشّر هؤلاء الغرباء بطوبى التي تنتظرهم يوم القيامة عندما يُزفَّون إلى جنة عرضها السموات والأرض غير مبدلين ولا مغيرين، أجر الواحد منهم كأجر خمسين من الصحابة إكراما لهم وعاقبة حميدة على صبرهم وثباتهم، وما ذاك إلا بفضل الله تعالى عليهم ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )

وكم والله يسعد الإنسان بثباته، وينشرح صدره، وتزداد سعادته في كل موقف يثبت فيه على دين الله ولو كان ثباته كقبضه على الجمر، كيف لا والنبي ﷺ حدثنا بأنه سيأتي زمان على أمته القابض على دينه كالقابض على الجمر وستنقضي أيام العمر سريعا، ونراها عند دنو الأجل كأنها ساعات قليلة مضت فليت شعري مالذي قدمناه لحياتنا الحقيقية في الآخرة قبل أن نقول ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ).

فهنيئا لمن قضاها في كنف شرع الله تعالى، مستمسكا مستقيما على دينه القويم، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ).

 

  

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *