.
ساعات طويلة نقضيها ما بين برامج ( السوشيال ميديا ) ننتقل فيما بينها واحدة تلو الأخرى .. تويتر ساعة و الـ “واتساب” ساعة ثـم “السناب” ساعة أخرى و “هلم جرا” نعيد الكرة مراراً دون كلل أو ملل، فاقدين بذلك الوقت الكثير في غالب الأحيان دون أي فائدة تذكر.. وغيرها الكثير من البرامج التي أنهكت تفكيرنا بكثرة الأخبار أحياناً .. وبالإشاعات أحياناً أخرى فضلاً عن الصور والمقاطع، ناهيك عن المهاترات والمجادلات في البعض الآخر، هذا إذا افترضنا جدلاً سلامة ذلك الوقت من الغيبة والنميمة ونقل المعاصي والمقاطع التي لا تخلو من الذنب والآثام.
وما يستوقفني في واقع الأمر حين موازنة ذلك الوقت المهدر على الـ “واتساب” حينما لم أستطع أن أصنفه هل هو تواصل فعلاً أم تقاطع، رأيت حين استخدامه الصمت المطبق في المنزل وانعدام التواصل اللفظي والنظري تماماً وأصبح التواصل بمن يشاركوني الشاشات أكثر، وأصبحت مُجبراً لتلافي ذلك بتعطيل شبكة الواي فاي في المنزل لإخراجهم من أرجاء الغرف وإجبارهم على سماع صوتي الثقيل الممزوج بتلك القصص القديمة المكررة، وهم بذلك على مضض لإستعطافي وإعادة تشغيل الشبكة مرة أخرى وهم يحابوني مجاملةً بما أقول، وإن لم يرق المقال للعديد من القراء لمرارته ولكن هذا هو الحال بكل أسف لدى الكثير وأنا ضمن تلك القائمة إن لم أكن أولها.
بل تعدى الأمر لأكثر من ذلك حين يجتمع الأقارب أو الأصدقاء في مناسبة ما، فتجد الاهتمام البالغ والتركيز العالي في الـ “واتساب” أكثر منه للحضور المحيطين به، وترى تلك الأصابع السريعة التي تكتب بسرعات فائقة لمن يتواصلون معهم في مجموعات الـ”واتساب” متناسين بذلك من حولهم والغرض الأساس من اجتماعهم، ولا أخفيكم بأني على ثقة تامة لو اجتمع ذلك الشخص مع أفراد تلك المجموعة الإلكترونية لتركهم أيضاً وذهب لغيرهم من المجموعات الأخرى متحدثاً معهم متناسياً وجودهم، ودائماً ما أكرر عبارتي لهم بأنا لو مكثنا في منازلنا وتواصلنا الإلكترونياً لكان النقاش مستفيضاً وأكثر لباقة وأفضل من مقابلتنا أجساداً بلا أذهان نظراً لعدم سماعنا كلاماً أو رؤيتنا ابتسامةً على محياهم، ولاتعكس ذلك اقتصادياً بتوفير تلك المصاريف المالية، وفسحنا المجال لغيرنا من السيارات في الطرقات، وذلك قياساً على العديد من الاجتماعات التي على ذلك النهج تسير.
وإن رغبت في أن تزداد ألماً .. حين اتصالي بأحد الأقارب الطاعنين في السن مباركاً له وصول ابنه من خارج المنطقة لقضاء إجازته السنوية معه في محافظة النماص، مقاطعاً مباركتي بمقولته: ليته احتفظ بقيمة التذاكر ومصاريف الإجازة لنفسه ومكث في منزله وارتاح من عناء السفر فوقته بالكامل أمام شاشة جواله، أطبق الصمت وانتهى الإتصال. واعجبنتي تلك الأم التي صنعت صندوق خشبي ووضعته بجوار الباب والزمت جميع أبنائها وزوجاتهم وبناتها بوضع جوالاتهم في ذلك الصندوق حتى نهاية زيارتها التي كانت عادة في يوم الخميس وكان ذلك شرط لدخولهم منزلها الذي أصبح بهذا العمل شعلة من الحديث والتألف والبشاشة والحركة التي تنعدم بوجود جوالاتهم بايديهم .
بكل أسف.. افتقد العديد من المستخدمين أسلوب الحديث والنقاش والحوار وطرح الأفكار أو عرض قصة حدثت له وسردها لمن حوله وهذا من آثار التقاطع اللفظي والتواصل الإلكتروني إن صح التعبير، وأصبحت ترى انعكاس ذلك جلياً في العديد من أبناء الجيل الصاعد ممن نشأ وترعرع فعلاً على هذه التقنية وأصبح يهدر جل وقته مقابلاً لشاشة جواله، وأما من هم في جيلي وأكبر مني فأعتقد بأن لدينا من القصص ما أن نخبئها أفضل من أن نعرضها على الجيل الإلكتروني لاختلاف الثقافة والزمان وأصبحنا من جيل الطيبين كما يقال عنا حين استعراضها. لذلك أصبح الكثير من الناس في مفترق طرق مع عائلته ومجتمعه.. فإما الإنحراط والإنجراف خلف “السوشيال ميديا”، أو التنحي جانباً وفوات القطار ..
وجدت نفسي حيران في تصنيف هذه التقنية وموازنة الكفتين أيهما يرجح، وللقارئ مراجعة دفة الـ “واتساب”.. أللتواصل ترجح أم للتقاطع أقرب، فالموضوع ذو شجون وفيه وجهات نظر كثيرة وأصعب من اختصاره في مقالاً مقتضب من رجل بسيط مثلي، ولعلي في مقبل الأيام عبر هذا المنبر الإعلامي المتميز ( صحيفة النماص اليوم ) أغوص قليلاً في مجموعات الـ “واتساب” بما لها وما عليها.
والآن أتركم وأنا على ثقة تامة بعودتكم سريعاً لبرامجكم الإلكترونية المفضلة وتصفحها بعد أن قضيتم وقتاً لا أعلم عن مدى متعته بالنسبة لكم بعيداً عن عائلاتكم ومهامكم الحياتية في قراءة هذا المقال، وتحقيقاً لك عزيزي القارئ لما ذكرته في أول سطر من مقالي إن أسعفك الوقت للعودة إليه مجدداً وتفحصه مرة أخرى.
.
التعليقات