لقد تعلمت ولازلت أتعلم الكثير من مدرسة الصمت، إنَّه معلمٌ أخلاقيّ، يهذب النفس الإنسانية ويطوعها ويربيها على مكارم الأخلاق والسلوك، وعلى مدى التجارب الإنسانية أثبت الصمت ريادته وسُموَّه، بل وأجمع الحكماء والعُرَفاء على أنه لم يندم إنساناً صامت على صمته، لذا فإنه الخيار الأول في سلوكيات العقلاء تجاه الحماقات التي يرتكبها الإنسان تجاه الإنسان.
لقد لقيت في الصمتِ زادًا أشبع شهيتي عن مائدة الكلام، إذ لا مكاسبَ غالباً في ولوج الإنسان بلسانه فيما يعنيه وما لا يعينه، وأكسبني هذا الزاد قوةً جعلتني أتحمل الكثير من المواقف والأحداث التي مرَّتني بسلام دون أن يلج لساني فيها بخيرٍ أو شر .. تلك القناعة تأخذ بي دوماً إلى بر الأمان والسلام وجعلت قلبي يطمئن إلى ما يتَّخذه ضميري من موقفٍ صامت، في غالب الشؤون والأحوال.
لقد علمني الصمت أن له حدود، وأنني حين يبلغ الصمت منتهاه فلابد أن أقول كلمةً موجزةً مختصرة، واضحة البرهان بيِّنة الحجة جليَّة التبيان حتى يكون ختام الصمت حِكْمة!.
وعلمني أن أكتم أمري، وفي هذا خُلُقاً وعِبادة، فقد قال صلى الله علية وسلم (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) استعينوا بالصمت ففيه من العون ما يقضي حوائجكم مِصداقاً لحديث المصطفى وهَدْيه.
وعلمني أيضاً أنه أنفع رسولٍ لبقاء الود ودوام العِشرة، إذ يندحر شر الغضب مع الصمت والهَجْر في غياهب الزمن، وكذا كيد الشيطان أيضا .. ذلك لأن في الصمت بلاغة، وما على الصامت حينئذ إلا البلاغ!.
وعلمني أيضاً أن له صوتاً يُسمع، ولا يسمعه إلا مَن أنصت له، كما قال جبران خليل جبران ( إذا صمت صديقك ولم يتكلم فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه لأن الصداقة لا تحتاج إلى الألفاظ والعبارات) وقال في موضعٍ آخر ( لقد تعلمت الصمت من الثرثار ، والتساهل من المتعصِّب ، واللطف من الغليظ، والأغرب من كل هذا أنني لاأعترف بجميل هؤلاء المعلِّمين).
دروسٌ لا حصر لها، وفوائد جَمَّه لا عِداد لها، ومِن الجور أن أجمع مكارم الصمت في مقامٍ أو مقال، لكنني أجدني منصفاً حين ألفت عنياتكم إلى فضائله وأدلكم إلى موائده ومشاربه، ولكل أحدٍ منكم في الوصل إليه طرائقه.
ختاماً .. الصمتُ رِبْحٌ لا خسارة فيه، كما قال الشافعي في هذه الأبيات:
وجدْتُ سكوتي متْجراً فلزمتهُ … إِذا لم أجدْ ربحاً فلسْتُ بخاســـرِ
وما الصمتُ إِلا في الرجالِ متاجرٌ … وتاجرُهُ يعلو على كلِّ تاجرِ
التعليقات