الحمدُلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على هديه إلى يوم الدين. وبعد: فيقول النبي – صلى الله عليه وسلم :- (( إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق )).
فكأن مكارمَ الأخلاق بناء شيَّده الأنبياء، وبُعث النبي – صلى الله عليه وسلم – ليتم هذا البناء، فيكتمل صرح مكارم الأخلاق ببِعثته – صلى الله عليه وسلم – ولأن الدِّينَ بغير خُلق كمحكمة بغير قاضٍ، كذلك فإن الأخلاقَ بغير دِين عبث، والمتأمل في حال الأمَّة اليوم يجد أن أَزْمَتَها أزمةٌ أخلاقية؛ لذلك نتناول في هذه السلسلة بعضَ المفاهيم الأخلاقية، وبعضَ محاسن الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومساوئ الأخلاق التي يجبُ على المسلم أن يتخلَّى عنها.
مفهوم الأخلاق لغةً وإصطلاحًا:
الخلق لغةً : هو السَّجيَّة والطَّبع والدِّين، وهو صورة الإنسان الباطنية، أما صورة الإنسان الظاهرة فهي الخُلق؛ لذلك كان من دعاء النبيِّ – صلى الله عليه وسلم :- (( … وإهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، وأصرِفْ عني سيِّئَها، لا يصرِفُ عني سيِّئها إلا أنت ))؛[رواه مسلم]. – ويوصَفُ المرءُ بأنه حسَنُ الظاهر والباطن إذا كان حسَنَ الخَلْق والخُلُق.
– الخُلق إصطلاحًا : عبارة عن هيئة في النفس راسخةٍ تصدُرُ عنها الأفعالُ بسهولةٍ ويُسرٍ، من غير حاجة إلى فكرٍ ولا رويَّة، وهذه الهيئة إما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ محمودة، وإما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ مذمومةٌ، فإن كانت الأولى، كان الخُلُق حسَنًا، وإن كانت الثانية، كان الخُلُق سيِّئًا.
هناك فَرْقٌ بين الخُلُق والتخلُّق؛ إذ التخلُّق هو التكلُّف والتصنُّع، وهو لا يدوم طويلاً، بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلَّف لا يسمَّى خُلقًا حتى يصير عادةً وحالةً للنفس راسخةً، يصدُرُ عن صاحبِه في يُسر وسهولة؛ فالذي يصدُقُ مرة لا يوصَفُ بأن خُلقَه الصدقُ، ومن يكذِبُ مرَّةً لا يقال : إن خُلقَه الكذب، بل العبرةُ بالإستمرار في الفعل، حتى يصيرَ طابعًا عامًّا في سلوكه.
أهمية الأخلاق: أهمية الأخلاق ومكانتها في الإسلام:
يمكن تبيُّن أهمية الأخلاق في الإسلام من عدة أمور، منها :
أولاً : جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الغاية من بِعثته الدعوة للأخلاق. فقد صحَّ عنه – صلى الله عليه وسلم :- ((إنما بُعِثْتُ لأتممَ مكارم الأخلاق)). – لقد بين رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بهذا الأسلوب أهمية الخُلق، بالرغم من أنه ليس أهمَّ شيء بُعث النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – من أجله؛ فالعقيدة أهم منه، والعبادة أهم منه، ولكن هذا أسلوب نبوي لبيان أهمية الشيء، وإن كان غيرُه أهمَّ منه، فإن قال قائل : ما وجه أهمية الخُلق حتى يقدَّم على العقيدة والعبادة؟
الجواب : إن الخُلق هو أبرز ما يراه الناسُ، ويُدركونه من سائر أعمال الإسلام؛ فالناس لا يرون عقيدةَ الشخص؛ لأن محلَّها القلبُ، كما لا يرون كلَّ عباداته، لكنهم يرَوْن أخلاقه، ويتعاملون معه من خلالها؛ لذا فإنهم سيُقيِّمون دِينَه بِناءً على تعامله، فيحكُمون على صحتِه من عدمه عن طريق خُلقه وسلوكه، لا عن طريق دعواه وقوله، وقد حدَّثَنا التاريخ أن الشرق الأقصى ممثَّلاً اليوم في إندونسيا والملايو والفلبين وماليزيا، لم يعتنقْ أهلُها الإسلام بفصاحة الدعاة، ولا بسيف الغزاة، بل بأخلاقِ التجَّار وسلوكِهم، من أهل حضرموت وعمان؛ وذلك لما تعاملوا معهم بالصدق والأمانة والعدل والسماحة. وإن مما يؤسَفُ له اليوم أن الوسيلةَ التي جذبت كثيرًا من الناس إلى الإسلام هي نفسها التي غدَت تصرِفُ الناس عنه؛ وذلك لما فسَدت الأخلاق والسلوك، فرأى الناس تباينًا – بل تناقضًا – بين الادِّعاء والواقع!
ثانيًا : تعظيم الإسلام لحُسن الخُلق:
لم يعُدِ الإسلام الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان، ومجالاً للتنافس بين العباد؛ فقد جعله النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال: (( إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا، أحسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا، الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون )). وكذلك جعَل أجر حُسن الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه،فقال : (( ما من شيءِ أثقلَ في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن حُسن الخُلق )).
وجعَل كذلك أجرَ حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال: (( إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم ))، بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الجنة؛ فقد سُئل – صلى الله عليه وسلم – عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟ فقال : (( تقوى اللهِ وحُسن الخُلق))، وفي حديث آخرَ ضمِن لصاحب الخُلق دخولَ الجنة، بل أعلى درجاتها، فقال : (( أنا زعيمٌ ببيت في ربَضِ – أطراف الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسَط الجنة لِمَن ترَك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمن حسُن خلُقه )).
ثالثًا : الأخلاق أساس بقاء الأمم:
فالأخلاق هي المؤشِّر على إستمرار أمَّة ما أو إنهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها،كما قال شوقي : ( وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم .. فأقِمْ عليهم مأتَمًا وعويلا ) ويدلُّ على هذه القضية قولُه تعالى :- ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء:١٦].
رابعًا : الأخلاق من أسبابِ المودة، وإنهاء العداوة:
يقول الله تعالى :- ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت:٣٤]. والواقع يشهد بذلك، فكم من عداوةٍ إنتهت لحُسن الخُلق؛ كعداوة عمرَ وعكرمة، بل عداوة قريش له – صلى الله عليه وسلم – . ومن هنا قال: ( إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، ولكن تسعونهم بأخلاقكم )، يقول أبو حاتم – رحمه الله :- ( الواجب على العاقل أن يتحبَّب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق، وتَرْكِ سوء الخُلق؛ لأن الخُلق الحسَن يُذيب الخطايا كما تذيب الشمسُ الجليد، وإن الخُلق السيِّئ لَيُفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ ).
خامسًا: إن الخُلق أفضلُ الجمالينِ :
الجمال جمالان؛ جمال حسي، يتمثل في الشَّكل والهيئة والزينة والمركَب والجاه والمنصب، وجمال معنوي، يتمثل في النفس والسلوك والذكاء والفطنة والعلم والأدب، كما قال القائل : ( ليس الجمالُ بأثواب تُزيِّنُنا .. إن الجمالَ جمالُ العلم والأدبِ )
وقال الشاعر : ( ليس الجمالُ بمئزرٍ .. فاعلم وإن رُدِّيت بردا ) ( إن الجمالَ مناقب .. ومعادن أورثن حمدا )
وقد ذكر اللهُ أن للإنسان عورتينِ؛ عورة الجسم، وعورة النفس، ولكل منهما ستر؛ فستر الأولى بالملابس، وستر الثانية بالخُلق، وقد أمر الله بالسترين، ونبَّه أن الستر المعنوي أهمُّ من الستر الحسي فقال : ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف:٢٦]؛
– مايُعين على إكتساب الأخلاق :
هناك أسباب ووسائل، يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب حُسن الخُلق، ومن ذلك ما يلي :
١- سلامة العقيدة : فالسلوك ثمرة لِما يحمله الإنسانُ من فكر ومعتقد، وما يَدين به من دِين، والإنحراف في السلوك ناتجٌ عن خَلَل في المعتقد؛ فالعقيدة هي الإيمان،وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم أخلاقا؛ فإذا صحت العقيدة، حسُنَتِ الأخلاقُ تبعًا لذلك؛ فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبَها على مكارم الأخلاق، كما أنها تردَعُه عن مساوئِ الأخلاق.
٢- الدعاء : فيلجأ إلى ربه، ليرزقه حُسن الخُلق، ويصرف عنه سيِّئه، والنبي – صلى الله عليه وسلم -كان يقول في دعاء الإستفتاح: ((… إهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ، واصرف عنِّي سيِّئَها، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها إلَّا أنتَ… ))؛ رواه مسلم،وكان يقول : (( اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن منكَراتِ الأخلاق والأعمالِ والأهواءِ )) ؛ رواه الترمذي.
٣- المجاهدة : فالخُلق الحسَن نوع من الهداية، يحصل عليه المرء بالمجاهدة؛ قال عز وجل :- ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرءُ نفسَه مرة، أو مرتين، أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسَه حتى يموت؛ذلك أن المجاهدة عبادة، والله يقول : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر:٩٩].
٤- المحاسَبة : وذلك بنقدِ النفس إذا إرتكبت أخلاقًا ذميمة، وحملها على ألا تعود إليها مرة أخرى، مع أخذِها بمبدأ الثواب، فإذا أحسَنَت أراحها، وأرسَلها على سجيتِها بعض الوقت في المباح، وإذا أساءت وقصَّرت، أخَذها بالحزمِ والجد، وحرَمها مِن بعض ما تريد.
٥- التفكر في الآثار المترتبة على حُسن الخُلق : فإن معرفة ثمرات الأشياء، وإستحضار حُسن عواقبها، من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثُّلها، والسعي إليها، والمرء إذا رغِب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما إكتسبته النفوس، وأجلُّ غنيمة غنِمها الموفَّقون، سهُل عليه نيلُها وإكتسابها.
٦-النظر في عواقب سوء الخُلق : وذلك بتأمُّل ما يجلبه سوءُ الخُلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرءَ إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.
٧- الحذر من اليأس من إصلاح النفس : فهناك مَن إذا ابتلي بمساوئ الأخلاق، وحاول التخلُّص من عيوبه فلم يُفلح – أيِس من إصلاح نفسه، وترَك المحاولة، وهذا الأمر لا يحسُن بالمسلم، ولا يليق به، بل ينبغي له أن يقوِّيَ إرادته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجدَّ في تلافي عيوبه؛ فكم من الناس مَن تبدَّلت حاله، وسمَتْ نفسُه، وقلت عيوبه بسبب مجاهدته، وسعيه، وجدِّه، ومغالبته لطبعه.
– الأخلاق في اللغة العربية :-
مشتقة من “الخَلْق” أي الصفة الراسخة الثابتة في الإنسان والتي تظهر بالتلقائية ودون تكلف، وهي مُكوِّن أساسي من مكوّنات الانسان. والخُلُق في التراث العربي يقابل القيَم في المفاهيم الحديثة. وكان الخلق هو معيار التقييم الاساسي للإنسان إجتماعيا، ولذلك وصف الله نبيه بالقول ” وانك لعلى خلق عظيم”. فالخلق هو القيم التي يؤمن بها الانسان، أما السلوك فهو التصرف اليومي. وقد يكون سلوك الانسان بمستوى خلقه وقد يكون أقل من ذلك، ولكنه لا يكون أعلى أبداً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم والحمد لله رب العالمين .
التعليقات