صحيفة النماص اليوم :
تُشكل المراكز الإدارية في المملكة العربية السعودية، ومنها مركز وادي زيد، نقاطاً محورية لا تعكس فقط التنظيم الإداري، بل تتجسد فيها حكايات الأمكنة وعمق الحضارة وتمازج الإنسان بالبيئة.. إنها ليست مجرد تقسيمات جغرافية، بل هي ذاكرة جماعية تُروى عبر تضاريسها ومعالمها وأهلها، وفي هذا السياق، يبرز مركز وادي زيد التابع لمحافظة النماص بمنطقة عسير، كنموذج للمناطق التي تجمع بين أهمية الموقع الإداري وثرائه الطبيعي والتاريخي، ويقع هذا المركز، المصنَّف ضمن الفئة (ب) حسب الدليل الموحد لترميز المراكز الإدارية، إلى الشمال من محافظة النماص، على بعد حوالي 29 كيلومتراً، ويرتبط بشريان الحياة الذي يمثله الطريق 15، أحد الطرق الرئيسة التي شقت عروق المملكة لتربط أطرافها.. هذا الموقع الاستراتيجي لم يكن محض صدفة، بل هو نتيجة لعوامل تاريخية واجتماعية، حيث كانت هذه المناطق محطات للقوافل ونقاط التقاء للحضارات المحلية، وهو ما يفسر الكثافة السكانية وتنوع المعالم فيها. وتتميز المراكز الإدارية بتحديد دقيق لحدودها، وهو ما ينطبق على مركز وادي زيد.. تحد المركز شمالاً قرية آل نشوان، ومن الغرب قرية خشرم، فيما تقع قرية آل مسلمة على الجهة الشرقية، ويحده جنوباً قرية آل عظية. هذه القرى المحيطة ليست مجرد نقاط على الخريطة، بل هي أجزاء لا تتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي لـ وادي زيد. فالتداخل الجغرافي غالبًا ما يعني تداخلًا في العادات والتقاليد، وتبادلاً للخبرات بين السكان، مما يخلق هوية محلية متفردة تنبض بالحياة والتاريخ. إن هذه التخوم، التي قد تبدو إدارية بحتة، تحمل في طياتها تفاعلات بشرية وبيئية أسهمت في تشكيل المشهد العام للمنطقة عبر عقود من الزمن. ويُعدّ وادي زيد نفسه من أبرز المعالم الطبيعية القريبة من المركز، حيث يبعد عنه بمسافة تقارب 8 كيلومترات.. هذا الوادي، الذي ينسب تاريخياً إلى قبيلتي بني شهر وبني عمرو العريقتين، لا يمثل مجرد مجرى مائي، بل هو شريان حياة يمتد من أعالي جبال المرحب وجبل عصية وجبل آل عظية الشاهقة، ليصب في وادي ترج شرقاً. هذه التضاريس الوعرة والجبال الشاهقة قد شهدت على مر العصور حكايات الصمود والتكيف، حيث استطاع الإنسان أن يستثمرها ويشكلها لتلبية احتياجاته.. إلى جانب ذلك، يضم مركز وادي زيد قرية العقيقة، وهي جوهرة معمارية وطبيعية تستحق التأمل.. تتميز هذه القرية بمدرجاتها الزراعية الساحرة التي تكسو سفوح جبالها، وهي شاهد على عبقرية الأجداد في استصلاح الأراضي الجبلية الوعرة وتحويلها إلى بساتين خضراء.. هذه المدرجات لا تزال تروي قصة كفاح الإنسان في تحدي الطبيعة.. كما تحتضن القرية مباني عتيقة وقلاع وحصون قديمة شامخة، سكنها أهلها على مدى عقود طويلة، ثم هُجرت مع تطور الحياة الحديثة، إلا أن آثارها بقيت لتشكل معلماً معمارياً فريداً بطابعه الأصيل.. هذه الحصون والقلاع كانت بمثابة خطوط دفاعية ومخازن للحماية، وتعكس جانباً مهماً من الحياة الاجتماعية والأمنية في المنطقة القديمة.. الأجواء الباردة والممطرة التي تتمتع بها القرية في معظم شهور السنة تزيد من سحرها وتجعلها وجهة مثالية للباحثين عن الهدوء والجمال الطبيعي، وقد اكتسبت القرية أهميتها من موقعها المطل على سهول تهامة الدافئة، التي كان يقصدها سكان منطقة عسير طلباً للدفء خلال فصول البرد، مما يعكس حركة تنقل موسمية وتفاعلاً اجتماعياً بين المرتفعات والسهول. ويُظهر مركز وادي زيد بكل معالمه الطبيعية والتاريخية والإدارية، أنه أكثر من مجرد نقطة على الخريطة. إنه يمثل خلاصة لتفاعل الإنسان مع بيئته على مر العصور، حيث صاغ الطبيعة وصاغته، تاركاً إرثاً غنياً يستحق الدراسة والتأمل. من المدرجات الزراعية الشاهدة على عبقرية الأجداد، إلى القلاع الحصينة التي تحكي قصص الصمود، وصولاً إلى الأودية التي تروي حكايات القبائل وأواصر القربى، ويُقدم مركز وادي زيد صورة متكاملة عن عمق التاريخ وجمال الطبيعة في منطقة عسير. فهل نستطيع في عصرنا الحالي، أن نستلهم من هذا الإرث العريق سبلًا جديدة للمحافظة على هذه الثروات البيئية والتاريخية، ودمجها بفاعلية في مسيرة التنمية الحديثة، لتظل هذه الأماكن شاهداً حياً على عظمة المكان والإنسان.

التعليقات