يمثّل التعليم أحد أهم المؤشرات الحضارية في تاريخ المجتمعات الحديثة، إذ يقترن تطوره بتطور الدولة ومؤسساتها، وبالتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشهدها الأقاليم المختلفة. ومن هذا المنطلق، فإن دراسة تاريخ التعليم في منطقة عسير لا تُعدّ ترفًا معرفيًا، بل ضرورة علمية لفهم مسار التحول الذي شهدته المنطقة منذ بدايات التعليم النظامي حتى ترسّخ مؤسسات التعليم العالي في العصر المعاصر.
وقد جاءت مؤلفات الأستاذ الدكتور غيثان بن علي بن جريس الجبيري الشهري في هذا المجال لتؤسس مشروعًا علميًا متكاملًا لتوثيق مسيرة التعليم العام والعالي في منطقة عسير، مشروعًا يقوم على الجمع بين المنهج التاريخي، والتوثيق الوثائقي، والوصفي و التحليلي . وتمتاز هذه المؤلفات بأنها لا تكتفي بتتبع الوقائع، بل تربط التعليم بسياقه الإداري والاجتماعي والثقافي، وتضعه ضمن الإطار العام لتاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية.
تنطلق هذه الأعمال من تتبع بدايات التعليم النظامي في منطقة عسير، حيث انتقلت المنطقة تدريجيًا من أنماط التعليم التقليدي، المتمثلة في الكتاتيب والتعليم الأهلي، إلى التعليم الحكومي المنظم، الذي قامت الدولة بتقنينه والإشراف عليه إداريًا ومناهجيًا. وقد وثّقت هذه المؤلفات مراحل تأسيس المدارس، وتوزعها الجغرافي، وتطور أعدادها، إضافة إلى رصد تطور المناهج الدراسية وأساليب التدريس، وإعداد المعلمين، وأثر البيئة الجغرافية والاجتماعية في مسيرة التعليم وانتشاره.
ولا تقف هذه المؤلفات عند حدود التعليم العام، بل تتجاوز ذلك إلى توثيق مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة، وهي مرحلة نشأة التعليم العالي. فقد أفرد المؤلف مساحة واسعة لرصد بدايات الكليات الجامعية في عسير، وتطورها الإداري والأكاديمي، ثم انتقالها إلى مرحلة الجامعة المستقلة، مع تحليل الأدوار التي اضطلعت بها الجامعة في التنمية العلمية والاجتماعية والاقتصادية للمنطقة. ويُلاحظ في هذا السياق اعتماد المؤلف على منهج يجمع بين الوثيقة الرسمية، من قرارات تنظيمية ومراسلات إدارية، وبين الشهادة المعاصرة التي تعكس معايشة مباشرة لمراحل التأسيس والبناء.
وتتميّز مؤلفات الدكتور غيثان في هذا الجانب بتنوّع عناوينها ودلالاتها، إذ تدور في فلك مفاهيم مثل: التاريخ، والمسيرة، والتطور، والشهادات، والقراءة التوثيقية، وهي مفاهيم تعكس وعيًا منهجيًا بطبيعة المادة المدروسة، وحرصًا على تقديمها بوصفها سجلًا تاريخيًا موثقًا، لا مجرد سرد زمني للأحداث. وقد أسهم هذا التنوع في بناء صورة شمولية لمسيرة التعليم في عسير، تجمع بين التعليم العام والتعليم العالي ضمن سياق واحد متصل.
ومن الناحية المنهجية، تعتمد هذه المؤلفات على تركيب علمي يجمع بين تتبع الحدث تاريخيًا، وتحليل الوثيقة إداريًا وتربويًا، وقراءة أثر التعليم في المجتمع المحلي. وهذا المنهج المركب منح الأعمال قيمة علمية عالية، وجعلها مرجعًا مهمًا للباحثين في تاريخ التعليم، والدراسات التربوية، والدراسات الإقليمية. كما أسهم في حفظ الذاكرة التعليمية لمنطقة عسير، وتقديم مادة علمية أولية يمكن البناء عليها في دراسات مقارنة بين مناطق المملكة العربية السعودية المختلفة.
وتُظهر القراءة التحليلية لهذه المؤلفات أن التعليم في عسير لم يكن مسارًا منفصلًا عن التحولات الوطنية العامة، بل كان جزءًا من مشروع الدولة في بناء الإنسان وتنمية المكان، وأن التعليم العام مهّد الطريق لقيام التعليم العالي، الذي بدوره أسهم في إنتاج الكفاءات العلمية وتعزيز الحراك الثقافي والاجتماعي في المنطقة. وتكشف هذه الأعمال كذلك عن التحديات التي واجهت مسيرة التعليم، سواء كانت تحديات جغرافية أو إدارية أو بشرية، وكيف جرى التعامل معها ضمن الإمكانات المتاحة في كل مرحلة.
وتخلص الدراسة إلى جملة من النتائج، من أبرزها أن مؤلفات الدكتور غيثان بن علي بن جريس تمثل مشروعًا توثيقيًا رائدًا في مجال تاريخ التعليم الإقليمي، وأنها أسهمت في سد فجوة معرفية واضحة في المكتبة السعودية، وقدمت مادة علمية موثوقة تصلح مرجعًا للباحثين والباحثات. كما تؤكد هذه المؤلفات أهمية الجمع بين الوثيقة والشهادة في كتابة تاريخ التعليم، وأهمية ربط التعليم بسياقه الاجتماعي والتنموي.
وانطلاقًا من ذلك، توصي هذه الدراسة بضرورة دعم مشروعات توثيق تاريخ التعليم العام والعالي في مناطق المملكة كافة، وتشجيع الدراسات المقارنة، وتبنّي مشاريع الأرشفة الرقمية للوثائق التعليمية، وإدماج مثل هذه المؤلفات ضمن برامج الدراسات العليا، بما يعزز الوعي بتاريخ التعليم ودوره في بناء المجتمع.
ملحوظة: للمزيد انظر دراسات ومؤلفات الدكتور غيثان بن جريس عن التعليم العام والعالي في منطقة عسير وبعض مناطق جنوب المملكة العربية السعودية في الروابط التالية:
















التعليقات