الخميس ١٨ ديسمبر ٢٠٢٥ الموافق ٢٨ جمادى الآخرة ١٤٤٧ هـ

نبذة تاريخية عن مكتب دعوة الجاليات في أبها، خلال القرن ( ١٥هـ/ ٢٠ – ٢١م ) الجزء 1 – بقلم د. عبدالله بن علي أبوعشي المالكي

نبذة تاريخية عن مكتب دعوة الجاليات في أبها، خلال القرن ( ١٥هـ/ ٢٠ – ٢١م ) الجزء 1 – بقلم د. عبدالله بن علي أبوعشي المالكي
أولًا: مدخل .. الحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحاتُ، والصلاةُ والسلامُ على هادي البشريّةِ من ظلماتِ المعتقداتِ إلى نورِ وسماحةِ الإسلامِ. الحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ والهدايةِ، وأكرِمْ بها من نعمةٍ.
 
القرآن الكريم يحث بقوة على الدعوة إلى الله ونشر الدين من خلال آيات تأمر بالدعوة بالحكمة والموعظة، وتجعلها صفة الأمة الخيرة وأفضل الأقوال، وتصفها بأنها مهمة الأنبياء، وتعد بالرحمة والنصر لمن يقوم بها؛ وأبرز هذه الآيات ، قوله تعالى : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33)،وقال سبحانه { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾** (يوسف: 108)، وقال تعالى : ( ,ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ** (النحل: 125).
 
والأحاديث الصحيحة التي تحث على الدعوة إلى الله ونشر الدين كثيرة، وأبرزها حديث: “مَن دَعا إلى هُدًى كان له مِنَ الأجرِ مِثلُ أجورِ مَن تَبِعه، لا يَنقُصُ ذلك مِن أجورِهم شَيئًا”، وحديث “نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغَه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع”، وحديث “من دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر فاعله”، وحديث “لأن يَهديَ الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مِن أن يكون لك حُمْرُ النَّعَمِ”، وهذه الأحاديث تؤكد على عظم فضل الدعوة وأجرها، وأنها وظيفة الأنبياء ومفتاح خيرية الأمة ورحمة الله.
 
ونجد الدين الإسلامي بدأ من جزيرة العرب ، وانتشر في أصقاع المعمورة ، ومازالت هذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية ) ( حكومة وشعبا ) تعمل على خدمة الإسلام والمسلمين في الداخل والخارج ، ومنها مكاتب وأنشطة دعوة الجاليات. التي نجدها في كل مكان من هذا الوطن الكريم  (بلاد الحرمين الشريفين ) .
 
ومن مسيرتي وتجربتي مع دعوة الجاليات حوالي أربعة عقود ، وبعد طلب وإلحاح شديدين من أخي العزيز المؤرخ الدكتور غيثان بن علي بن جريس في كتابة بعض الشيء عن مسيرة مكتب دعوة الجاليات في أبها ، فانني اسجل نبذة مختصرة عن هذا المكتب ، ولعلها تكون نواة لدراسة أوسع أو كتاب. أو رسالة جامعية يقوم بها أحد الباحثين الجادين عن تاريخ الدعوة في منطقة عسير خلال العصرين الحديث والمعاصر.
 
وأقول ان لكلِّ عملٍ انطلاقة، وقد تكونُ متواضعةً جدًّا مقارنةً بما يترتّبُ عليها من إنجازاتٍ ولو بعد حينٍ، عبر نفعِها الحدودَ وتجاوزِها المحيطاتِ، وكلُّ ذلك بتوفيقٍ من اللهِ، ثم بجهودٍ مُخلِصةٍ من قاماتٍ سابقةٍ استشعرتْ رسالةَ المسلمِ في هذه الحياةِ العابرةِ. ومن تعدّدِها وتنوّعِ عطائها يصعبُ عليَّ حصرُها؛ لذا فأنا أعتذرُ ممّن لم آتِ على ذكرِ اسمِه أو اسمِها من غير قصدٍ، واللهُ يعلمُ ذلك.
 
 الذي أعرفُه – واللهُ أعلم – أنّه في مطلعِ هذا القرن (15هـ/20م)، كانت شعبةُ دعوةِ الجالياتِ في حاضرةِ أبها من أوائلِ المنشآتِ المبكّرةِ في الاهتمامِ بدعوةِ وتوعيةِ الجالياتِ في جنوبِ البلادِ السعودية، إن لم تكنِ الثانيةَ بعد القصيمِ في المملكةِ العربية السعودية .
 
وقد كانت الانطلاقةُ من محاضرةٍ للتعريفِ بالإسلامِ لمجموعةٍ من العاملين الفنيّين بشركةِ كهرباءِ عسير ممّن يتحدّثون الإنجليزيةَ، وكان ذلك في عام (1409هـ/1989م)، حيث تولّى فضيلةُ الشيخِ الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز المصلح إلقاءَ المحاضرةِ، وشُرفتُ بترجمتِها فوريًّا إلى الإنجليزيةِ.
 
قدّمتْ هذه المحاضرةُ فكرةَ الترتيبِ لمبادرةٍ سُمّيتْ: «أسبوعُ التعريفِ بالإسلامِ ومحاسنهِ»، وذلك بقاعةِ الشيخِ عبدالعزيز بن باز (رحمهُ اللهُ) بفرعِ جامعةِ الإمام محمد بن سعود الإسلاميةِ بالجنوبِ، حيث يتولّى مشايخُ كليّةِ الشريعةِ وأصولِ الدين إلقاءَ المحاضراتِ، ويقومُ بالترجمةِ الفوريّةِ كوكبةٌ من أعضاءِ قسمِ اللغةِ الإنجليزيةِ بكليةِ اللغةِ العربيةِ والعلومِ الاجتماعيّةِ.
 
كان الحضورُ مدهشًا ويفوقُ المتوقّعَ، ممّا شجّع على التواصلِ مع فضيلةِ الشيخِ مداوي بن علي بن جابر العسيري، رئيسِ مركزِ الدعوةِ والإرشاد (رحمهُ اللهُ). فقد تمّ إنشاءُ شعبةٍ تحت إشرافِ وتوجيهِ المركزِ سُمّيتْ «شعبةُ دعوةِ الجالياتِ»، وكان ذلك في (15/ 10/ 1409هـ)، حيث كانت جلساتُ ومحاوراتُ من يريدُ التعرّفَ على الإسلامِ تجري في مكتبِ فضيلةِ الشيخِ مداوي، وذلك من حرصِ واهتمامِ فضيلتِه؛ إذ كان يقدُم من سكنِه خارجَ مدينةِ أبها، وفي أيامِ الجُمَعِ يأتي إلى مكتبِه ويتمُّ الحوارُ. ومازلتُ أذكرُ إسلامَ أولِ شخصٍ نطقَ بالشهادتين في مكتبِ فضيلته، وكان من جنسية فلبينية .
 
تلا ذلك توجيهُ فضيلةِ الشيخِ مداوي ببناءِ ملحقٍ صغيرٍ في ساحةٍ مفتوحةٍ ضمن مرافقِ مركزِ الدعوةِ والإرشادِ في أبها؛ ليكونَ مقرًّا لشعبةِ الجالياتِ، وأُنشئت فيه مكتبةٌ متواضعةٌ جدًّا ضمّت نشراتٍ تعريفيّةً بالإسلامِ وبعضَ الكتيّباتِ، وجهازَ استنساخٍ لأشرطةِ الكاسيتِ حينها. كما تمّ الاستفادةُ من الساحةِ المفتوحةِ لإلقاءِ محاضراتٍ تعريفيّةٍ بالإسلامِ، تُترجمُ ترجمةً فوريّةً بأهمِّ لغاتِ الجالياتِ الأكثرِ انتشارًا.
 
وما هي إلا بضعةُ أسابيعٍ حتى أصبحَ المقرُّ لا يكادُ يتّسعُ للروّادِ، ممّا جعل الشيخَ مداوي يُوجّهُ باستئجارِ مبنىً مجاورٍ من طابقين حُوِّل إلى قاعاتٍ للمحاضراتِ واحتفالاتِ الجالياتِ بعيدَي الفطرِ والأضحى. وكانت محاضراتُ التعريفِ بالإسلامِ، وكذلك تعليمُ اللغةِ العربيةِ للناطقين بغيرِها، تُقامُ في أيامِ الجُمَعِ مراعاةً لأشغالِ أفرادِ الجالياتِ. وهنا نجدُ الإشارةَ إلى أن وجودَ فرعي جامعةِ الإمام محمد بن سعود الإسلاميةِ وجامعةِ الملك سعود بمدينةِ أبها يسّر توفيرَ مقدّمي هذه المحاضراتِ من أعضاءِ هيئةِ التدريسِ الأفاضلِ.
 
انتقل مقرُّ مركزِ الدعوةِ والإرشادِ بعد فترةٍ قصيرةٍ إلى مبنىً واسعٍ بحيِّ شمسان، وخُصّص فيه مكانٌ لشعبةِ الجالياتِ، وقد توسّع وازداد النشاطُ وكثر عددُ المرتادين من الجالياتِ المختلفةِ، وتزايد عددُ من اعتنقوا الإسلامَ من الذكورِ والإناثِ، ممّا أوجب استئجارَ مقرٍّ مستقلٍّ ليكونَ القسمُ النسويُّ للشعبةِ، وتعاونت معنا العديدُ من الأخواتِ المحتسباتِ الفاضلاتِ من منسوباتِ فرعي الجامعتين المذكورتين، وكنّ يدرِّسنَ اللغةَ العربيةَ للإناثِ من الجالياتِ.
 
 أمّا القسمُ الرجاليُّ للشعبةِ، فمع اتساعِ المقرِّ أصبح يتوفّرُ قاعةٌ مغلقةٌ للمحاضراتِ ومنصّةٌ لإعلانِ إسلامِ من وُفّقوا لذلك، كما توفّرت قاعاتٌ للدرسِ ومقرٌّ للمكتبةِ تنوّعتْ فيها اللغاتُ.
 
ومن جهودِ ونشاطِ الدعوةِ أننا خصّصنا مقرًّا للدعوةِ الفرديّةِ، وكتبنا على مدخلِه عبارةَ (I.C.C) إشارةً إلى ما تُرجِم من الإنجليزيةِ إلى العربيةِ: (ركنُ العنايةِ / الدعوةِ المركّزةِ)، حيث تمّ توفيرُ مقاعدَ مريحةٍ للمدعوِّ، ليشعرَ بالراحةِ وعدمِ رسميّةِ اللقاءِ، ممّا يجعله منفتحًا على الاستفساراتِ عن الإسلامِ. ولا أُبالغُ عندما أقولُ إنني لا أذكرُ مدعوًّا مرَّ على هذا الركنِ إلا وانتهى به الأمرُ إلى اعتناقِه الإسلامَ، وللهِ الحمدُ والمنةُ.
 
تنوّع النشاطُ مع مرورِ الوقتِ، حيث أُقيمت دورةٌ مجانيةٌ أطلقنا عليها مصطلحَ (E.D.P)، ترجمتُه إلى العربيةِ: (الإنجليزيةُ لغرضِ الدعوةِ)، حيث تُقدَّم المصطلحاتُ والمفرداتُ الإسلاميةُ والدينيةُ وبعضُ طرائقِ ومصادرِ نشرِ الإسلامِ. وحظيتْ هذه الدوراتُ بإقبالٍ كبيرٍ من متحدثي الإنجليزيةِ المهتمّين بالدعوةِ، وتعاون لإقامتها كوكبةٌ من الأكاديميين من فرعِ الجامعتين بالجنوبِ.
 
وبعد زمنٍ قصيرٍ تحوّل مسمّى «شعبةُ دعوةِ الجالياتِ» إلى «مكتبِ دعوةٍ وتوعيةٍ الجالياتِ»، ثم بعد فترةٍ أخرى إلى «المكتبِ التعاونيِّ لدعوةِ وتوعيةِ الجالياتِ بأبها»، وأصبح يُدارُ من مجلسِ إدارةٍ ومديرٍ تنفيذيٍّ تحت إشرافِ فرعِ وزارةِ الشؤونِ الإسلاميةِ والدعوةِ والإرشادِ بمنطقةِ عسير. وأصبحت هذه المكاتبُ التعاونيّةُ تُسمّى جمعيّاتٍ لدعوةِ وتوعيةِ الجالياتِ، وتكاثر عددُها إلى ما يقاربُ (40) جمعيةً في منطقةِ عسير.
 
ثانيًا: قصصٌ وعِبَرٌ:  أذكر طبيبٌ من دولةِ الفلبين اسمه الدكتور ساندياجو، رأى إعلانًا في بقالةٍ بمحافظة تثليث في منطقةِ عسير، وكان ذلك الإعلانُ أقلَّ من حجمِ الكفِّ ، يدعو إلى دروسٍ في تعلّمِ اللغةِ العربيةِ مجانًا. وحضر إلى المكتبِ في أبها، وتلقّى دروسًا في اللغةِ العربيةِ، وبعد ستةِ أشهرٍ من مراقبةِ سلوكِ روّادِ المكتبِ ومسؤوليهِ قرّر أن يعلنَ إسلامَه في أحدِ أيامِ الجُمَعِ. وبعد أسبوعٍ واحدٍ فقط، إذا وقد هدى اللهُ على يديه رجلًا من الهندِ.  فالله المستعان كم لنا مسلمين، وكم هدى اللهُ على أيدينا؟ سؤالٌ يستحقُّ الطرحَ بعد قصةِ الدكتور ساندياجو.
 
وفي موقفٍ آخر، يزورُ المكتبَ في إحدى الأمسياتِ رجلان، بل أقولُ قامتان، من نزلاءِ معهدِ النورِ للمكفوفين، ومازلتُ أذكرُهما يحملان عصاتين بيضاء، علمًا أن في مقرِّهما تعمل شركةٌ للتغذيةِ والصيانةِ عمالُها من الجالياتِ غيرِ المسلمةِ.
 
طلبا منّا كتبًا بلغةِ العمالِ لديهم. وتلك الزيارةُ لم تختفِ من ذاكرتي؛ حيث عجبتُ لحسِّهما الدعويِّ وقد رُفع عنهما الحرجُ، بينما الكثيرُ من المبصرين يفتقدون هذا الحسَّ. فعرفتُ أن العمى فقدُ البصيرةِ وليس بالضرورةِ فقدُ البصرِ.
 
والتسويفُ داءٌ عُضالٌ يفقدُ أحيانًا فرصَ العمرِ؛ فها هو صاحبُنا قد استقدم عاملًا غيرَ مسلمٍ من دولةِ الهندِ، وجعل يُسوِّفُ ويتباطأ في الحصولِ من المكتبِ على بعضِ الموادِ التعريفيّةِ بالإسلامِ ليُبريَ ذمتَه وليقدّمها له. وفي صبيحةِ أحدِ الأيامِ فوجئ بأن ذلك العاملَ قد سقط من مكان مرتفع وفقد حياتَه، وفقد صاحبُنا فرصةَ عمرِه لإنقاذِ نفسٍ بشريّةٍ من النارِ. وزارنا متأخرًا، وكلُّه حسرةٌ وندمٌ. وهنا أتساءلُ: كم من فرصةٍ ضيّعناها؟ والجوابُ: كثيرٌ ولا تُحصى.( والله المستعان) .
 
وشخصٌ آخر ودعاه والداه في مطارِ مانيلا محذّرَين إيّاه ألّا يفقد نصرانيتَه، خاصةً وهو متوجّهٌ إلى حيثُ مهوى أفئدةِ المسلمين: مكةُ المكرمةُ والمدينةُ المنوّرةُ. وحرصًا منهما على تثبيتِه على معتقدِه أكّدا له بأن الإنجيلَ هو آخرُ الكتبِ السماويةِ.
 
ووصل إلى أبها ليعملَ مهندسًا في المدينةِ الصناعيةِ، وشاء اللهُ أن يستقلَّ سيارةَ أجرةٍ في يومِ الجمعةِ – يومِ إجازتِه – ليذهبَ للتسوّقِ، وشاء اللهُ أيضًا أن يلاحظَ ملصقًا على السيارةِ التي أمامه مباشرةً مكتوبًا عليه: «اقرأ القرآنَ فإنّه آخرُ الكتبِ السماويةِ».
 
فعادت به الذاكرةُ إلى تنبيهِ والديه له في مطارِ مانيلا. سأل نفسَه فيما بعد: أنا متعلّمٌ مثقّفٌ، فلماذا لا أطلعُ على هذا القرآنِ لأعرفَ الحقيقةَ؟ وأخيرًا يزورُنا في المكتبِ بأبها، وقد وجد الحقيقةَ فينطقُ فرحًا بالشهادتين.
 
وهنا أتوقّف وأقولُ: مَن هو هذا الموفّقُ الذي وضع هذا الملصقَ على السيارةِ لينقذَ به نفسًا بشريّةً من النارِ؟ عدتُ فقلتُ مخاطبًا نفسي: لابدّ أنّه وضع الملصقَ بيقينٍ قويٍّ ونيّةٍ صادقةٍ. لذا يجبُ ألّا نقلّلَ من شأنِ أيِّ عملٍ نقومُ به لخدمةِ دينِنا، وليُحسِنِ المرءُ النيّةَ أولًا.
 
وآدم قصة إنسان بلغ في توجّسه من الإسلامِ أنه كان يمتنع أن يخطوَ خطوةً وهو واقفٌ على مدخلِ المكتبِ. وهو من أمريكا، ونختار اسمَ «جورج» له. وقد حظي جورج بمعاملةٍ طيبةٍ جدًّا من زملائي السعوديين في العملِ، ثم أُهدي ترجمةٌ لمعاني القرآنِ الكريمِ، فلم يُلقِ لها بالًا، وبقيتْ على الرفِّ في منزلِه شهورًا.
 
وقد وجد بعضَ الصعوباتِ في شرحِ بعضِ المفرداتِ الإنجليزيةِ لطلابه، ممّا حدا به إلى أن يستعملَ الترجمةَ المنسيّةَ على الرفِّ ليشرح مدلولَ اللفظِ الإنجليزيِّ، ليطّلعَ طلابه على ترجمتِه بالعربيةِ. وهنا أصبحتْ ترجمةُ معاني القرآنِ الكريمِ على مكتبِه بدلًا من رفِّه.
 
ومر الوقت وهو يتأمّل في حقيقةِ هذه الحياةِ وسموِّها، وأنه قد جال بين كثيرٍ من المعتقداتِ، ووصل إلى مرتبةِ «كاهنٍ» في البوذيةِ، ولكن الجانبَ الروحيَّ لديه كان أرجحَ من معتقدٍ لآخرَ. كلُّ هذا الضياعِ وعدمِ الاستقرارِ الروحيِّ جعله يتصفّحُ هذه الترجمةَ التي بين يديه. وصدق في بحثِه عن اللهِ، فصدقهُ اللهُ، ووصل إلى حقيقةِ الإسلامِ فأسلم.
 
لكنه لم يكن رقمًا إضافيًا في تعدادِ المسلمين، وإنما ألّف عددًا من الكتبِ الموجودةِ لدينا، وتزوّج من أختِ داعيةٍ بعدما سلبته زوجتُه الأمريكيةُ كلَّ أملاكِه. وهنا نقفُ ونقولُ: لا تيأسْ من أيِّ شخصٍ تدعوهُ مهما وجدتَ لديه من رفضٍ وتوجّسٍ، فأنت لا تعلمُ متى وكيف تأتي الهدايةُ.
 
وماريا، هكذا كان اسمُها، حيث وُلِدتْ بعد حرمانٍ، ونذرها أبوها لخدمةِ الكنيسةِ، فقد كان كاهنًا متعصّبًا. نمت وترعرعت في أحضانِ الكنيسةِ، ونُقلت طفولتُها على أيدي الراهباتِ. كبرت الفتاةُ واتّسعت دائرةُ معرفتِها، وانشغلت بدراسةِ التمريضِ، ولم تعد الكنيسةُ تلبّي تطلّعاتِها.
 
وأمام ضيقِ ذاتِ اليدِ عند أبيها، قرّرت الأسرةُ سفرَ ماريا إلى بلدٍ ذي دخلٍ طيبٍ. كان القدرُ يسوقُ ماريا – الممرضةَ – إلى المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، مهدِ الإسلامِ وبلدِ الحرمينِ الشريفينِ. وقامت الأسرةُ – وهي تودّعُ ماريا – بإعطائِها جرعاتٍ وقائيّةً ضد الإسلامِ، وأخذوا عليها عهدًا ألّا تتّصلَ بهم وقد صارت مسلمةً.
 
قدمتْ إلى بلادِنا، وسارتْ في عملِها، فرأت وشاهدت ثم تأثرت بدينِ زميلتِها السعوديةِ. وكانت معاملةُ زميلةِ ماريا في غايةِ الرقيِّ والعطفِ، ممّا جعل ماريا تتقبّلُ الكتيّباتِ التي كانت الزميلةُ السعوديةُ تمدّها بها. وقرأتْ ماريا ترجمةَ معاني القرآنِ الكريمِ، ووجدتْ الفطرةَ أنها وجهتُها الشخصيّةُ. ولم تمضِ فترةٌ حتى قدِمتْ إلى المركزِ في مدينةِ أبها لتنطقَ بالشهادتين، وتغيّر اسمُها إلى «مريم» تيمّنًا بمريمَ عليها السلامُ.
 
وقصةُ شخصٍ آخرَ قدم من دولةِ السويد يعملُ مهندسًا في أبها، وكان – بالطبع – يجيدُ اللغة الإنجليزيةَ بحكمِ مستوى تعليمِه، ثم زُوِّد بالموادِ التعريفيّةِ بالإسلامِ، ولم تمضِ فترةٌ إلا وقد اعتنق الإسلامَ، وأصبح يتردّدُ على المكتبِ أيامَ الجمعةِ ليزدادَ معرفةً بأساسياتِ الدينِ وكيفيةِ ممارسةِ العباداتِ.
 
وفي أولِ زيارةٍ له للمكتبِ حصل موقفٌ يُعدّ من أصعبِ المواقفِ التي مرّت بي في مسيرةِ الدعوةِ؛ حيث بقيتُ معه وقتًا ليس بالقصيرِ أحدّثه عن قيمِ الإسلامِ ومزاياه. وعند توديعه عند المدخلِ الخارجيِّ للمكتبِ صُدم بأن حذاءَه قد سُرق! لك أن تتخيّلَ الحرجَ الذي شعرتُ به، ولكن اللهَ لطف، فحوّلتُ الموقفَ إلى طرفةٍ، وقلتُ له ممازحًا: يبدو أن حذاءَك كان مميّزًا وجذّابًا! وتمّ التصرّفُ بإحضارِ حذاءٍ بديلٍ، وقلتُ لنفسي: لن نرى «جوزيف» ثانيةً، ولربما يرتدّ. ولكن – وللهِ الحمدُ – حضر في الأسبوعِ الذي يليه.
 
ومن على هذه الصفحة لابدّ أن أؤكّد على أمرٍ مهمٍّ في دعوةِ الآخرين إلى الإسلامِ، ألا وهو: ألّا يُحكَمَ على الإسلامِ من خلالِ تصرّفاتِ بعضِ المسلمين، وإلا سيُصدم كثيرًا وربما يتراجعُ. الصحيحُ أن يُقاسَ الإسلامُ من منطلقِ مصادرِه الأساسيّةِ: كتابُ اللهِ وسنّةُ رسولِه صلى اللهُ عليه وسلم. وهذا يسري على كلِّ معتقدٍ. وكم من فرصٍ ضاعت بسببِ الإهمالِ أو عدمِ المبادرةِ في تقديمِ المساعدةِ؟ إنّها كثيرةٌ ولا تُحصى، واللهُ أعلمُ.
 
بعد دمجِ فرعي جامعةِ الإمام محمد بن سعود الإسلاميةِ وجامعةِ الملك سعود بالجنوبِ في جامعةِ الملك خالد، تمّ إبرامُ اتفاقيّةِ شراكةٍ بين الجامعةِ والمكتبِ التعاونيِّ للدعوةِ وتوعيةِ الجالياتِ، ومدُّ جسورِ التعاونِ في الاستفادةِ من قدراتِ منسوبي الجامعةِ من أعضاءِ هيئةِ التدريسِ لبعضِ مناشطِ المكتبِ.
 
وفي إطارِ هذه الشراكةِ تمّ تخصيصُ ركنٍ في خيمةِ أبها الدعويّةِ السياحيّةِ لجامعةِ الملك خالد ونشاطِها في التوعيةِ الفكريّةِ، كما تمّ أيضًا تزويدُ بعضِ الطلابِ الدوليين من منسوبي الجامعةِ بكتبٍ بلغاتِهم المختلفةِ للعملِ مع الجالياتِ. ورأيتُ أنا وسعادةُ الدكتور عبداللطيف شيخ إبراهيم (رحمهُ اللهُ) ضرورةَ تأليفِ مُعجمٍ للمصطلحاتِ والمرادفاتِ الدينيّةِ ( إنجليزي – عربي ، وكذلك عربي – إنجليزي )، وتمّ إصدارُه عن طريقِ مكتبةِ العبيكان، ثم أُردِفَ بمعجمٍ ثانٍ صدر في طبعتِه الأولى، وبُني محتواه على مشروعِ ترجمةٍ وتسجيلِ حلقاتٍ في أكاديميّةٍ للتعريفِ بالإسلامِ التي وُفّق في إنشائِها فضيلةُ الدكتور غرامة بن يحيى الشهري . 
 
وفي الختام أشكر أخي الدكتور غيثان بن علي بن جريس الذي تواصل معي وشجعني على كتابة هذا المقال القصير ، وارجو من الله ( عزوجل ) أن أطوره حتى يخرج في دراسة طويلة وتفصيلية، وقد  أذنت  للدكتور  غيثان بنشره  في أحد مؤلفاته القادمة ، أو على أي منصة علمية وإعلامية يراها  . وصل الله وسلم على رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *