في الوقت الذي تبذل فيه بلادنا – حفظها الله – جهوداً كبيرة لضمان أمنها المائي عبر مشاريع تحلية تُعد من الأكبر عالمياً، ما تزال مشكلة الهدر المائي واحدة من أبرز التحديات التي تواجه هذا القطاع الحيوي. فعلى الرغم من محدودية الموارد الطبيعية، ما يزال الاستهلاك المحلي في مستويات مرتفعة تتجاوز المعدلات العالمية، الأمر الذي يفرض تحدياً حقيقياً على منظومة المياه في المستقبل.
إن بلادنا بطبيعتها الصحراوية، تفتقر للأنهار والموارد السطحية المتجددة، وتعتمد بشكل رئيسي على المياه الجوفية ومياه التحلية. ومع ذلك، يتعامل بعض أفراد المجتمع مع هذه الحقيقة وكأنها غير موجودة، فلا يلاحظ أن الهدر يظهر في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، كترك الصنابير مفتوحة أثناء الاستخدام، والغسيل المفرط للسيارات والمسطحات المختلفة واستخدام طرق بدائية.
إن ما يفاقم هذه المشكلة ليس فقط ارتفاع الاستهلاك، بل غياب الوعي بخطورة الممارسات الخاطئة في التعامل مع المياه. فكل لتر يُهدر يعني طاقة إضافية تُستهلك في التحلية والنقل، وتكاليف مالية تزيد من أعباء الدولة، إلى جانب الضغط المتزايد على موارد طبيعية محدودة. وفي وقت يشهد فيه العالم تحديات مناخية وبيئية متصاعدة، يصبح الحفاظ على المياه مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع.
ولعل أبرز ما نحتاجه اليوم هو تعزيز ثقافة الاستخدام الرشيد. فترشيد المياه لا يعني التقليل المفرط، بل يعني الاستخدام المسؤول الذي يوازن بين الحاجة والوعي. كما أن دور الفرد لا يقل أهمية عن دور المؤسسات؛ فإصلاح تسريب بسيط، أو تقليل مدة الاستحمام، أو اختيار طرق ري أكثر كفاءة، كلها ممارسات بسيطة تسهم بشكل مباشر في حماية هذا المورد الحيوي وتساعد في الحد من الهدر الغير مسؤول.
حكومتنا لا تألوا جهداً في تطوير قطاع المياه، سواء عبر الاستثمارات المستمرة في محطات التحلية، أو عبر مبادرات ترشيد الاستهلاك، أو من خلال تعزيز التقنيات الحديثة في إدارة المياه. إلا أن نجاح هذه الجهود يعتمد في النهاية على وعي المجتمع، وقدرته على إدراك أن الماء ليس مورداً متاحاً بلا حدود، بل ثروة وطنية تتطلب المحافظة عليها.
في ظل هذه التحديات، يصبح السؤال المطروح: هل يدرك المجتمع حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه هذا المورد الحيوي؟ وهل نمتلك الشجاعة لنغيّر عاداتنا اليومية قبل أن تفرض الظروف علينا خيارات أصعب؟
إنه مهما تعددت حملات التوعية واشتدت التحذيرات، يبقى الهدر المائي مشكلة لا تُحل بمجرد المعرفة، بل بتغيير السلوك. فالكل يعرف أن الماء مورد محدود، لكن قليلين يشعرون أن لترًا واحدًا يضيع يعني جهدًا ومالًا وطاقة تُهدر معه. إن التغافل عن بعض الممارسات اليومية لهو أشبه بمن يمارس التدخين وهو يعرف تمامًا أنه يضرّ بصحته؛ فالمعرفة موجودة، لكن غياب الإحساس بعِظَم المسؤولية والخطر يجعل الفعل يناقض القناعة. ولهذا ما نحتاجه اليوم ليس خطابًا جديدًا بقدر ما نحتاج إلى وعي جديد، يجعل من الترشيد قيمة اجتماعية لا مجرد نصيحة، ومن الحفاظ على الماء سلوكًا يعكس احترام الإنسان لبيئته ووطنه.
وهنا أحب أن أوجه رسالة إلى وزارة البيئة والمياه والزراعة فأقول إن التغيير الحقيقي لا يحدث حين يُقال للناس “وفّروا الماء”، بل حين تصبح المحافظة عليه جزءًا من ثقافة الحياة اليومية.
ولذلك فإنني أرى أن استخدام بعض الأساليب ربما يساعد على رفع درجة الوعي لدى المجتمع بأهمية المحافظة على المياه، من خلال استخدام بعض الوسائل المساعدة، والتي منها تكثيف الرسائل التحذيرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة والرسائل النصية، وتفعيل الغرامات على الممارسات الغير مسؤولة، و استخدام أسلوب التحفيز للأسر التي تظهر الأرقام جودة وتحسناً لديها في الاستخدام. عندها فقط ينتقل الترشيد من كونه شعارًا عامًا إلى فعلٍ يومي يحمي مستقبل البلد.
إن المستقبل المائي للوطن ليس شأناً حكومياً فحسب، بل مسؤولية وطنية مشتركة تبدأ من البيت قبل المؤسسات. وإذا لم نتحرك اليوم، فقد نجد أنفسنا أمام خيارات أصعب غدًا. أما إذا بدأ كل واحدٍ منا بقطرة، فسنحمي معًا نهرًا من الفرص.


التعليقات