الخميس ٢٠ نوفمبر ٢٠٢٥ الموافق ٣٠ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ

تحديد السرقة تحت غطاء المقدس – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

تحديد السرقة تحت غطاء المقدس – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

الأعمال الخيرية كانت وما زالت ركناً ثابتاً في ثقافة الشعوب، ووجهاً نبيلاً للتكافل الإنساني الذي يزيد رسوخاً في القضايا التي تمسّ الضمير الجمعي، مثل الفلسطينيين، والروهينجا وغيرهم.

ولهذا ظلّ الناس يتسابقون إلى فعل الخير كلما سمعوا عن حملة إغاثة أو مبادرة لدعم المحتاجين، مدفوعين بالثقة الفطرية في قدسية العطاء ونقاء المقصد.

لكن ما ظهر مؤخراً من حالات سرقة واستغلال تحت لافتة “إغاثة أهلنا في القدس” وسرقة ملايين من أموال الضعفاء وجيوب المتصدقين، يعكس وجهاً آخر، قبيحاً ومخيفاً لمن حولوا فعل الخير إلى بوابة للارتزاق السريع.

فبينما ينتظر المحتاجون وصول المساعدات، برزت فئة قليلة تتقن التلاعب بالعواطف، وتعرف تماماً كيف توظف القدسية والشعارات الدينية لاجتذاب التبرعات إلى جيوبها الخاصة. يحدث هذا تحت ضجيج خطاب ديني وإعلامي مؤثر، يختار منه بعض المتصدرين ما يخدم حملاتهم المشبوهة، مستخدمين لغة العاطفة والنصوص والمواعظ، لا حباً في الخير، بل سعياً إلى استدرار العطف وتضليل الناس.

وهذه الظاهرة لا تسيء فقط للفقراء الذين حُرموا من حقوقهم، وإنما تضرب مصداقية علماء الدين الحقيقيين الذين بنوا مكانتهم عبر عقود من النزاهة والخدمة، وتشوّه صورة العمل الإنساني بأكمله.

فحين يكتشف الناس أن أموالهم لم تصل، يتراجع الإيمان بالعمل الخيري كله، ويتحوّل الشك إلى حاجز يمنع المتعاطفين من أداء واجبهم الإنساني خوفاً من الوقوع ضحية لخداع جديد. وهكذا، بينما يتربح المحتالون، تخسر القضايا الحقيقية وتخسر المؤسسات التي تعمل بصدق.

ومهما حاول البعض أن يبرر هذه التصرفات أو يغطي عليها، يبقى الضرر الأكبر في ذلك الشرخ الذي يضرب ثقة المجتمع، فالمتاجرة بالمقدّس أخطر من سرقة المال نفسه؛ لأنها تزرع الريبة في النفوس وتشوّه القيم وتضعف الروابط التي يقوم عليها التكافل الاجتماعي.

ولعل من واجب الناس اليوم أن يعيدوا النظر في طريقة تعاطيهم مع الحملات المنتشرة على وسائل التواصل، وأن يدركوا أن التعاطف وحده لا يكفي ليكون الطريق سالكاً نحو العمل الخيري الصحيح.

فالتبرعات يجب أن تمر عبر جهات رسمية معروفة، تخضع للمحاسبة وتقدّم تقارير واضحة، وتتيح للمتبرع أن يعرف أين ذهب ماله وكيف تم استخدامه. أما الحسابات الشخصية والحملات العشوائية، مهما زخرفت خطابها بشعارات دينية أو وطنية، فهي باب مفتوح للاستغلال، وقد أثبتت التجارب أنها في كثير من الأحيان لا تمثل إلا أصحابها.

إن حماية العمل الخيري من المتاجرين به مسؤولية مشتركة فالقضايا العادلة، وعلى رأسها القدس، لا تستحق أن تكون مطية لمن يبحث عن مكاسب شخصية، والمحتاجون لا يستحقون أن تُسرق آمالهم، والناس لا يستحقون أن تُستغل مشاعرهم باسم “المقدّس”.

سيبقى الخير خيراً، وسيبقى العطاء قيمة نبيلة، لكن استمرارهما يتطلب وعياً يميز بين الصادق والمتكسب، وبين المؤسسات الرسمية وبين أولئك الذين يتخذون من الدين أو القضية غطاءً لأطماعهم.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *