الإثنين ٣ نوفمبر ٢٠٢٥ الموافق ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ

رحلة في أعماق الذاكرة الإنسانية – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

رحلة في أعماق الذاكرة الإنسانية – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

منذ أن عرف الإنسان الترحال، وهو يحمل في داخله شغف الاكتشاف وحنين المجهول. فالسفر لم يكن يومًا مجرد انتقالٍ من مكانٍ إلى آخر، بل رغبةٌ في معرفة الذات عبر الآخر. وحين يشدّ السائح رحاله إلى بلدٍ ما، متدثرًا بفضولٍ إنسانيٍّ قديمٍ قِدم الحكايات الأولى، فإنه لا يسعى فقط إلى رؤية الأماكن، بل إلى لمس جوهرها، واستنشاق ذاكرتها التي تختبئ خلف الوجوه والطرقات..

فالسياحة ليست نزهة في الشوارع المعبّدة ولا تصويرًا عابرًا أمام الآثار الصامتة، بل هي رحلة في الذاكرة الجماعية للبشر، حيث يبحث المسافر عن نبض الحياة في تفاصيل الآخرين، عن نكهة الخبز في أزقة المدن القديمة، وعن القصص التي يرويها الحجر قبل أن يتكلم الإنسان.

إن السائح حين يطأ أرضًا جديدة لا يبحث عن فندق بخمس نجوم بقدر ما يبحث عن خمس دقائق من الصدق الثقافي. يريد أن يرى كيف يفكر الناس، كيف يفرحون، كيف يحزنون، وكيف ينسجون من أيامهم معنى الوجود. إنّه يأتي ليذوق طعم الانتماء المختلف، فيكتشف أن العالم، رغم اتساعه، بيت واحد بألف لهجةٍ وذاكرةٍ واحدةٍ متعددة الوجوه.

كثيرون يظنون أن السياحة لا تقوم إلا بالأسفلت وناطحات السحاب، ولم يدركوا أنها تنهض بالثقافة والابتسامة الدافئة. فالسائح، مهما كان غنيًا، لا يُفتن بالبنايات الشاهقة بقدر ما يُفتن ببساطة إنسانٍ يقدّم له الشاي على شرفةٍ مطلّةٍ على التاريخ. إنّ ما يجذب المسافر ليس صخب المولات، بل همس الأسواق القديمة، ولا تثير إعجابه الفنادق الباردة بقدر ما تأسره الجداريات التي تردد حكايات الأجداد وحبّ الأمهات.

إن السياحة، في حقيقتها، ليست تجارةً في الصور، بل حوار في الذاكرة الإنسانية. فكل بلدٍ حين يروي للعالم تراثه إنما يقول: هذه حكايتي، فهل تجد فيها صدىً لحكايتك؟. وهنا تكمن روعة اللقاء بين الثقافات، حين يتحوّل المكان من مساحةٍ على الخريطة إلى كائنٍ نابضٍ بالحياة يتنفس عبر زواره ويعيش في ذاكرتهم.

فيا أبناء هذا الوطن العزيز، يا شعب بلادي الحبيبة، اعلموا أن ما تملكونه من موروثٍ ثقافيٍّ وعاداتٍ رفيعةٍ هو كنز لا يُقدّر بثمن، وهو في جوهره الهوية التي تميزكم عن سائر الأمم. إنّ الانفتاح السياحي الذي تعيشه بلادنا اليوم ليس مجرد بابٍ يُفتح على العالم، بل اختبارٌ لمدى صلابتكم في الحفاظ على الأصالة وسط التنوّع، وقدرتكم على إقناع السائح بجواهر ثقافتكم وتفرّدها، فكونوا سفراء لقيمكم، وأمناء على عاداتكم، وحماةً للبساطة التي تُدهش قبل أن تُبهر.

ولشبابنا تحديدًا، أنتم الواجهة التي يراها الزائر أولًا، فاجعلوا من كل لقاء فرصةً لترك أثرٍ طيب، ومن كل حوارٍ جسراً للتفاهم، ومن كل ابتسامةٍ رسالة تقول إن في هذه الأرض حضارة تُحترم وإنسانًا يُحبّ. فالسائح لا يبحث فقط عن مكانٍ جميل، بل عن روحٍ جميلةٍ تفيض صدقًا وكرمًا.

أما القائمون على أمر السياحة، فليكن همكم الأكبر نقل هذا الإرث العظيم إلى الزائر الكريم، لا بوصفه معروضًا جامدًا في المتاحف، بل كحياةٍ تُعاش في الأسواق، وفي الفنون، وفي ضيافة البيوت، وفي ملامح الناس الطيبين. فالسياحة لا تنجح بحداثة المرافق وحدها، بل بتجديد الوعي بما نحمل من قيمٍ وثقافةٍ تستحق أن تُروى للعالم.

في نهاية المطاف، ليست السياحة انتقالًا من مكانٍ إلى آخر، بل هجرة من معلوم إلى مجهول، ومن سطح الصورة إلى عمق المعنى. فالمسافر الحقيقي لا يحمل حقيبة، بل يحمل أسئلة، ولا يعود بالتذكارات، بل بالذكريات.

إنه يكتشف في كل ركنٍ من العالم مرآةً صغيرة يرى فيها ملامح ذاته، فيدرك أن الإنسان مهما تنوّعت لغاته وملابسه ومواسمه هو واحدٌ في جوهره، وأن الأرض ليست مقسّمة كما نراها على الخرائط، بل متّصلة كما نحلم بها في القلوب.

هكذا تكون السياحة: فعل – معرفة – ودهشةٍ وتواضعٍ أمام عظمة التنوّع، لا ترفًا ولا تباهيًا، بل طريقًا إلى أن نفهم أن كل ثقافةٍ تحمل جزءًا من الحقيقة التي نسعى إليها جميعًا منذ أن بدأ الإنسان رحلته الطويلة في البحث عن نفسه بين النجوم والرمال.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *