الكتابة عن التاريخ الديني والدعوة إلى الله في السراة وتهامة ( الباحة ، وعسير ، وجازان ، ونجران ) ليس معزولاً عن الحياة الدينية والدعوية التي عاشتها شبه الجزيرة العربية من قبل الإسلام، وخلال القرون الإسلامية المختلفة. فالبلاد في عصور ما قبل الإسلام لا تخلو من ديانات عديدة : وثنية، ونصرانية، ويهودية، ومجوسية، وصابئية، ومن يدين بدين الحنفية وغيرها.
بعد ظهور الإسلام في الحجاز ثم انتشاره إلى كل مكان في شبه الجزيرة العربية في عهد الرسول ﷺ والخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم) صارت بلاد تهامة والسراة وعموم أرض اليمن جزء من الدولة الإسلامية في المدينة ، واستمر أهلها على معتقداتهم الدينية الإسلامية خلال القرون الإسلامية المبكرة والوسيطة والحديثة حتى وقتنا الحاضر.
وهناك بعض الأمور التي أرتأيت الإشارة إليها خلال العهود الإسلامية المتتالية (ق1ــ ق14هـ/ق7ـــ ق20م)، وأذكر أهمها على النحو الآتي:
1 – صار دين الإسلام هو الدين العام الذي يؤمن به الناس في تهامة والسراة( من الطائف ومكة المكرمة إلى نجران وجازان ) ولم تخلو مجتمعاتهم أيضاً من فئات تُدين بأديان أخرى سماوية أو وضعية منذ فجر الإسلام إلى زمننا المعاصر.
ومن يبحث في المصادر والمراجع المختلفة فسوف يجد معلومات سياسية وحضارية أرخت للتهاميين أو السرويين ومن جاورهم أثناء دخولهم الإسلام في العقود الأولى من تاريخ الإسلام، ثم استمرار جهودهم وإسهاماتهم في خدمة هذا الدين السماوي العام الشامل (الإسلام) في أوطانهم، أو في بلدان أخرى كثيرة داخل جزيرة العرب، أو في أمصار وحواضر وقرى وأرياف أو مناطق عربية وإسلامية وأجنبية خارجية (ق1ــــ ق15هـ/ق7ـــ ق21م) .
2 – لا يمكن دراسة الحياة الدينية والدعوية منفصلة عن التاريخ السياسي والإداري والحضاري . فبعد قيام عاصمة الإسلام الأولى في المدينة في عهد الرسول ﷺ، بدأت بلدان تهامة والسراة تتغير في معتقداتها، واعتنق أهلها الإسلام، وصاروا بشراً صالحين نافعين لأنفسهم، ولبلادهم، ولدينهم الجديد (الإسلام).
ونجد المصادر التاريخية تؤرخ لدول ودويلات وإمارات وحكومات قامت في العالم الإسلامي، وبعضها في شبه الجزيرة العربية عبر أطوار التاريخ الإسلامي، ووصل نفوذها، أو صلاتها، أو هيمنتها على أجزاء من بلدان عسير ، والباحة ( غامد وزهران ) ، وجازان ، ونجران وأحياناً على معظمها أو كلها.
وكان لكل قوة سياسية ظهرت أو جاءت إلى هذه الديار معتقدات ورؤى وأفكار سياسية ودينية عقائدية، وبدون شك فأهل البلاد تأثروا سلباً أو إيجاباً من منظور ديني أثناء علاقاتهم أو تواصلهم مع أي سلطة سياسية استولت على بلادهم، أو على أجزاء منها منذ فجر الإسلام إلى عصرنا الحديث، ولو اطلقنا العنان لتدوين أمثلة عن تلك الدول أو الحكومات أو القوى السياسية خارج الجزيرة العربية أو داخلها، فإننا نحتاج إلى مئات الصفحات دراسة وتوضيحاً وتوثيقاً.
3 – وجدت في بعض المصادر الحجازية واليمنية خلال القرون الإسلامية الوسيطة وبداية الحديثة (ق3 ــ ق12هـ/ق9ــ ق18م) توثيقات متنوعة تذكر لمحات من حياة الناس الدينية، فأشارت إلى بعض طلاب العلم أو العلماء الذين نالوا علوم ومعارف عديدة في حواضر الحجاز واليمن أو غيرها من بلدان العالم الإسلامي ثم عادوا إلى بلادهم في الطائف، أو منطقة عسير(تهامة والسراة)، أو جازان (المخلاف السليماني)، أو نجران ..
وقاموا على إمامة الناس في جمعهم وجماعاتهم وتقسيم مواريثهم وعقد أنكحتهم، وتولى بعضهم القضاء أو الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثير منهم عملوا في مهنة التدريس في قراهم ومناطقهم، وصدر لبعضهم مؤلفات شرعية ولغوية وأدبية وتاريخية. ومن يبحث في وثائق وكتب العصر الحديث (ق11ــــ ق13هــ/ق17ـــ ق19م) يجد معلومات أكثر عن التاريخ الديني الدعوي والعلمي والفكري والثقافي.
4 – زرت مسجد عبدالله بن عباس() في الطائف مرات عديدة، ودخلت مكتبته الموجودة ضمن مرافق المسجد. كما اطلعت على عدد من السير اليمنية ومصادر أخرى للائمة الزيدية فوجدت في هذه الأمكنة والمصادر معارف تاريخية متنوعة لها صلة بالتاريخ الديني في الطائف ونجران وصعدة وصنعاء وما حولها، والغالب على الكتب اليمنية الزيدية الإسهاب في الموروث الزيدي..
وبذل الأئمة الزيدية جهود كثيرة ومتنوعة من أجل نشر مذهبهم في أجزاء السراة وتهامة القريبة منهم كبلاد نجران، وقحطان، وجازان (المخلاف السليماني). أما الطائف فكانت مقصداً للعديد من العلماء والأدباء الذين جاءوا من خارج شبه الجزيرة لقضاء مناسك الحج والعمرة، ومنهم من يبقى في الحرم المكي للعلم والتعليم..
وهناك من ذهب إلى الطائف واستقر فيها سنوات عديدة، وبعضهم مكثوا فيها حتى ماتوا. ورأيت في مكتبة عبدالله بن عباس مخطوطات ومؤلفات لعدد من العلماء الذين كتبوا عن الطائف، وعلموا وتعلموا فيها. وفي كتبهم معلومات قيمة عن الحياة الدينية والدعوية علماً وعملاً في بلدة الطائف، أو في الحجاز بشكل عام، ومنهم من أشار إلى لمحات بسيطة جداً عن التاريخ الديني في السروات القريبة من الطائف.
5 – من يقرأ عن مسيرة الدعوة الإسلامية في السراة وتهامة منذ فجر الإسلام وخلال القرون الإسلامية الوسيطة والحديثة (ق1ــ ق13هـ/ق7 ــ ق19م)، يلحظ ترحيبهم المبكر بالدين الإسلامي، ثم استمرارهم على منهج التوحيد خلال القرون الإسلامية المختلفة. ومنهم الذين خرجوا من بلادهم للعلم والتعلم والجهاد، ولم يتوقفوا داخل الحجاز..
إنما ذهبوا إلى الأمصار الإسلامية فكان لهم النصيب الأوفر في الفتوحات الإسلامية، والمساهمة في بناء الحضارة الإسلامية شرق العالم الإسلامي وغربه. وإذا بحثنا عن أماكن العبادة في أوطانهم، وعن أنشطتهم الدينية، وعن العلماء وطلاب العلم الشرعي والدعوي والأدبي والتاريخي في البلاد ، فلا نجد معلومات مدونة في هذه الجوانب خلال القرون الإسلامية المبكرة والوسيطة وبدايات الحديثة ( ق1ــ ق12هـ/ق7ــ ق18م).
وبحثت في كثير من المصادر المبكرة فلم أستطع الخروج بتصور شبه واضح في هذا الباب، مع أنني شاهدت خلال الخمسين سنة الماضية ( 1396 – 1446هـ / 1976 – 2024م)) الكثير من المساجد القديمة، والمقابر، والنقوش والرسومات الصخرية التي تشير إلى أنشطة دينية في أرجاء البلاد. ناهيك عن بعض الروايات والقصص التي سمعتها من بعض الرواة، وتناقلوا أخبارها من أجيال سابقة، ولها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالتاريخ الديني والدعوي الذي جرى على ثرى البلاد ومارسه وعرفه معظم السكان.
6 – من قراءاتي في مصادر التراث الإسلامي الموسوعية والعامة، واطلاعي على مؤلفات كثيرة عن الأعلام وطبقات الرجال، والتاريخ المحلي وخصوصاً الحجازي واليمني، وكتب العقائد والمذاهب والفرق الإسلامية وغيرها اتضح لي أن جميع المذاهب الإسلامية وبخاصة الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي قد وصلت أخبارها وآثارها إلى أوطان السراة وتهامة، لكن أكثرها انتشاراً الشافعي منذ القرن الثالث الهجري، ثم الحنبلي.
وأثناء رحلتي الجامعية ( 1396 – 1447هـ / 1976 – 2025م) ) رأيت الكثير من الكتب والمخطوطات الدينية الشافعية عند الكثير من العلماء والأسر العلمية المحلية في مناطق الباحة، وعسير، وجازان، ونجران، والطائف، والقنفذة وغيرها. وزرت عشرات المكتبات العربية والأجنبية (الرسمية والأهلية، العامة والخاصة) ووجدت فيها مئات المخطوطات والكتب الشافعية ، وبعضها يعود إلى القرون الإسلامية الوسيطة..
وجرى دراسة وتحقيق بعضها في كتب علمية أو رسائل جامعية، ومن يتتبع طلاب العلم الشرعي من السرويين والتهاميين الذين تأثروا بمذاهب الأئمة الأربعة (الحنفي، أو المالكي، أو الشافعي، أو الحنبلي) داخل شبه الجزيرة العربية أو خارجها خلال عشرة قرون (3ــ13هـ/9ــ19م)، فتلك مشاريع علمية جيدة وغنية بالمادة العلمية، ومصادرها موجودة ومتناثرة في أمكنة كثيرة من العالم.
7 – وجدت أن معظم سكان السروات وتهامة دخلوا الإسلام على دين أهل السنة والجماعة، وإن حصل لأفراد أو جماعات منهم ضعف أو تراجعات عقدية على مر التاريخ الإسلامي فذلك أمر حدث ومازال يحدث في أي مجتمع إسلامي. والمعروف أن القبيلة في أوطان الطائف، وغامد وزهران، والقنفذة، وبيشة، ونجران، وجازان، وعسير وغيرها. هي السائدة وصاحبة النفوذ الأوسع، وتسودها نعرات وتعصبات قبلية وعشائرية، وتمارس عادات وتقاليد وأعراف اجتماعية تتعارض مع منهج القرآن الكريم والسنة النبوية..
وتجد من يتبناها ويدافع عنها، مع أنها لا تخلو من الأخطاء الشرعية للفرد أو الأفراد (ذكوراً وإناثاً)، وأحياناً يظهر في المجتمعات من يرفضها ويحاربها، لكنها كانت سمة أو ظواهر في البلاد من جازان ونجران إلى الطائف ومكة المكرمة، وقرأت عنها وشاهدت شيئاً منها، مع أن تاريخها ليس حديثاً، ويرجع أحياناً إلى عصور ما قبل الإسلام، وإلى القرون الإسلامية المبكرة والوسيطة.
8 – لا ننكر أن البلاد ظهر فيها وعاش أفراد، وأسر، وفئات، وأقوام، ومجتمعات تختلف في معتقداتها وممارساتها الدينية عن منهج أهل السنة والجماعة. فالمصادر تذكر أسر ومجتمعات زيدية عاشت قرون كثيرة في أمكنة وبلدان عديدة تهامية وسروية، وكذلك بعض الأفراد أو الجماعات الصوفية، والإسماعلية، وأصحاب أديان ومعتقدات أخرى سماوية أو شركية ووضعية.
وربما يظهر من لا يوافقني في هذه الأقوال، ويصفني بالتحامل، ومجانبة الصواب. وأقول إنني أتحدث عن مجتمع كبير( سروي وتهامي) خلال ثلاثة عشر قرن (ق1ــ ق13هـ/ق7ــ ق19م)، ووصل إلى هذه الديار الكثير من الأجناس العربية والإسلامية والأجنبية، ومنهم من جاء في هيئة أفراد أو مجموعات تحت مظلات سياسية وعسكرية، أو أعمالاً ووظائف حضارية متعددة. وما من شك أن أهل البلاد احتكوا وتعاملوا مع هذه العناصر البشرية.
كما أن السكان المحليين لهم أهواء ورغبات عرقية واجتماعية وسياسية ودينية، وانكفأ أهل البلاد على أنفسهم، وانشغالهم بكسب أرزاقهم، مع ضعف الحياة العلمية والثقافية التنويرية الدعوية ولدت حياة يسودها الجهل. وممارسة أعمال كثيرة خاطئة وغالباً تتعارض مع الشريعة الإسلامية السمحة والصحيحة.
لقد أسهبت الحديث في الصفحات السابقة عن أهل السراة وتهامة قبل القرن(14هـ / 19م)، وهذا مما قد يجعل بعض القراء والباحثين يصف علمي بالضعف والهشاشة العلمية، لأنه يدرس جوانب خارج الفترة المحددة في عنوان الورقة .
ومن يقول بهذا الرأي فلا يخلو قوله من الصدق وصحة ما ذهب إليه إذا طبقنا منهج البحث العلمي الدقيق على ما تم رصده. والذي جعلني أدون هذه التوثيقات المتقدمة من أجل اطلاع الباحثين والقراء الكرام على شيء من حياة التهاميين والسرويين الدينية والدعوية منذ فترة ما قبل الإسلام إلى القرن (13هـ/19م)
(*) في الصفحات التالية أدرس وأكتب لمحات من حياة أهل السراة وتهامة الدينية والدعوية منذ بداية القرن (14هـ/19م) إلى وقتنا الحاضر(1447هـ /2025 م ) .
بدأ القرن الرابع عشر الهجري والناس على وضعهم السابق في أداء عباداتهم المتنوعة، ولا تخلو المجتمعات السروية والتهامية من طلاب علم وفقهاء ومعلمين يقومون على توعية الناس في أمورهم الدينية، ويقضون حوائجهم مثل إتمام عقود الأنكحة، وتقسيم المواريث، وإمامة سكان القرى والأرياف وغيرهم في صلواتهم، وأعيادهم، وجمعهم وجماعاتهم.
وكانت المتصرفية العثمانية في أبها السلطة الحاكمة لمعظم بلدان تهامة والسراة ( الواقعة بين اليمن والحجاز ) ، وتشير الوثائق العربية والعثمانية إلى وجود بعض القضاة في الحواضر الرئيسية، واطلعت على العديد من المدونات والصكوك الشرعية التي صدرت من محكمة أبها في العقود الثلاثة الأولى من القرن (14هـ/19ــ20م)، وجمعت أيضاً العديد من وثائق الاصلاح وحل مشاكل متنوعة بين الأفراد، أو الأسر، أو القرى، أو القبائل في مناطق جازان، ونجران، وعسير، وبلاد غامد وزهران، والقنفذة، والطائف.
وهذه المصادر تحتوي على معلومات شرعية وفقهية هدفها الفصل في القضايا والخصومات بين المتخاصمين. وحصلت على بعض خطب الجمعة المحلية في بعض مدن السروات من الطائف إلى أبها، وفيها الكثير من التوجيهات والحكم والدروس الشرعية التي تحث الناس على إخلاص العبادة لله ــ عزوجل ـ ، والاجتهاد في الأعمال الصالحة التي تقرب العبد من ربه، وتساعده على الفوز بالجنة والنجاة من النار.
تشير بعض المصادر، خلال الثلث الأول من القرن الهجري الماضي، إلى أسماء بعض القضاة وطلاب العلم في الطائف، والقنفذة، وأبها، ورجال ألمع، والحواضر الرئيسية في بلاد جازان. وقرأت في بعض كتب الرحالة ووثائق محلية ورسمية أسماء العديد من العلماء والفقهاء الحجازيين الذين كانوا يذهبون إلى الطائف، وأحياناً إلى بلاد غامد وزهران، والقنفذة، وبيشة للدعوة وتعليم الناس أمور دينهم..
ومصادر أخرى يمنية، وروايات محلية تذكر بعض رجالات السراة وتهامة الذي ذهبوا إلى مدن اليمن العلمية الرئيسية لمزيد من التعليم والتعلم الشرعي والأدبي واللغوي، وبعض الفقهاء والعلماء اليمنيين ينزلون في القرى والمدن السروية والتهامية أثناء ذهابهم أو إيابهم من الحج ويقدمون بعض الدروس والأنشطة الدعوية، كالتدريس، والفتوى، وخطب الجمعة وغيرها .
دخلت أوطان السروات وتهامة تحت نفوذ الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل من بداية الأربعينيات في القرن (14هـ/20م). وأشرت سابقاً إلى المذهب الشافعي الذي كان منتشراً في أرجاء البلاد، لكن الإمبراطورية العثمانية دولة سنية حنفية، وقضاتها ورجال العلم فيها يتعاملون مع الناس على منهج المذهب الحنفي.
وإذا عدنا إلى أوضاع تهامة والسراة في بدايات القرن (13هـ/18ــ19م)، نجد أن إمارة المتاحمة في عسير، وبعض إمارات الأشراف في جازان تحت لواء الدولة السعودية الأولى في الدرعية تسير في حكمها وأنظمتها على مبادئ المذهب الحنبلي. وبعد قيام الدولة السعودية الثالثة استمرت في حكمها ودعوتها على مذهب أسلافهم، واستمر المذهب الحنبلي المنهج الرسمي الذي تعمل به الدولة حتى الآن.
الكتابة عن التاريخ الديني والدعوي في السروات وتهامة خلال عهد الدولة السعودية الحديثة (المملكة العربية السعودية) يحتاج العديد من الموسوعات والكتب العلمية الجادة ( 1338 – 1447هـ / 1919 – 2025م) ) حتى نعرف كيف أثر توحيد البلاد الإداري والسياسي تحت راية واحدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وكيف استقامت أمور الناس بعد أن صاروا تابعين لحكم مركزي عام يشرف على راحة البلاد والعباد، والاجتهاد في توفير الأمن والاستقرار في كل مكان.
ومن يقرأ الوثائق الأولية لعصر الملك عبدالعزيز آل سعود فإنه يجد سياسته ونظام حكمه مرتبط ومقرون باتباع ما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن هذا المنطلق استطاع توحيد القلوب حوله قبل توحيد البلاد. وهناك مئات الدراسات التي أرخت لفترة تأسيس البلاد السعودية في عهد الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل.
جاء حكم الملك عبدالعزيز آل سعود إلى بلدان تهامة والسروات ( عسير ، وجازان ، والباحة ، ونجران ) وهدفه الأساسي ضمها تحت نفوذه، والحكم فيها بما يرضي الله. واجتهد في اختيار أمراء وقضاة عادلين ومنصفين وجادين في أداء مهماتهم على الوجه المطلوب.
واطلعت على عشرات الوثائق والمخطوطات التي أرخت للأمراء والقضاة الذين أرسلوا إلى مدينة أبها أثناء دخول المنطقة تحت النفوذ السعودي الحديث، ووثقت شيئاً من تاريخهم وجهودهم المباركة. وفي الفقرات التالية أدون لمحات من تاريخ رجال القضاء والقضاة، والتربية والتعليم، والدعوة والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المجالات الحضارية في خدمة الحياة الدينية .
في مدونة وصلتني من الأستاذ محمد أحمد أنور يذكر فيها لمحة عن بدايات القضاء السعودي في جنوب المملكة العربية السعودية وبخاصة حاضرة أبها في بداية الأربعينيات من القرن(14هـ/20م)، فيقول: «يوجد بأبها قاض فقط، وأول من سمعت به الشيخ محمد بن إسماعيل النجدي، وكان يُثنى على علمه وورعه وتقواه، ثم جاء بعده الشيخ سليمان بن جمهور، كان جهوري الصوت مرعباً ونزيهاً في عمله وأمانته …،
ثم جاء بعده التقي النقي العالم الجليل الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، وأمضى فترة ليست طويلة من عام (1352هـ إلى 1353هـ) ، ثم بعده ابن جار الله ولم تطل مدته، ثم جاء بعده الشيخ عبدالعزيز الثميري ومعه ثلاثة قضاة عين أحدهم ،وهو الشيخ عثمان بن ركبان بالنماص، وآخر اسمه ابن جعوان بظهران الجنوب، ويوجد بخميس مشيط قاض منذ بداية الحكم السعودي …
ويدعى سعيد بن سعيدان، عالم جليل ورع ومتدين، قل نظيره في مخافة الله، وأديب وشاعر على طريقة العلماء لا الشعراء … ويحكم القاضي في القضية ولا تسجيل، ويخرج المتقاضيان قائلين: حكم القاضي بكذا وكذا، فكأنَّ هذا الحكم صدر من عندالله ، وبحكم الله، فلا يُنسى ولا يُخالف ، ومن خالفه فإنما هو مخالف لله ورسوله.
ذلك لأن إيمان الناس كان عميقاً بالله، ولا يوجد استئناف ولا تمييز للأحكام، ولا جدال ولا اعتراض بل طبيعة هادئة ونفس مطمئنة، ولم يكونوا بحاجة إلى تسجيل قضية اقتنع المحكوم له والمحكوم عليه وراحوا مقتنعين بما سمعوا. وفي عام (1360هـ) جاء إلى القضاء في أبها العالم الفاضل الشيخ عبدالله بن يوسف الوابل، ثم عين له مساعداً الشيخ صالح بن محمد التويجري، وبقي الشيخ الوابل يزاول القضاء وتدريس الطلبة، الذين من جملتهم الشيخ حسن العتمي، والشيخ هاشم النعمي…»
(*) نستخلص من توثيقات الأستاذ أنور بعض الأمور، منها :
أ ــ منزلة القضاة في نقائهم وتقاهم وورعهم وأمانتهم، ومن يدرس تاريخ القضاء والقضاة في جنوب المملكة العربية السعودية خلال العقود الوسطى من القرن الهجري الماضي فإنه يطلع على أعلام كبار في عدلهم وأمانتهم وعلومهم وفقههم وخدمتهم الناس في كل مكان (مقراً لمحاكم والأسواق، ومنازلهم الخاصة، وفي مجالسهم وحلق دروسهم وغيرها) .
ب ــ ما أشار إليه صاحب المدونة عن الرضى بحكم القاضي وعدم الاعتراض على ذلك يدل على الوازع الديني الذي عند الناس. وهذا لم يأت من فراغ، فأهل البلاد دخلوا الإسلام منذ فجر الإسلام، وبقوا على دينهم الإسلامي خلال القرون الإسلامية المتتالية.
ومن يدرس الجذور العقائدية والدينية في معظم بلاد تهامة والسراة يجد السكان سلموا من التيارات والمعتقدات المخالفة لأهل السنة والجماعة، وربما صعوبة أرضهم وانعزالهم الجغرافي والاجتماعي ساعد في هذا الصفاء الديني. وإن وجد بينهم قديماً من يؤمن ببعض الأفكار والعقائد المتعارضة مع القرآن والسنة النبوية فهم قلة قليلة من بين السكان في أرجاء البلاد، وكان للأمية والجهل دور كبير في تلك الأخطاء والانحرافات.
سبق أن خاطبت رئيس محاكم منطقة عسير في مدينة أبها عام (1415هـ/1995م)، وطلبت منه أن يطلعني على أرشيف المحكمة، أو يزودني بمعلومات موثقة عن دور القضاة والمحاكم الشرعية في الحياة الدينية والحضارية بالبلاد، فتجاوب مع خطابي وزودني بمذكرة قال فيها: « تأسست المحكمة الشرعية في أبها قبل تولي الملك عبدالعزيز آل سعود على منطقة عسير، حيث كان القضاء الشرعي قائماً في وقت ولاية الأتراك..
وفي حكم آل عائض. وبعد تولي الملك عبدالعزيز في عام (1338هـ) شكل القضاء الشرعي في المنطقة ، وعين سماحة الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، وهو من العلماء البارزين، قاضيًّا في أبها، وهو أول قاضي في العهد السعودي…، وعين بعده فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل، ثم انتقل وعين خلفاً له الشيخ سليمان بن جمهور، وعين بعده الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك..
ثم خلفه الشيخ ناصر بن عبدالعزيز الحسن، ثم الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الثميري، ثم خلفه العلامة الشيخ عبدالله بن يوسف الوابل، ثم جاء بعده الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدان، ثم الشيخ محمد بن عبدالرحمن الدحيم، ثم الشيخ ناصر بن أحمد الراشد، ثم الشيخ إبراهيم الحديثي..».
واشتملت المذكرة أيضاً على معلومات لها صلة بكتابة العدل ومن عمل فيها، وأشارت إلى دور بعض القضاة الآنف ذكرهم في تدريس الناس وتوعيتهم في أمور دينهم عن طريق حلق الذكر والدروس في المساجد، وفي خطب الجمعة، أو اللقاءات والمناسبات الاجتماعية العامة والخاصة.
ومع النمو والتطور الحضاري الذي عاشته البلاد من ستينيات القرن (14هـ/20م) إلى الآن ( 1447هـ / 2025م) ، زادت أعداد المحاكم والقضاة في أرجاء البلاد. وتتلقى المحاكم في البداية الأوامر والتعيينات من جلالة الملك عبدالعزيز، وفي عام (1364هـ/1944م) ربطت جميع المحاكم في جنوب المملكة بإدارة القضاء في المنطقة الغربية برئاسة سماحة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، ثم بعد توحيد رئاسة القضاء ربطت إدارياً بسماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ..
ثم أصبحت تابعة لوزارة العدل بعد تأسيسها، ومن يدرس أعمال القضاة والمحاكم الشرعية في تهامة والسراة من سبعينيات القرن الهجري الماضي يجد أنها توسعت رأسيًّا وأفقيًّا، ولم يبدأ القرن الحالي إلا صارت المحاكم وكتابات العدل في جميع حواضر ومدن جنوب المملكة، وجرى عليها الكثير من التطويرات الكمية والكيفية.
ومنذ العقد الثاني في هذا القرن(15هـ/20م) أصبح في مناطق السروات وتهامة الرئيسية فروع لوزارة العدل تتولى الإشراف على سير المحاكم وكتابات العدل، وفي العشرين سنة الأخيرة ( 1426 – 1446هـ/ 2005 / 2024م )، تعددت أنواع المحاكم الشرعية، ثم زادت وتضاعفت مكاتب المحاماة، وجرى الكثير من التطويرات الإدارية والمالية والقانونية والفنية والتقنية على نظام المحاكم والمرافعات والتقاضي. واستمرت جميع المحاكم الشرعية في أرجاء البلاد تؤدي مهامها ووظائفها القضائية والتوجيهية والشرعية والدعوية والدينية.
للحياة العلمية والتعليمية والدعوية والتربوية صلة قوية بالحياة الدينية، والحياتان مترابطتان، لأن الأساس في حياة الإنسان الدين، وسكان المملكة العربية السعودية بشكل عام، وأرض السراة وتهامة تدين بالإسلام على ضوء كتاب الله وسنة رسوله (ﷺ).
والدارس للحياة العلمية والتعليمية والدينية والدعوية في مناطق عسير، ونجران، وجازان، وبقية مدن وحواضر وقرى وأرياف وبوادي تهامة والسراة خلال القرون الماضية المتأخرة (ق12ــ ق14هــ/ ق18ــ ق20م) يجد الناس يمارسون معتقداتهم الإسلامية، وبينهم بيوتات علمية، أو طلاب علم تعلموا بعض العلوم الشرعية والعربية والتاريخية وغيرها ثم قاموا في أوطانهم يعلمون الناس ويرشدونهم، ومنهم من تولى القضاء والحسبة والأمر بالمعروف.
وأثناء رحلاتي في جنوب البلاد السعودية خلال الأربعين سنة الماضية، سمعت روايات كثيرة تذكر أسماء كتاتيب في أمكنة وقرى عديدة في الطائف، وبلاد غامد وزهران، والقنفذة، والليث، وبيشة، وبلاد الحجر، وعسير، وشهران، وقحطان، ومواطن أخرى عديدة في تهامة من البرك والمجاردة إلى سامطة وأحد المسارحة..
وفي قرى وبلدات متفاوتة في منطقة نجران. وجميع هذه الأمكنة التعليمية البسيطة كانت سائدة ومتعارف عليها في القرون الإسلامية الوسيطة والحديثة حتى منتصف القرن (14هـ/20م)، ولها جهود كبيرة في محاربة الأمية، وتوعية الناس، وتعليم بعضهم العلوم الشرعية والعربية وطرق القراءة والكتابة.
بعد ظهور وتأسيس الدولة السعودية الثالثة (المملكة العربية السعودية) تغير الوضع التعليمي، وتراجعت مهام الكتاتيب، وأنشئت مدارس حكومية نظامية. وكانت الطائف، وسراة غامد، والقنفذة، وبيشة، وأبها، وجازان أوائل البلدان التي قامت فيها مدارس ابتدائية أميرية سعودية في منتصف العقد الخامس من القرن الهجري الماضي، ثم تزايدت المدارس الابتدائية، وأنشئت المدارس المتوسطة، والثانوية، والمعاهد العلمية، ولم يبدأ هذا القرن (15هـ/20م) إلا التعليم النظامي السعودي العام الحديث صار في كل مدينة، وحاضرة، وريف، وبعض البوادي.
خلال هذا القرن (15هـ/20 ــ 21م) توسعت قاعدة التعليم العام في كل مكان من السروات وتهامة، وأصبح هناك آلاف المدارس العامة (للبنات والبنين) حكومية وأهلية، وتعددت أنواع التعليم الأدبي، والشرعي، والعلمي، والفني، والتقني، والتجاري، والصحي وغيره. وصار هناك إدارات أو مؤسسات تعليم عامة تتولى الإشراف على هذا القطاع المعرفي المهم.
في تسعينيات القرن الهجري الماضي (14هـ/20م) أنشئت كليات جامعية في أبها، ومنها كلية الشريعة وأصول الدين، تلى ذلك تأسيس العديد من المعاهد التعليمية والكليات العالية في مناطق الطائف، والباحة، وعسير، وجازان، ونجران، وفي نهاية العقد الثاني من هذا القرن (15هـ/20م) أنشئت جامعة الملك خالد في أبها، ومن خلالها توسع التعليم العالي في مناطق عسير، وجازان، ونجران حتى صار في هذه البلدان أربع جامعات مستقلة (جامعة الملك خالد، وجامعة جازان، وجامعة نجران، وجامعة بيشة).
أما بلاد الباحة، والقنفذة ، والطائف، وتربة، ورنية، والليث فقد حظيت بالدعم والرعاية الحكومية الجيدة، وتولت جامعة الملك عبدالعزيز، ثم جامعة أم القرى تطوير التعليم الجامعي في تلك النواحي حتى تأسست جامعتي الباحة، والطائف، أما المحافظات الأخرى ففيها العديد من الكليات العالية، وربما نرى جامعة قريبة في تهامة تضم محافظتي الليث والقنفذة وغيرها من الحواضر التهامية.
(*) أشرت فقط إلى مقتطفات مختصرة عن قطاع التعليم العام والعالي في السراة وتهامة، وفي الصفحات التالية أدون شيئاً من الآثار الإيجابية، وبعض السلبيات على الحياة الدينية والدعوية خلال العصر السعودي الحديث والمعاصر (1354ــ1447هـ/ 1935ـ2025م) .
لحسن حظي في بدايات هذا القرن (15هـ/20م) أن عرفت والتقيت ببعض رواد التعليم الحديث في جنوب المملكة، وسمعت منهم كيف أسسوا وعاصروا تأسيس المدارس الأميرية السعودية في جنوب المملكة، وكيف كانت التوجيهات والتربية والتعليم الديني من الأعمال الرئيسية في إشرافهم وتدريسهم للطلاب، ولم تكن جهودهم فقط تعليم الطلبة القراءة والكتابة، أو أداء الصلوات وما شابهها، إنما كانوا يتابعون الطلاب في كل شيء، في عباداتهم، ودروسهم، وأخلاقهم، وتعاملاتهم، وعلاقاتهم، مع الوالدين، أو من يتصل بهم في مجتمعاتهم.
وحصلت على مدونات من بعض أولئك الرعيل الأول الذين كانوا صالحين في أنفسهم وقدوة لطلابهم وجميع من تعامل معهم أو اتصل بهم، وكتبوا في مذكراتهم الكثير من الأنشطة المدرسية الصفية واللاصفية التي يمارسها الطلاب داخل المدرسة أو خارجها، واطلعت على بعض الكتب والمناهج التي درسها التلاميذ (ذكوراً وإناثاً) خلال النصف الثاني من القرن الهجري الماضي، فكانت مواد التربية الإسلامية واللغوية تتصدر الدروس في الكم والكيف.
وقابلت الكثير من المعلمين المتعاقدين والوطنيين الذين اشتغلوا في التعليم العام خلال العقدين الأخيرين من القرن (14هـ/20م)، والعشرين سنة الأولى من هذا القرن (15هـ/،20م)، فكان أغلبهم على قدر عالٍ من الأدب وحسن الخُلق، وثراء المعلومات، وطيب المعشر والسلوكيات، وهذا مما جعلهم يُدرسون ويُشرفون ثم يُخرجون طلاباً جادين مجتهدين، وذوي أخلاق وأعمال طيبة في دينهم وحياتهم العامة والخاصة.
وأخبرني بعض الرواة الذين شاهدوا وعاصروا التعليم في عسير وجازان والباحة وغيرها من عام (1360ــ1410هـ/1940ــ199
وأصبحت المدارس منارات نور ومعرفة لنشر الفضيلة بين الأفراد والأسر والمجتمعات، وكان في أرجاء البلاد رجالاً صالحين عاملين كالقضاة ورجال الحسبة وبعض الأعيان وشيوخ القبائل، أو مسؤولين وموظفين في مؤسسات الدولة المحلية يدعمون مسيرة الوعي الديني والتعليمي والأمني والاجتماعي والحضاري في مناطقهم.
سمعت وقرأت عن عدد من الأعلام الذين كان لهم بصمات في تعليم الناس وتثقيفهم وتوعيتهم دينيًّا وثقافيًّا ومعرفيًّا خلال النصف الثاني من القرن الهجري الماضي، ولن أستطيع الحديث عن كل الرموز في أرجاء السروات وتهامة، من مكة المكرمة والطائف الى جازان ونجران ، لكن الوثائق التاريخية والروايات والقصص الشفهية أشارت إلى عشرات القضاة، ورجال الدعوة والحسبة، وبعض الفقهاء وطلاب العلم في بعض حواضر جازان، ونجران، وعسير، والباحة، والبرك، والقنفذة، والطائف، وبيشة وغيرها.
(*) أكتفي في هذا العنصر بذكر علمين صالحين قدما الكثير من الجهود والأعمال الكبيرة في تنوير الناس، وخدمتهم في مجال التعليم والتوعية الدينية .
1- الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي ولد في عنيزة بمنطقة القصيم عام (1315هـ/1879م)، وبدأ حياته العلمية في مسقط رأسه، ثم ارتحل في طلب العلم إلى بلدان عديدة داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها، وأخيراً ذهب إلى جازان في نهاية الخمسينيات من القرن الهجري الماضي، وقضى بقية حياته في التعليم والدعوة إلى الله، فجاب معظم بلدان السراة وتهامة..
وافتتح مئات المدارس القرعاوية في الجبال، والبوادي، والسهول، والساحل، وكان له فضل وذكر وصيت وصل إلى كل مكان في جنوب البلاد السعودية، وتعلم في مدارسه خلق كثير، وصار منهم فقهاء، وعلماء، وأدباء وقضاة، وأعلام كبار لهم شأن في خدمة أوطانهم، ومنهم من ترقى في السلم الحضاري والوظيفي إلى أعلى المناصب الشرعية والعلمية والتربوية والمدنية والعسكرية في بلدان عديدة بالمملكة العربية السعودية.
2 – الشيخ والقاضي عبدالله بن يوسف الوابل الشمري من منطقة حائل من مواليد عام (1328هـ/1910م)، بدأ حياته العلمية في القصيم، وتعلم على يد عدد من العلماء والقضاة هناك، وفي عام (1351هـ/1932م) ذهب إلى الرياض ولازم الشيخ محمد بن إبراهيم سنوات عديدة واستفاد من علمه كثيراً..
وتولى مهنة القضاء في نجد عام (1360هـ/1940م)، ثم أرسل للقضاء في مدينة أبها، وبقي قاضياً ورئيساً لمحاكم منطقة عسير أكثر من عشر سنوات (1360ــ 1371هـ/ 1940ــ 19
واستمرت حلقات دروس الشيخ العلمية حوالي ثلاثين عاماً، وكان له صلات جيدة مع حكام ورجال الدعوة والقضاء في أنحاء المملكة العربية السعودية. ومن أعماله الجليلة لخدمة الدين والدعوة إلى الله في تهامة والسراة أن خصص سكناً للطلاب القادمين من خارج أبها مع مكافآت شهرية .
وعندما علم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بذلك، أصدر أمراً إلى مالية أبها بصرف مكافأة شهرية للشيخ حتى يوزعها على طلاب العلم الذين كانوا مواظبين على دروسه. وتخرج في مدرسته مئات الطلاب الذين خدموا بلادهم ودينهم، ومنهم من تولى القضاء في أمكنة عديدة بالمملكة، ووصل بعضهم إلى مراكز علمية وشرعية عالية في الدولة.
والباحث عن أعلام ورجال دين ودعوة في عصري الشيخين القرعاوي والوابل فسوف يجد الكثير من الذين ارتحلوا في بلدان عديدة من السراة وتهامة ، وبذلوا ما في وسعهم لخدمة الناس وتنويرهم في أمور دينهم . ويوجد بعض المدونات والوثائق التي أشارت إلى أسماء بعضهم في مناطق عسير، والباحة، وجازان وغيرها، ومن يجمع تاريخهم أيضاً من خلال الروايات والمقابلات الشفهية فسوف يحصل على مادة علمية جيدة خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن (14هـ/20م).
لا تخلو أي مرحلة من مراحل التعليم العام (مدارس أو معاهد) من دروس ومقررات خاصة بالعلوم الشرعية والدينية والعربية والتاريخية والسلوكية وغيرها. لكن المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمنتشرة في إنحاء المملكة العربية السعودية كان لها جهود كبيرة ومتنوعة في التعليم الديني والتربوي. وخلال العقود الأربعة الماضية من هذا القرن ( 15هـ / 20 – 21م) زرت معظم المعاهد العلمية في الطائف، ومناطق الباحة، وعسير، وجازان ووجدت أقدمها معهد صامطة العلمي (1374هـ/1954م) ..
وعلمت أن عددها في تهامة والسراة تجاوز العشرين معهداً من مجموع المعاهد في أنحاء المملكة العربية السعودية التي زادت عن السبعين معهداً، ورأيت فيها أنشطة متنوعة علمية وتربوية وتثقيفية وتوعوية جيدة، والقائمون عليها من المديرين والمرشدين والمعلمين (السعوديين وغير السعوديين) من خيرة الرجال في سلوكياتهم، وأخلاقهم، وتعاملاتهم.
وشاهدت في المعاهد التي زرتها مكتبات ورقية مليئة بالمصادر والمراجع والمجلات العلمية النافعة، والتقيت ببعض طلاب هذه المؤسسات أثناء دراستهم، وبعد تخرجهم فوجدتهم يتصفون بالكثير من الأخلاق الحميدة والفاضلة، وعندهم مخزون علمي ومعرفي جيد خصوصاً في العلوم الشرعية والعربية. وعلمت مؤخراً أن هذه المعاهد الرائدة ألغيت وتم دمجها مع الثانويات العامة في التعليم العام.
عشت وعاصرت التعليم العام والجامعي في السروات وتهامة من عام (1396هـ/1976م) حتى وقتنا الحاضر ، ووثقت بعض الكتب والبحوث في هذا الميدان التاريخي الحضاري. وأوصيت في دراسات عديدة إلى أهمية تدوين تاريخ هذا القطاع الذي نقل البلاد والعباد إلى مراحل عالية ومتقدمة.
وأشير في الصفحات التالية إلى صور عرفتها واطلعت عليها وشاهدتها في الحياة الدينية والدعوية :
أ – استمرار التعليم العام للأبناء والبنات (العام والخاص) يؤدي رسالته التعليمية على جميع الأصعدة. وضمن المناهج التدريسية مواد دينية عديدة تُدَّرس في كل المراحل، والكثير من الأنشطة الثقافية والعلمية والدينية الصفية واللاصفية تسير ضمن برامج وخطوط ترسمها مؤسسات التعليم السيادية، وتتابعها وتنفذها إدارات التعليم بجميع فروعها وأقسامها. وزرت في عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن (15هـ/21م) إدارات تعليم الطائف، والباحة، والمخواة، والقنفذة، والنماص، وبيشة، ومحايل عسير، وأبها، وسراة عبيدة، ونجران، وصبيا، وجازان.
وحصلت على مدونات وصور وتعاميم وتقارير علمية وإحصائية عديدة، وجلست مع بعض مديري التعليم ومسؤولين ومعلمين ومشرفين وسمعت منهم تفصيلات كثيرة عن جهودهم المتنوعة (أعضاء هيئة تدريس، وطالبات وطلاب) داخل مدارسهم، وخدمات المجتمع المتنوعة، ومنها المسابقات الدينية، والمشاركات في المهرجانات المختلفة، والعمل في فرق الكشافة، والجمعيات الاجتماعية والخيرية، والرحلات المتنوعة كالحج والعمرة لبعض الأساتذة والطلاب وغيرها، والزيارات المتبادلة بين طالبات وطلاب المدارس في محيط الديار التهامية والسروية، أو مدن ومناطق أخرى في المملكة.
ب ـ يُعد التعليم الجامعي في أرض السراة وتهامة فتحاً عظيماً على الناس منذ نهاية القرن الهجري الماضي حتى الآن (1447هـ / 2025م). ونجد مئات الطلبة تخرجوا في مدارسهم الثانوية أو المعاهد المحلية من السبعينيات إلى التسعينيات في القرن(14هـ/20م)، ثم سافروا إلى المراكز الحضارية الكبيرة في المملكة من أجل الوظيفة أو الدراسة الجامعية.
ومنهم أعداد كثيرة تخصصوا في العلوم الشرعية واللغوية، وبعد حصولهم على الشهادة الجامعية التحقوا بالعديد من الوظائف المدنية والعسكرية، ومنها مجالات القضاء، والدعوة والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتدريس. ومن يدرس أعداد هذه الشرائح في مناطق السروات وتهامة، وما قدموا من أعمال تعليمية ،وتربوية، ودعوية وإرشادية، وقضائية وغيرها فسيجد نسبة جيدة لعبت أدواراً حضارية تنويرية متنوعة في خدمة العباد والبلاد .
ج – افتتحت كلية الشريعة واللغة العربية في أبها عام (1396ــ1397هـ/1976ــ 1977م
ومن معاصرتي تلك الكليات في حاضرة أبها، شاهدت وقرأت وسمعت الكثير من المنجزات الكبيرة التي قدمتها هاتان الكليتان لآلاف الطلاب. في مناطق عسير، وجازان، ونجران وقرى ومدن أخرى في البلاد. وفي العشرين سنة الأولى من هذا القرن (15هـ/20م) أنشئت العديد من كليات البنين والبنات في منطقة عسير، وبلدان أخرى في جنوب المملكة العربية السعودية.
الكتابة عن كلية الشريعة واللغة العربية، ثم كليتي الشريعة وأصول الدين، واللغة العربي والعلوم الاجتماعية بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الجنوب منذ تأسيسها إلى نهاية العقد الثاني من هذا القرن (15هـ/20م) مجال كبير ومتشعب لمن أراد إنجاز دراسة تفصيلية عن هذا الميدان.
وهناك الكثير من المقالات، والتقارير، والبحوث، والإحصائيات التي صدرت ونشرت في هذا الموضوع. ولن أناقش هذا الجانب، واختصر توثيقاتي على تجاربي ومشاهداتي لهاتين الكليتين العاليتين خلال الخمس وعشرين عاماً الأولى من تاريخها، وأذكر ذلك في الفقرات التالية :
بقيت طالباً في كلية الشرعية واللغة العربية بأبها لمدة أربعة شهور عام(1396ــ1397هـ/ 1976ــ197
ولفت نظري غزارة العلوم الشرعية والفقهية التي امتاز بها أعضاء هيئة التدريس، ومعظمهم من جامعة الأزهر، وبعض الجامعات الكبيرة في الشام، والسودان. أما طلاب الكلية فجميعهم تخرجوا في المعاهد العلمية، التي درسوا وتعلموا فيها الكثير من المعارف والعلوم اللغوية والشرعية والأدبية والتاريخية.
أصبحت طالباً بكلية التربية بأبها خلال دراستي الجامعية، واستمريت معيداً ثم أستاذاً في الكلية حتى نهاية العقد الثاني من هذا القرن (15هـ/20م)، وكنت على اتصال دائم بزملائي الأوائل في كلية الشريعة واللغة العربية، ثم زميلاً وصديقاً للمسؤولين والأساتذة وبعض الطلاب بفرع جامعة الإمام بأبها خلال العشرين سنة الأولى من القرن الحالي..
وسمعت ورأيت الكثير من أعمالهم التدريسية ومحاضراتهم العامة والخاصة داخل فناء كليتي الشريعة وأصول الدين، واللغة العربية والعلوم الاجتماعية، وفي المساجد والجوامع، والأنشطة والمهرجانات الدعوية الأسبوعية، والشهرية، والفصلية في القرى والمدن والأرياف والبوادي بمناطق عسير، وجازان، ونجران. وذهبت معهم في رحلات للحج والعمرة، وبعض المخيمات والبرامج الدعوية في مواطن عديدة من تهامة والسراة. و إذا بحثنا عن المشاركات العلمية للطلاب والأساتذة في الكليتين، فسنجد كماً كبيراً من الدراسات والمقالات والمشاركات الصوتية والمقروءة والمكتوبة.
لمعرفتي القوية بالأساتذة المؤسسين للكليات الجامعية في مدينة أبها وغيرها، اتصلت بهم وطلبت منهم الكتابة عن تاريخ كليتي الشريعة وأصول الدين، واللغة العربية والعلوم الاجتماعي وغيرها من مؤسسات التعليم العالي في الجنوب، فلم أجد القبول والتجاوب منهم وبخاصة من كانوا صناع قرار في الفترة الممتدة من ( 1396ـ 1410هـ/ 1976ــ 1989م
وتجاوب معي زملاء قليلين ، كانوا طلاب جامعيين خلال العقد الأول من هذا القرن (15هـ/20م) ، ومازلت أسعى إلى إقناع بعض الذين مازالوا على قيد الحياة من الأوائل فيدونوا أو يرووا لي شيئاً مما عرفوه وعاصروه أثناء البناء والتأسيس لكلية الشريعة واللغة العربية، ثم كليتي الشريعة وأصول الدين، واللغة العربية والعلوم الاجتماعية.
كان لكليتي الشريعة وأصول الدين، واللغة العربية والعلوم الاجتماعية جهوداً ومساهمات كثيرة في ميدان تخريج الكثير من المدرسين الذين عملوا في مدارس التعليم العام، وفي المعاهد العلمية، وأعداد كثيرة منهم صاروا قضاة، وخطباء وأئمة مساجد وجوامع، وكتابات عدل، وفي إدارات مدنية وعسكرية متعددة.
ورأيت المئات منهم يشرفون على مشاريع وجمعيات خيرية ووقفية محلية في طول البلاد وعرضها، ولهم جهود ومشاركات في مؤسسات إقليمية وعالمية، مثل: هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وغيرها من المناشط الإنسانية والدعوية داخل تهامة والسراة، وفي أرجاء المملكة العربية السعودية، وأحياناً خارج حدود الوطن .
(*) تاريخ التعليم العالي في خدمة الحياة الدينية والدعوية بأرض تهامة والسراة خلال الربع قرن الأخير(1420ــ 1446 هـ / 1999ــ 2024م ) موضوع متشعب وكبير، ودراسته بمنهجية جيدة وعلمية واسعة يستغرق وقتاً كبيراً، ويصدر ذلك في عشرات الكتب ، وفي الصفحات الآتية أدون بعض اللمحات مما عرفته وقرأته وشاهدته في هذا الباب وأذكر ذلك في النقاط الأتية :
1- لم يبدأ العقد العشريني في تهامة والسراة من هذا القرن (15هـ/20م)، إلا استوى حال البلاد في البناء والتنمية الحديثة. وواجهت الدولة والناس في كل مكان الكثير من الصعوبات خلال الثمانين عاماً الأولى من تاريخها، وفي القرن الحالي عم الخير والرزق أرجاء الديار السعودية، وتطورت حياة الناس في كل ميدان، وزاد العلم والنور المعرفي، وأسست وتنوعت كليات وأقسام ومراكز بحوث التعليم العالي في أوطان السروات وتهامة، وفي نهاية العقد الثاني من هذا القرن تم إنشاء جامعة الملك خالد في أبها..
ومن أكبر أهداف تأسيسها توسيع قاعدة التعليم الجامعي في مناطق عسير، وجازان، ونجران، وقامت هذه المؤسسة العالية بواجباتها على أكمل وجه، ولم نصل إلى عام (1435هـ/2014م) إلا أصبح في المناطق الآنف ذكرها أربع جامعات (الملك خالد، وجازان، ونجرن، وبيشة) .
وإذا نظرنا إلى الأجزاء الشمالية من السروات وتهامة، وجدنا أن جامعات المنطقة الغربية،(الملك عبدالعزيز، وأم القرى) اجتهدت في تأسيس ونشر مؤسسات تعليمية عالية في حواضر الطائف، والليث، والقنفذة، ومنطقة الباحة، وفي عشرينيات هذا القرن (15هـ/20م) أنشئت جامعتي الطائف والباحة اللتان توسعت مسؤولياتهما وإشرافهما على الكثير من الكليات والأقسام الجامعية في المدن والمحافظات التابعة أو القريبة من حاضرتي الباحة والطائف.
2- جميع المؤسسات الجامعية السروية والتهامية قامت على مبادئ وأسس وقواعد وخطط إدارية، وشرعية، وتنظيمية، كلها تخضع لسياسة الدولة والتعليم العام والعالي وغيره من المؤسسات الحكومية التي دستورها القرآن الكريم وسنة الرسول (ﷺ)، وهذا المنهج الذي اتبعه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل(يرحمه الله) وسار عليه ملوك وأمراء آل سعود
التعليقات