الجمعة ٥ سبتمبر ٢٠٢٥ الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٧ هـ

الطعام والشراب، واللباس والزينة في جنوب المملكة العربية السعودية خلال قرنين (15-14هـ/  20-21م) – بقلم أ . د . غيثان بن علي بن جريس  

الطعام والشراب، واللباس والزينة في جنوب المملكة العربية السعودية خلال قرنين (15-14هـ/  20-21م) – بقلم أ . د . غيثان بن علي بن جريس  

أولاً / الطعام والشراب :  إذا أرخنا للطعام والشراب خلال المئة وأربعين سنة الماضية في أنحاء السروات وتهامة نجد أن معظم الأشربة والأطعمة كانت محلية من مزارع الناس، ولحوم مواشيهم ومنتوجاتها. وإذا جلبت بعض المواد الغذائية من خارج بلادهم، فقد كانت قليلة ومحدودة، وغالباً يتم إحضارها من أسواق الحجاز واليمن، وربما جاءت من دول عربية وإسلامية أخرى مثل الشام، ومصر، وبعض الدول الإفريقية، والتركية وغيرها.  

تُطهى جميع الأطعمة والأشربة في المنازل، ونادراً توجد محلات تجارية لصنع الطعام. وإن وجد شيئاً من ذلك ففي بعض المدن والحواضر الكبيرة مثل الطائف، والقنفذة، وأبها، وجازان وغيرها. وكان الناس متقاربين متحابين متعاونين في إعداد موائدهم وأطعمتهم في المناسبات الاجتماعية الكبيرة كالأعياد، والزواجات، والمآتم، وحفلات الختان، واستقبال الضيوف وإكرامهم، وغيرها من الأنشطة الاجتماعية الترفيهية.     

تقوم النساء بإعداد الأشربة والأطعمة لأسرهن، وغالباً في المناسبات الاجتماعية الكبيرة، وبخاصة الطعام المصنوع من الحبوب كالعصيد، والخبز بجميع أنواعه. أما الأطعمة من اللحوم وذبح الذبائح وإكرام الضيوف في المناسبات العامة فالرجال هم من يقومون بهذه المهنة.

وتختلف طرق إعداد الولائم الكبيرة، وأيضاً الوجبات الصغيرة والمتوسطة على مستوى القرى والأسر في تهامة والسراة، بل هناك بعض الاختلافات في المنطقة الواحدة من أرض تهامة أو السراة، من حيث أسماء الأشربة والأطعمة، وأدواتها، ومكوناتها، وطرق إعدادها، وقد وثقت شيئاً من ذلك في بعض مؤلفاتي التي صدرت خلال إلعقود الأربعة الماضية. 

(*) عدد الوجبات اليومية ثلاث : فطور (قروع)، وغداء، وعشاء، وغالباً تُقدم في أوقات محددة عند شروق الشمس، ووسط النهار، وبعد المغرب. وأحياناً توجد وجبات قليلة وخفيفة في أوقات أخرى من النهار. وأثناء رحلاتي في مناطق السراة وتهامة خلال الثلاثين سنة الماضية (1416- 1446هـ/ 1996-2024م) جمعت بعض الأخبار عن بعض الأشربة والأطعمة عند الأوائل، ونشرت معظمها في كتبي وبحوث علمية أخرى عديدة. وخرجت ببعض الخلاصات التي أدرج شيئاً منها في النقاط الآتية : 

1 – كانت معظم أشربة الناس وأطعمتهم طبيعية وصحية، فهي خالية من التلوث البيئي، وربما نقصت أو  انعدمت المواد الغذائية عند الناس، بأسباب القحط وقلة الأمطار وأحياناً تظهر الأمراض في الحيوانات والمزارع فتقضي عليها، ويحل الفقر والجوع والمرض بالناس.

2 ـ زرت العديد من المتاحف التاريخية، والتقيت بالكثير من الأعلام المتقدمين الذين عاشوا أغلب سنين أعمارهم في القرن(14هـ/20م)، فسمعت، منهم وعرفت من بعض الآثار المادية التاريخية أن الذين صنعوا المواد والأواني الخاصة بالأشربة والأطعمة من أهل البلاد أنفسهم، وقليلاً تستورد مواد أو أوعية من خارج البلاد حتى العقود الأخيرة من القرن الهجري الماضي.

3 – ليست حياة الناس في أنماط أشربتهم وأطعمتهم موحدة وطبق الأصل في كل الأجزاء والمناطق السروية والتهامية، بل هناك اختلافات جوهرية وأخرى ثانوية. فسكان الساحل يختلفون عن أهل الخبوت والسهول التهامية، أو القاطنين عند سفوح السروات الغربية. والذين يعيشون في أراضٍ زراعية غير الذين يعتمدون في معاشهم على الصيد البري أو البحري.

وسكان أعالي السروات يختلفون عن البدو الرحل في الأجزاء الشرقية. فالأوائل أهل حرث وزراعة، ويمتلكون المواشي (الأبقار، والأغنام)، أما أهل البوادي فهم بدو ينتقلون من مكان لآخر، واعتمادهم في طعامهم وشرابهم على لحوم وألبان حيواناتهم. وتجرى التعاملات التجارية في أسواقهم الأسبوعية، ويتبادلون السلع المختلفة، وأحياناً تقايض البضائع ببعضها، ومعظم تلك التجارات التهامية والسروية محلية، وفي مقدمتها المواد الغذائية . 

4 – اتضح لي أن كل نوع من الشراب والطعام له طرق للإعداد من بداية جلب مواده الأولية إلى تقديمه للأكل بصورة نهائية. وهناك فنون وألفاظ ومصطلحات لكل وجبه أو نوع من الطعام، وفي الغالب تختلف من مكان لآخر، وكل ما بعدت المسافة بين الأمكنة زاد التباين والاختلافات.

بعد ظهور البترول في البلاد السعودية، وانتشار الطرق والمواصلات الحديثة، وتوفر المال عند الناس، وتحسن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وزيادة النمو التجاري والثقافي والتعليمي، والوظائف الحكومية (المدنية والعسكرية). بقى الناس يمارسون حياتهم السابقة فيما يتعلق بأشربتهم وأطعمتهم، وصاروا أيضاً يجلبون مواد غذائية أخرى جديدة من الأسواق الشعبية المحلية، ومن الموانئ والمدن السعودية الأخرى الكبيرة، أو من بعض البلدان العربية والأجنبية.

وأثناء التطور الإداري والمالي والحضاري الذي عاشته أرض السروات وتهامة في العقود الأربعة الأخيرة من القرن (14هـ/20م)، وقدوم الكثير من العناصر البشرية العربية والأجنبية التي عملت في الكثير من القطاعات التنموية الحكومية والأهلية ظهرت الكثير من المواد الغذائية الجديدة، ومعظمها مستوردة من داخل المملكة العربية السعودية، وصار الناس يشاهدون ويرتادون أماكن الأطعمة والأشربة التجارية التي لم تكن موجودة في العقود الوسطى من القرن الهجري الماضي..

واتسعت القاعدة الرئيسية لأسماء وأنواع الطعام والشراب، وقامت المطاعم الكبيرة والصغيرة في أنحاء البلاد، وصارت جميع الأيدي العاملة في هذه المحلات التجارية وافدة من بلدان عربية وإسلامية وأحياناً أجنبية. وعندما كنت طالباً بالجامعة في نهاية القرن الهجري الماضي، وعندي سيارة تاكسي أسافر عليها إلى مدن ومناطق عديدة في السروات وتهامة، أشاهد الدكاكين التجارية المليئة بالمواد الغذائية داخل المدن، وعلى بعض الطرق الرئيسية.

وكذلك (البوفيهات) والمطاعم بالمدن الرئيسية، مثل: الطائف، والباحة، والنماص، وتنومة، وأبها، وخميس مشيط، وبيشة، والقنفذة، وجازان، ونجران. والعاملون فيها من العمالة اليمنية، أو من البخارية والأفغان وغيرهم. وحضرت بعض المناسبات الاجتماعية في مناطق عسير، وجازان، ونجران، والطائف خلال التسعينيات من القرن (14هـ/ 20م) ورأيت ولائمهم متفاوتة في أحجامها، وأنواع الأطعمة والأشربة المقدمة، لكنها كانت خليط من الطعام والشراب المحلي، وبعض الأغذية المستوردة، وكان هناك الكثير من البروتوكولات) والعادات التي تمارس في تلك الاحتفالات.

كما شاهدت الكثير من أنواع الشراب والطعام الذي كان يقدم في المنازل الصغيرة والكبيرة، وفي مناسبات أسرية، أو على مستوى القرية، والبلدان الريفية، ومازال الغالب على تلك الحياة التعاون والتقارب بين أفراد الأسرة، أو الفخذ، أو القرية في إعداد أشربتهم وأطعمتهم الخاصة والعامة، ولم تكن ظهرت المطاعم والأمكنة التجارية التي تقوم على إعداد الشراب والطعام، وإن وجدت فهي قليلة ومحدودة في الحواضر والمدن الكبيرة والرئيسية، أما غالبية البلاد فمازالت تعيش جزءاً كبير من حياة السابقين، إلا أن أحوالهم المالية والاقتصادية أصبحت في مستوى أحسن وأفضل.

بدأ هذا القرن (15هـ/20م)، وبقيت عجلة النماء والتطور تسير في كل اتجاه. والإنسان هو محور الحياة، فهو الذي يؤثر ويتأثر في ركب الحضارة الحديثة والمعاصرة. وبقي نظام الطعام والشراب يتوسع ويتنوع في الإعداد، والطرق، والإمكانات، والأصناف. فزادت أنواع الأشربة والأطعمة عند الأفراد، والأسر، وعلى مستوى القرى، والمدن، والحواضر، والمناطق.

وتراجعت المواد الغذائية المحلية، وفاضت الأشربة والأطعمة المستوردة من بلدان كثيرة في العالم، وتوسعت وتعددت المطاعم، وأنشئت مخازن الأطعمة والأغذية التجارية الكبيرة، وزادت وتعددت الأيدي العاملة الوافدة في قطاع الأغذية والأشربة، وظهرت قاعات وصالات متعددة الأحجام والأغراض تقام فيها الكثير من المناسبات الاجتماعية، وتقدم فيها أصناف الولائم والأطعمة والأشربة . 

لقد عشت جزءاً من حياة الأولين، وعاصرت وشاهدت العقود الماضية من هذا القرن (15هـ/ 20ـ21م)، ورأيت التطور التدريجي الذي جرى لتاريخ الشراب والطعام في نهاية القرن الهجري الماضي، والعقدين الأوليين من هذا القرن(15هـ/20م)، ثم التطور الحضاري السريع والكبير الذي حدث للأرض والناس خلال العشرين سنة الأخيرة ( 1425-1446 هـ/ 2004-2024م).

وكان الشراب والطعام أحد المجالات التي جرى عليها الكثير من التحولات الشكلية والمادية والمعنوية، وأصبح الإنسان مذهولاً مما يشاهده من تغيرات في ألوان، وأنواع، ومقادير، وأماكن، وتقاليد، وأنماط، وأعراف ميادين الشراب والطعام.

كما أنه يرى التأثيرات والآثار الإيجابية والسلبية التي يعيشها الناس في أساليب وأنواع طعامهم وشرابهم. ويجد طرق الشراب والطعام القديمة صارت معظمها من الموروث، وحل محلها ثقافات ومفردات ومصطلحات مستوردة وحديثة على بلادنا وحضارتنا المحلية. وهذا بدون شك ولد حاجزاً كبيراً بين تاريخ وحياة الآباء والأجداد، وبين أجيال الوقت الحاضر.

وأصبحت الأشربة والأطعمة القديمة غير مرغوبة ولامستساغة عند أبناء وبنات اليوم. وقد تحضر مناسبة اجتماعية كبيرة أو صغيرة، تُقدم فيها أنواع الأشربة والأطعمة القديمة والحديثة، فترى الأجيال المتأخرة تفضل الطعام الحديث والمستورد، ولا تميل كثيراً إلى الأكلات الشعبية المحلية، التي هي بدون شك أفضل في مكوناتها وفوائدها الصحية. 

الحديث يطول ويتشعب إذا أطلقنا العنان في توثيق تاريخ الطعام والشراب المعاصر، ووسائل التواصل والتقنية الحديثة لعبت دوراً رئيسياً في الدعاية والتسويق للمواد الغذائية الحديثة والمستوردة ، واتصال العالم بعضه ببعض في وقتنا الحاضر أوجد الدعم والتثقيف للأغذية والأشربة الدخيلة والوافدة إلى بلادنا. وتراجع الاهتمام والعناية بأنواع الشراب والطعام البلدي القديم، مع أنه الأجود وما جرى ويجرى من التقليل بأهمية الشراب والطعام المحلي، امتد أيضاً إلى كل المجالات الحضارية المحلية الأخرى، وهذه ضريبة العولمة التي تحارب كل قديم وأصيل .  

ثانياً / اللباس والزينة : لم يكن عند التهاميين والسروييين زيًّا موحداً في النوع والشكل وطريقة اللباس. إنما الظروف الاقتصادية والجغرافية الطبيعية فرضت على الناس نوعية ألبستهم. فأهل الأجزاء التهامية يلبسون الملابس الخفيفة لشدة الحرارة في فصل الصيف واعتدالها في الشتاء. وتتفاوت طبقات المجتمع التهامي في أنواع ألبستها الداخلية والخارجية. فالسواد الأعظم خلال العقود الثمانية الأولى من القرن(14هـ/20م) كانت ألبستهم قليلة جداً وأنواعها رخيصة ورديئة، بعكس الأغنياء والأعيان والوجهاء وعلية القوم فألبستهم وأدوات زينتهم أفضل من غيرهم.

لم تكن أيضاً ألبسة أهل السراة خلال القرون الماضية المتأخرة في وضع ممتاز، لكنها أحسن في النوع والمستوى من أهل تهامة، ومن سكان البوادي في الأجزاء السروية الشرقية. وتذكر بعض المصادر، وبخاصة مدونات الرحالة، بعض الألبسة الرجالية والنسائية في الطائف، وبيشة، وأبها، والنماص، ونجران خلال القرنين (13ــ14هـ/19ــ20م). 

 لقد وثقت بعض المدونات عن أدوات الزينة وألبسة الرأس، والبدن، والأقدام للرجال والنساء في معظم بلدان تهامة والسراة، وذكرت الكثير من أسماء الألبسة التي كانت مستخدمة خلال القرون الماضية (ق1100ــ1400هـ/ 1688ــ1980م)، وطريقة صنعها واستخدامها وأهميتها، وأشرت إلى الألبسة المصنوعة محليًّا، والمستوردة من الأسواق الأسبوعية التهامية والسروية، أو من حواضر الحجاز الكبرى، أو بعض الأسواق المحلية والإقليمية. داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها. 

(*) وأثناء إقامتي في سروات بني شهر وبني عمرو خلال العقدين الأخيرين من القرن (14هـ/20م)، وقضاء بضعة أعوام من التاريخ نفسه في مدينة أبها، وسفري إلى بعض مدن المملكة في المناطق الجنوبية، والغربية، والوسطى، والشرقية، شاهدت وتذكرت بعض الصور التاريخية عن ألبسة الناس وأدوات زينتهم ، وأدون في النقاط التالية لمحات من تلك المشاهدات، وهي على النحو الآتي: 

أ – كانت حياتنا ريفية، ولا نملك الكثير من اللباس وأدوات الزينة، فالرجال الكبار، والنساء الكبيرات حتى نهاية الثمانينيات من القرن (14هـ/20م) لا يملكون أكثر من ثوب أو ثوبين، وقليلاً جداً الذين عندهم ثلاثة أثواب وملحقاتها مثل العمامة، أو الرداء، أو ألبسة القدم. أما الألبسة الداخلية فهي قليلة جداً عند الجنسين، ونادرة أو لا توجد عند الأطفال ذكوراً أو إناثاً. وحياة الأرياف البعيدة عن القرى أو المراكز الحضارية في معظم السروات من أبها إلى الطائف..

وكذلك سكان البوادي فأحوالهم المعيشية العامة أقل بكثير من أوضاعنا في سروات النماص وما شابهها من القرى الكبيرة. وكنت أشاهد بعض أبناء القرى الذين التحقوا بالوظائف الحكومية في المدن السعودية الكبيرة عندما يعودون إلى قراهم في إجازاتهم الرسمية، يُحضرون معهم الكثير من الهدايا لأفراد أسرهم، وأحياناً لسكان قراهم (رجالاً ونساءً)، ومعظم تلك الهدايا أقمشة، وألبسة للرأس للرجال والنساء الكبار والكبيرات، وجميع تلك الهدايا جلبوها من أسواق المدن الكبيرة في الحجاز، أو نجد، أو المنطقة الشرقية.

وأرى أثناء ذهابي إلى المدرسة في مدينة النماص ألبسة زملائي الطلاب بسيطة ومحدودة، فلا تزيد عن ثوب وغترة وطاقية (قبعة، أو كوفية)، وكلها من الأنواع الرخيصة، ونادراً ترى إنساناً لديه ألبسة غالية حتى بداية العقد التاسع من القرن الهجري الماضي. والمدرسون السعوديون، وهم قليلون جداً، ملابسهم أقل من عادية، والمعلمون المتعاقدون جميعهم أو معظمهم يلبسون البنطال والقميص، وفيهم من كان يلبس الربطة (الكرفتة) في العنق، ورؤوسهم مكشوفة، ويلبسون (الكندرة) في القدم، أو أحذية أخرى أجود من أحذيتنا وأحذية المدرسين السعوديين.

وكان على مقربة من مدرستنا سوق الثلاثاء الأسبوعي، كنا نتردد عليه يوم السوق ونشاهد الكثير من البضائع المحلية، وبعض المستوردة، ومنها الأقمشة، وألبسة أخرى عديدة رجالية ونسائية، أما ألبسة الأطفال فلا توجد أصلاً، وشاهدت بعض الأحذية الجلدية أو البلاستيكية، ونماذج من الأسلحة والأحزمة التي يتزين بها الرجال، وبعض أدوات الزينة مثل: الريحان وأشجار عطرية أخرى، والحناء، والبخور أو ما يسمى بالظفار، وبعض العطور المستوردة من أسواق اليمن والحجاز وغيرها .

ب – كنت في السنوات الأخيرة من العقد الثامن في القرن (14هـ/20م) أجلس في مجالس النساء الكبيرات والرجال الكبار، وأسمعهم يتحدثون عن الفقر والعوز الذي عاصروه ولحقهم من أربعينيات وربما ثلاثينيات القرن نفسه إلى الزمن الذي سمعتهم يروون بعض أخبارهم وقصص من حياتهم وحياة السابقين. كما عاصرت بعض المناسبات الاجتماعية في قرى النماص، وتنومة، وبني عمرو ..

ورأيت الرجال والنساء يلبسون أفضل ما لديهم من لباس وزينة. فالرجال يلبسون الثوب والغترة وأحياناً العقال، وبعض الأحزمة وغيرها من الأسلحة كالبنادق وبعض السيوف. أما النساء فيلبسن الثياب والأقنعة وبعض الجواهر والخواتم وغيرها. ولم يكن كل الناس عندهم تلك الألبسة، فترى أكثرهم (رجالاً ونساءً) يستعيرون بعض الألبسة وأدوات الزينة من غيرهم ومن تتوفر عنده أثناء حضورهم مناسباتهم الاجتماعية كالزواج وغيرها من الاحتفالات الفرائحية.  

ج – أوثق هذه المعلومات من خلال المشاهدات الشخصية في سروات بني شهر وبني عمرو وفي الفترة نفسها ذهبت إلى قرى خاط والمجاردة ورأيت ألبسة الناس أدنى في المستوى والجودة من قرى السروات، وعاصرت بعض موظفي الدولة الذين عادوا من وظائفهم لقضاء إجازاتهم في قرى تهامة، أو بعض المدرسين والموظفين المحليين في بلدتيّ المجاردة وخاط، فكانت ألبستهم أنظف وأفضل من ألبسة عامة الناس.

ولم يكن عندي في ذلك الزمن معرفة واسعة عن ألبسة الناس في أرجاء تهامة لكنني بعد القراءات أثناء رحلتي البحثية الطويلة تبين لي أن معظم قرى وبوادي السراة وتهامة لم تكن بعيدة في المستوى عما شاهدته في قرى بني شهر وبني عمرو السروية والتهامية. أما المدن والحواضر الكبيرة في عموم البلاد مثل الطائف، والقنفذة، وأبها، ونجران، وصبيا، وجازان، وخميس مشيط، وبيشة فقد كانت أحوال بعض الناس فيها أفضل من غيرها، لأنها مراكز حضارية وإدارية كبيرة، وفيها الكثير من الأجناس البشرية المتنوعة، وأسواقها الأسبوعية مليئة بالبضائع المحلية والمستوردة، والألبسة والأقمشة وأدوات الزينة من أكثر السلع التجارية الرائجة.  

د – سافرت من نهاية الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات من القرن الهجري الماضي إلى الحجاز، والرياض، والمنطقة الشرقية، وذهبت إلى أبها وخميس مشيط وبيشة، وتوسعت مداركي ومشاهداتي، ورأيت زيادة وتنوع الألبسة وأدوات الزينة في هذه الأوطان، وأثناء رجوعي إلى موطني الأصلي سروات بني شهر وبني عمرو لاحظت تحسن أوضاع الناس تدريجيًّا، وبدأت ألبستهم وأدوات زينتهم تكثر وتتنوع في الأنواع والأشكال، وصار الأفراد والجماعات يقتنون ملابس داخلية وخارجية متعددة، وأصبحت الكثير من الألبسة وأدوات الزينة تعرض في الأسواق الأسبوعية وبعض المحلات التجارية في مدينة النماص، وبعض القرى الكبيرة في البلاد.  

انتقلت من النماص إلى أبها لدراسة الجامعة (1396ــ1400هـ/1976ـ1980م)، وعاصرت وزاملت الكثير من طلاب تهامة والسراة، ورأيت الكثير من أعضاء هيئة التدريس الوافدين من بلدان عربية وإسلامية وأجنبية عديدة. وبدأت العمالة الوافدة تزيد وتتكاثر في كل مكان، وسارت عجلة التنمية الاقتصادية والحضارية نحو التطور والازدهار.

ورأيت الكثير من التغيرات خلال سنوات الجامعة الأربع، ولم تعد الملابس وأدوات الزينة قليلة ومحدودة عند الناس كما كانت في العقود السابقة (1301ــ1390هـ/ 1884ــ1970م)، بل أصبح هناك أسواقاً صغيرة ومتوسطة يومية في المدن الكبيرة ببلاد تهامة والسراة، والكثير من سلعها ألبسة داخلية وخارجية لجميع شرائح المجتمع، وزادت أدوات الزينة المستوردة من أمكنة عديدة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.

وأذكر أيام دراستي في كلية التربية بأبها أنني كنت أتردد على أسواق أبها وخميس مشيط الحديثة، وذهبت إلى مدن عديدة في الحجاز، والمنطقتين الوسطى والشرقية وشاهدت ألبسة متنوعة وكثيرة بعضها صناعة (خياطة) محلية، وأكثرها مستوردة من خارج البلاد. وأصبحت أمكنة الخياطة الرجالية، ومشاغل التجميل والخياطة النسائية في مدن عديدة من مناطق الطائف، والباحة، وعسير، وجازان، ونجران.  

لاحظت تنوع الألبسة في حاضرتي أبها وخميس مشيط، بسبب تعدد الأجناس البشرية التي جاءت إلى هذه البلاد. فطلاب الجامعة تتشابه ألبستهم في الشكل العام، لكن هناك أيضاً بعض الاختلافات وتأثيرات بيئاتهم الأصلية، فأهل تهامة من القنفذة إلى جازان تختلف أنواع وهيئات ألبستهم عن أهل السراة.   

كانت العناصر الوافدة إلى بلاد عسير وغيرها من أرض السروات سواءً من داخل المملكة أو خارجها، تتفاوت في ألبستها بشكل أوسع وأوضح من السكان المحليين السرويين والتهاميين . فكنت أرى بعض العناصر الحجازية، أو الخليجية وغيرها يختلفون عن بعضهم نوعاً ما، في نوع اللباس وشكله وطرق استخدامه.

والوضع نفسه عند الأجناس الخارجية، فالباكستاني أو الأفغاني مثلاً يختلف عن الكوري أو الصيني أو الأوربي أو الأمريكي، والجنسيات العربية أو الإسلامية تتباين في طرق لبسها، وأسماء ألبستهم وأدوات زينتهم وتقاليدهم وعاداتهم الخاصة بالزينة واللباس. أما تنوع ألبسة النساء فأوسع وأكثر مما عند الرجال.       

(*) ذهبت في مطلع هذا القرن (15هـ/20م) للدراسة في أمريكا وأوروبا ، وكنت كل عام أعود في إجازة قصيرة إلى بلادي في منطقة عسير، وعند الانتهاء من الدراسة الخارجية رجعت واستقريت في حاضرة أبها ومازلت أعيش فيها إلى الآن (1447 هـ /  2025م)). وخرجت ببعض الانطباعات العامة عن التاريخ الحديث والمعاصر ( 1401 – 1447هـ / 1981 – 2025م)) في مجال اللباس والزينة، وأذكر أهمها في البنود التالية :     

1- إن تحسن أحوال الناس المادية، واتصالهم بغيرهم في الداخل والخارج، ومشاهدات وسائل الإعلام المختلفة جعلت أنواع الألبسة تتنوع في موضوعاتها، وموديلاتها، وصار التأثير الحضاري الخارجي يصل إلى كل فرد وأسرة في بلدان السروات وتهامة بل في جميع مدن وحواضر ومناطق وقرى المملكة العربية السعودية. وثقافة الزينة واللباس من أكثر المجالات البشرية المحلية التي تأثرت بالثقافات الوافدة من خارج البلاد.  

2 – لعبت الحياة التجارية أدواراً عديدة في توسيع القاعدة الحضارية الاقتصادية في أنحاء المملكة العربية السعودية. وتهامة والسراة جزء من الوطن السعودي الكبير. وبدأت مجالات التجارة تتزايد وتتوسع وتتنوع خلال العقود الأربعة الماضية ( 1406-1446هـ/ 1986-2024 م)، ونشأت المحلات التجارية الصغيرة أو المتوسطة في بداية هذا القرن(15هـ/20م) ثم تطورت حتى صارت اليوم أسواقاً ومولات كبيرة تشتمل على شتى البضائع الإقليمية والمحلية.

والذاهب في أرجاء محافظات ومدن ومناطق السروات وتهامة يشاهد مئات الأسواق الكثيرة والعملاقة المتخصصة في الألبسة وأدوات الزينة المستوردة من بلدان عربية وإسلامية وأجنبية عديدة، والأقمشة والألبسة الصينية الداخلية والخارجية تتصدر البضائع المعروضة للتسويق. وأصبحت تمثل حيزاً كبيراً من ألبستنا الشخصية اليومية.

وقد تجولت مؤخراً في عدد من أسواق الملابس وأدوات الزينة في مدن الطائف، والباحة، والقنفذة، وبيشة، والنماص، ومحايل عسير، وأبها، وخميس مشيط، وسراة عبيدة، ونجران، وصبيا، والدرب، وأبو عريش، وجازان وغيرها فرأيت آلاف الموديلات من الألبسة النسائية والرجالية، وملابس الأطفال الداخلية والخارجية، وجميعها مستوردة من خارج البلاد، أما الألبسة المحلية القديمة، فتوجد بأعداد قليلة في بعض الأسواق اليومية أو الدكاكين أو الأسواق الشعبية، والإقبال عليها في أدنى المستويات، وزبائنها غالباً من الأجيال الكبيرة والمتقدمة في السن.  

3 – ليس هناك وجه مقارنة على الإطلاق بين نظام اللباس والزينة قديماً، وما يعيشه الناس في وقتنا الحاضر. ولا ننكر أن الكثرة والطفرة الحضارية المعاصرة في شتى البضائع تُعد فضل ونعمة من الله (عز وجل)، لكن السلبيات الكثيرة التي جاءت مع التجارات الحديثة، ومنها أدوات الزينة والملابس، يصعب حصرها. ومن أهمها تقليد رجالنا ونسائنا للموضات الخارجية التي تخدش الحياء، وتكشف عورات الناس..

والتشبه بأعداء الإسلام من اليهود والنصارى والبوذيين وغيرهم من الكفار والمشركين. والنقاش في هذا الباب يطول، وصار يُنظر إلى ستر الجسد عند النساء والرجال من الرجعية والتخلف في عيون البعض  من أجيال الوقت الحاضر. ومن يذهب إلى أي سوق للزينة واللباس، فالسمة الظاهرة على معظم الملابس الموجودة الصبغة الأجنبية، التي تتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي في كل ما يتعلق بأشكال وهيئات الألبسة وستر العورات. 

4 –  لم نشر إلى تفاصيل كل لباس (رجالي ونسائي) داخلي أو خارجي معاصر، ولا طرق صنعه وجلبه واستخدامه ، ولا الإيجابيات والسلبيات لكل نوع أو شكل، ولا الأسماء والمصطلحات اللغوية لهذه الألبسة الجديدة .ولا مستوى التعاملات التجارية مع أدوات الزينة والملابس المستوردة، ولا آثار هذه الألبسة السلبية على قيمنا ومبادئنا وعقيدتنا عند الجنسيين (النساء والرجال) أو الصغار والكبار..

ولا الظروف والمراحل التاريخية التي مرت بها الألبسة وأدوات الزينة في أرجاء تهامة والسراة من عام (1390ــ1447هـ/1970ــ2025م)، وغيرها من التساؤلات والميادين التي واكبت هذا التاريخ الحضاري المحلي خلال الخمسين عاماً الأخيرة.

وصل الله وسلم على الرسول محمد بن عبد الله ، خاتم النبيين وسيد المرسلين ، عليه أفضل الصلاة والسلام.

**********

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *