الأربعاء ٢٧ أغسطس ٢٠٢٥ الموافق ٤ ربيع الأول ١٤٤٧ هـ

الألعاب الرياضية، ووسائل التسلية في (عسير، والباحة، وجازان، ونجران ) خلال العصر الحديث – بقلم : أ . د . غيثان بن علي بن جريس

الألعاب الرياضية، ووسائل التسلية في (عسير، والباحة، وجازان، ونجران ) خلال العصر الحديث – بقلم : أ . د . غيثان بن علي بن جريس
أولاً : الألعاب الرياضية : الرياضة من الفنون الاجتماعية التي عرفتها جميع الحضارات قديماً وحديثاً. وأوطان تهامة والسراة ذات موقع استراتيجي تربط بين اليمن والحجاز، ولها اتصال مع صحارى نجد إلى بلاد الخليج العربي، وتطل على شرق البحر الأحمر الذي سلكه الكثير من البشر وساروا إلى شرق الكرة الأرضية وغربها، أو اتصلوا بالعديد من البلدان الإفريقية.
 
(*) كان لأهل السراة وتهامة أنشطة رياضية متنوعة ، بعضها تمارس داخل المنازل، وأخرى خارجية. وهناك بعض الظروف والمؤثرات التي شكلت أنواع الرياضات ، ومما قرأت وجمعت وشاهدت في هذا الميدان أرصد بعضاً من الألعاب الرياضية القديمة على النحو الآتي :

اشتغلت عقوداً عديدة ومازلت في ميدان التوثيق والبحث العلمي، ثم طبعت ونشرت آلاف الصفحات عن تاريخ وحضارة جنوب شبه الجزيرة العربية (تهامة وسراة) قبل الإسلام وبعده. ويوجد ضمن هذه الأعمال العلمية صفحات كثيرة عن التاريخ الاجتماعي، وللألعاب الرياضية نصيباً لا بأس به في هذه الدراسات المنشورة ورقياً ورقمياً .

نجد كتب التاريخ والحضارة الإسلامية داخل شبه الجزيرة العربية، وبخاصة تاريخ المدن، أو الحواضر. وكتب الرحالة العرب والأجانب في العصر الحديث تشتمل على توثيقات لا بأس بها عن بعض الرياضات الخارجية داخل بعض القرى والمدن في بلاد الحجاز، والباحة، وعسير، وجازان، ونجران.

ومن يعكف على دراسة هذا الموضوع من خلال المصادر والمراجع الآنف ذكرها خلال القرنين (13ــ14هـ 19ـ20م) فسوف يُطلعنا على تاريخ رياضي لسكان هذه الديار في العصر الحديث. واطلعت على بعض وثائق القرنين الماضيين المتأخرين فوجدتها لا تخلو من إشارات متنوعة عن الألعاب الرياضية التي كانت تمارس في الحواضر والقرى والأرياف السروية والتهامية.

من يعرف حياة الأوائل إلى نهاية القرن (14هـ 20م) يجد أنهم يقضون ( ذكوراً وإناثاً ) معظم أوقاتهم في المشي بحثاً عن أرزاقهم، والقليل جداً من رجالهم يركبون الدواب كالجمال، والحمير، والخيول. وهم دائماً في حركة ورياضة، وانعكس ذلك على قوة أجسادهم، ورشاقتها.

تتفاوت تضاريس تهامة والسراة، وأحوالها الجوية، وهذا يؤثر قطعاً على ذهاب الناس وإيابهم، وحركاتهم ورياضاتهم اليومية. فأهل الساحل يقضون جزءاً من أوقاتهم مع البحر، فمنهم من يشتغل بصيد الأسماك، أو جمع المحار واللؤلؤ، ومن بينهم من يمارس السباحة في البحر، أو التنزه على الشواطئ.

والسكان في السهول التهامية، أو في منطقة الأصدار لهم رياضات ونشاطات مستمدة من بيئاتهم، فبعضهم يقومون بالرعي والزراعة، والصيد، وجمع الحطب، ومهن أخرى تحتاج إلى حركة وجهد عضلي. ومناطق السروات والبوادي تفرض عليهم أوضاعهم الجغرافية والمناخية أعمالاً ورياضات أخرى مستمدة من طبيعة بلادهم.
 
ومن تلك الأنشطة الرياضية السباق على الأقدام، أو بالخيول والحمير، أو المصارعة بين الشباب، أو القفز، أو لعب بعض الألعاب التقليدية التي تعكس شيئاً من القوة، أو الخدعة، أو التفكير، أو الذكاء، أو السباحة في الآبار الجوفية أو العيون، أو المباريات عن طريق القنص بالبنادق، والنصع بالحجارة. والرجال والشباب هم من يمارسون مثل هذه الرياضات. وللصغار ذكوراً وإناثاً بعض الألعاب ،وأحياناً تتشابه بعض الألعاب التي تمارس داخل المنازل، وخارج البيت في المزارع، وأماكن الرعي وغيرها.
 
وللنساء رياضات خاصة بهن، وتختلف عن ألعاب الرجال والشباب، وسمعت ورصدت بعض الرياضات والألعاب التي كانت تمارس في مناطق جازان، وعسير، والباحة خلال القرون الماضية المتأخرة، واتضح لي أن معظم موادها محلية، ومفرداتها أو اصطلاحاتها اللغوية تختلف من مكان لآخر، وأحياناً تتشابه بعض الألعاب في الحركات، مع اختلاف مسميات وأدوات اللعبة الواحدة.
 
كان في مناطق السراة وتهامة خلال النصف الأول من القرن (14هـ/19ــ20م) بعض العناصر البشرية الوافدة من خارج شبه الجزيرة العربية، ومن بعض البلدان الداخلية كالحجاز واليمن، وجلبوا معهم بعض الألعاب الرياضية المختلفة في الوسائل والممارسة عن بعض الرياضات المحلية، وصاروا يمارسونها في مواطن إقامتهم، وبعضها انتشرت بين السكان المحليين حتى صارت ضمن نشاطاتهم الرياضية الداخلية والخارجية. وقد اطلعت على بعض الوثائق والمؤلفات التي أشارت إلى ألعاب عثمانية وفدت مع العثمانيين أثناء حكمهم بلاد تهامة والسراة من ثمانينيات القرن (13هـ 19م) إلى ثلاثينيات القرن (14هـ 20م) .
 
جاء النصف الثاني من القرن(14هـ/20م)، وتحولت حياة الناس نحو الاتحاد، وبناء الأرض والإنسان. وأنشئت الإدارات الرسمية، وجاء للعمل فيها الكثير من الأعلام المؤهلين علميًّا ومعرفيًّا. وتذكر بعض الوثائق والرواة أسماء رموزٍ قدموا إلى أبها في الخمسينيات والستينيات من القرن (14هـ 20م)، وكان لهم العديد من المبادرات المجتمعية، ومنها إنشاء أندية رياضية تمارس لعب الكرة وأنشطة أخرى عديدة. كما افتتحت المدارس النظامية في بعض المدن السروية والتهامية، وكان ضمن جداولها الدراسية ممارسة بعض الألعاب الرياضية، مثل كرة القدم، واليد، والسلة، والطائرة، وسباقات الجري وألعاب القوى وغيرها.
 
(*) قرأت وشاهدت الكثير من الأنشطة في تهامة والسراة من سبعينيات القرن الهجري الماضي إلى وقتنا الحاضر، وفي الفقرات التالية أذكر شيئاً مما عرفته وعاصرته:
 
1 – اطلعت على الكثير من الخطط الدراسية والتدريبية في وزارة المعارف، والرئاسة العامة لتعليم البنات، ووزارة التعليم العالي، ثم وزارة التعليم فوجدت أنها تحرص على توفير أنشطة لا صفية متنوعة ومنها ممارسة رياضات عديدة للذكور، وتدريبات مهنية كثيرة للإناث. وكانت حصص الرياضة في الماضي محصورة في مدارس البنين، وحالياً أصبحت في جميع المدارس الحكومية والأهلية للذكور والإناث.
 
ولا تقتصر الألعاب الرياضية المتنوعة على طلاب المدارس في مدارسهم فقط، إنما تُقام أنشطة رياضية ومباريات عديدة داخل المنطقة الواحدة، وبين المناطق المختلفة في المملكة العربية السعودية. أما في التعليم الجامعي فهناك كليات وأقسام علمية متخصصة في الرياضة البدنية، وبعض هذه المؤسسات التعليمية تتبع وزارة المعارف ثم التربية والتعليم، وأخرى ضمن هياكل بعض الجامعات السعودية.
 
ومن يتخرج في هذه الكليات يعملون معلمين ومدربين للألعاب الرياضية في المدارس النظامية الحكومية والأهلية، وفي الأندية الرياضية الرسمية والشعبية. وعاصرت وعرفت خلال الستين سنة الماضية (1385ـ1447 هـ / 1965 -2025م) عشرات الطلاب والمدرسين السعوديين الذين درسوا في أقسام التربية في كليات التربية البدنية في كليات المعلمين والتربية، ثم تخرجوا وعملوا مدرسين ومدربين للعديد من الألعاب الرياضية في قطاعات حكومية عديدة مثل المدارس، والمعاهد، والكليات الجامعية والعسكرية وغيرها.
 
2 – إنني أكتب صفحات من تاريخ بلاد مترامية الأطراف، وعن موضوع الألعاب الرياضية المتعددة والمتنوعة. ولو توقفنا مع كل لعبة رياضية محددة مثل: كرة القدم، أو الطائرة، أو ألعاب القوى، أو الرياضات الرسمية في المدارس، والأندية، والجامعات، والقطاعات العسكرية والمدنية، الرسمية والأهلية وغيرها، فإننا سوف نواجه مشاكل كبيرة لاتساع الموضوع وتعدد فروعه، وأحياناً ندرة المصادر والمراجع في العقود السبعة الأولى من القرن الهجري الماضي، بعكس الستين عاماً الأخيرة (1385ــ1447هـ/ 1965 – 2025م)/ )، فهناك مواد علمية مدونة كثيرة، لكنها متناثرة في إدارات وأراشيف حكومية عديدة، وربما بعضها ضاعت، أو أصابها التلف لعدم حفظها والاعتناء بها.
 
أما الرواة والأعلام المعاصرين للرياضة في مناطق جنوب المملكة فمازال الكثير منهم على قيد الحياة، وهم من المصادر المهمة التي يجب الاستفادة منها، بالإضافة إلى الكثير من الصور الفوتوغرافية، والأفلام الموجودة عند الأفراد، أو في بعض المؤسسات الإدارية، فهي أيضاً من المصادر الإيجابية الموثوقة.
 
3 – كان لشباب القرى والأرياف بعض الرياضات التي يقتبسون أفكارها من بيئاتهم، وربما وفدت إليهم من مناطق أخرى، فقد كانوا يحصلون على مواد ألعابهم مما في أوطانهم من إمكانات. فالكرة سابقاً كانت تُصنع من القماش، ويلعبونها الصبيان باليد أو الرجل، ثم ظهرت كرات الجلد أو البلاستيك، وأصبحت السائدة في حارات القرى والمدن، وشاهدت الكثير من الفرق التي تمارس رياضاتها الشعبية في قراها، وأماكن استيطانها المختلفة.
 
ومنذ نهاية القرن الهجري الماضي، وبداية هذا القرن(15هـ/20م) بدأت الرئاسة العامة للشباب تُعطى تراخيص لإنشاء أندية رياضية، ثم تزايدت خلال الأربعين سنة الأخيرة ) 1405 – 1447هـ/ 1985 – 2025م) حتى صار في كل مدينة تهامية وسروية كبيرة، أو محافظة نادي رياضي، له إدارة وميزانية، ومرافق معمارية، وجمهور، ولاعبين.
 
ومن خلال هذه النوادي عقدت الكثير من التدريبات والمباريات المحلية والإقليمية. ونشاهد في السنوات الأخيرة إنشاء وزارة جديدة للرياضة في المملكة العربية السعودية، وهي تسعى جاهدة إلى دعم وتطوير الرياضات المختلفة في أرجاء البلاد، والارتقاء بها إلى العالمية.
 
4 – زرت في السنوات العشر الأخيرة (1436 – 1446هـ / 2015 – 2024م) بعض مقرات المدن أو الأندية الرياضية في مناطق نجران، وجازان، وعسير، والباحة فوجدت بعضها منشآت كبيرة وعملاقة لما تحتوي عليه من ملاعب، وصالات، وأدوات رياضية، وأنشطة متنوعة في الرياضة، والعلم والثقافة.
 
واطلعت على الكثير من السجلات، والوثائق، والصور الفوتوغرافية. وبعض الأندية زودتني بكتيبات ومجلات محدودة تحتوي على صور من تاريخ هذه القطاعات خلال العقود الثلاثة الماضية. وطلبت من بعض المسؤولين الذين قابلتهم أثناء زياراتي الاجتهاد في أرشفة أوراق ومدونات وسجلات نواديهم، ورجوتهم توظيف التقنية في حفظ هذه المصادر التراثية التاريخية منذ البدايات، وهناك من قال لا نملك شيئاً عن التأسيس والنشأة.
 
ومن يدرس تاريخ الرياضة الحديثة في المملكة يجد أن هناك أعداداً غير قليلة من شباب تهامة والسراة بدأوا تاريخهم الرياضي في أحياء أو حارات مدنهم وقراهم، ثم التحقوا ببعض الأندية السعودية الكبيرة، وتطورت مواهبهم وقدراتهم حتى صاروا أعضاء مؤثرين وفاعلين في الرياضة السعودية داخل بلادهم وخارجها، ومنهم من حقق مراكز متقدمة وجوائز عالمية في الرياضات التي تخصصوا فيها واشتهروا بها.
 
5 – كوني معاصراً للرياضة الحديثة في منطقة عسير وما حولها من تسعينيات القرن الهجري الماضي، فقد عاصرت وشاهدت الكثير من المسؤولين والأعلام الذين دعموا وخدموا وشجعوا الرياضة في تهامة وسراة عسير، وفي مقدمتهم الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير حوالي أربعة عقود، فقد كان نموذجاً جيداً في دعم وتشجيع مسيرة الرياضة في المنطقة.
 
وهناك رموز أخرى من أهل البلاد حذوا حذو الأمير خالد في الرعاية والدعم المادي المعنوي. وفي الوقت الحاضر شاهدت أمراء مناطق الباحة، وجازان، وعسير، ونجران لا يدخرون جهداً في حضور المناسبات الرياضية المحلية، ولا يتأخرون في الدعم والتوجيه والرعاية التي تصب في خدمة تطوير جميع الألعاب الرياضية في مناطقهم .
 
6 – لاحظت في العقدين الأخيرين (1425ــ1446 هـ/2004ـ 2024م) زيادة عدد السكان في تهامة والسراة، وتعدد المشاريع الاقتصادية والترفيهية والرياضية. وانتشرت مراكز الرياضة أو اللياقة التجارية في مدن وحواضر عسير، وجازان، ونجران، والباحة . وزرت عدداً من هذه المراكز فوجدتها تتفاوت في مساحاتها، وإمكاناتها، وخدماتها، وأنواع الرياضات التي تقدمها. وجميعها في منشآت مغلقة، وبعضها تتكون من قسمين منفصلين للرجال والنساء،
 
وهناك مراكز أخرى مستقلة للرجال، أو النساء، وأسعارها تتفاوت، وعند بعضها عروض خاصة فتقدم خصومات جيدة لمدة عام، أو لبضعة شهور. وكان الكثير من العاملات أو العاملين فيها من العمالة الوافدة، ومؤخراً أصبح يعمل فيها بعض الفتيات والشباب السعوديين.
 
وزرت بعض الفنادق، والمدن، والمنتجعات السياحية في جازان، وعسير، والباحة، ورأيت فيها بعض الأماكن المخصصة للعديد من الألعاب الرياضية، مثل السباحة، وألعاب القوى، وبعض الأجهزة والأدوات الرياضية المختلفة. ويوجد في عدد من المدن، والقرى، والأرياف وبعض الحدائق وأماكن التنزه ملاعب رياضية مزروعة، انجزتها البلديات، وأخرى تم إصلاحها وتأجيرها من بعض التجار المستثمرين.
 
7 – قامت البلديات مؤخراً بإنشاء العديد من مسارات المشي داخل المدن، ويلاحظ انتشار الوعي الرياضي بين الناس، فترى هذه الأمكنة المخصصة للجري أو المشي مكتظة بالبشر (رجالاً ونساءً) من كل الفئات العمرية. ويوجد على جنبات هذه الممرات الكثير من الخدمات كالحمامات، ومحلات بيع بعض السلع التي يحتاجها المشاه، أو المتنزهين في الحدائق والجلسات القريبة من تلك الأماكن الرياضية.
 
وقد اطلعت على عدد من الدراسات والخطط التي تشرف عليها وزارة البلديات والاستراتيجيات التي يراد تنفيذها في المستقبل خدمة للحياة الرياضية. وقد نرى في قادم الأيام رياضات إقليمية وعالمية تقام في حواضر وأماكن عديدة من أرض السروات وتهامة.
 
ثانيا – وسائل التسلية ( الترفيه ) :
 
إن مفردتي (التسلية، أو الترفيه) متقاربتان في المعنى، لصلتهما بكل قول، أو عمل يجلب الراحة والاسترخاء للإنسان، أو الأفراد والجماعات الذين يمارسون أي حديث أو سلوك أو أعمال تضفى لهم أو عليهم أوقات من السعادة والاستمتاع الجسدي، أو الروحي أو النفسي، أو العقلي، أو بها جميعاً.
 
وهناك مئات الدراسات، والمدونات، والمنشورات التي ذكرت تفصيلات عن الترفيه والتسلية عند أمم وحضارات الكرة الأرضية عبر أطوار التاريخ. ولم تغفل الشرائع السماوية من الحديث عن الترفيه والترويح عن النفس(أفراداً ومجتمعات). وفي القرآن الكريم وكتب التفاسير والسنة النبوية الكثير من النصوص التي أشارت أو شرحت ميادين التسلية (الترفيه)، وأحكامها الشريعة، وأضرارها وفوائدها على الأرض والناس.
 
ولا تخلو كتب الحضارات الأخرى، والتاريخ العربي والإسلامي من مؤلفات، أو فقرات، أو صفحات كثيرة أرخت لأنواع كثيرة من مجالات الترفية (التسلية) الرسمية والشعبية، الفردية والجماعية، وعند كل الفئات المجتمعية (الصغار والكبار، الذكور والإناث، الحكام والمحكومين، الفقراء والأغنياء، الأذكياء والجهلاء، المتعلمين والأميين)، بل جميع الأجناس البشرية خلال العصور التاريخية .
 
امتدت رحلتي العلمية الدراسية ستين عاماً، منها أربعين سنة في القراءة والبحث والتوثيق. واطلعت على معظم مصادر التراث الإسلامي عند الدول الإسلامية في شرق الكرة الأرضية وغربها، ووجدت في تاريخ وحضارة هذه الأمم صفحات كثيرة من حياة الترفيه والتسلية، بعضها إيجابية وأخرى سلبية من منظور إسلامي. وكان للعلماء والفقهاء كتابات وفتاوى كثيرة لها صلة بالترفيه على مستوى الأفراد (ذكوراً وإناثاً)، والأسر، والمدن، والحواضر، والمجتمعات، والدول، والمؤسسات العامة والخاصة.
 
وفرضت الحياة السياسية التاريخية الحضارية لدولة الإسلام ظروفاً وإرهاصات كثيرة أثرت في حياة الناس وتركيبتهم السلوكية الاجتماعية الحضارية. فكانوا قبل الإسلام أجناساً عربية وغير عربية، لهم تراث ومعتقدات وثقافات متنوعة، ثم دخلوا دين الإسلام، واجتهدوا في تطبيق ما نص عليه القرآن الكريم، وكتب السنة، وما حث عليه وسطره علماء المسلمين وفقهائهم.
 
ولم يخل المجتمع الإسلامي من التأثير والتأثر بالحضارات الأخرى (اليونانية، والرومانية، والفارسية، والهندية) وغيرها. ومجالات التسلية والترفيه من الميادين سهلة الانتشار بين الناس، لما يصاحبها من ترويح يعود على العقل والنفس بالهدوء والاسترخاء.
 
إن بلادنا (سراة وتهامة) جزء صغير من العالم العربي والإسلامي، والعالم بأسره. فقد كان لها تاريخ قبل الإسلام وبعده، ولديها الكثير من الفنون والتراث والتقاليد الخاصة. لكنها مختلفة عن غيرها بسبب وعورة أرضها وانعزالها عن غيرها، ما عدا أطرافها الشمالية والجنوبية القريبة من حواضر الحجازيين واليمنيين. فقد كان لها صلات تاريخية وحضارية متبادلة.
 
وهذا الوضع بقي حوالي اثني عشر قرناً (ق1ــ ق12هـ/ق7ــ ق18). وإذا بحثنا عن فنون الترفيه والتسلية في هذه البلاد خلال تلك الفترة فلا نجد أي شيء من ذلك، وهذا لا يعني أنه لم يكن لهم تاريخ ونشاطات في هذا الجانب، كلا، لكن تاريخهم السياسي والحضاري لم يكتب ويوثق حتى الآن، لانعدام المصادر الموثوقة في هذا الباب.
 
بدأت تظهر تفصيلات تاريخية وحضارية عن السرويين والتهاميين من بداية القرن (13هـ/18م)، وعاش في هذه البلاد إمارات وقوى سياسية داخلية وخارجية، وصارت القوى الغربية الاستعمارية تصل إلى موانيها، وتتعامل مع الأحداث والسياسات المحلية والإقليمية.
 
واستمرت مجريات التاريخ الحديث المختلفة تتشكل في شبه الجزيرة العربية، وكان للعثمانيين وجود كبير في اليمن والحجاز وما بينهما خلال القرن (13هـ/18ــ19م) حتى ثلاثينيات القرن (14هـ/20م)، ثم ظهرت دول محلية أخرى عديدة، وكانت الدولة السعودية الحديثة أكبرها وأكثرها توسعاً وانتشاراً في جزيرة العرب، وصارت السروات وتهامة جزء من هذا الكيان الجديد الكبير( المملكة العربية السعودية).
 
ومع هذه التحولات التاريخية الحديثة توفرت الكثير من المصادر والمراجع التي تروى صفحات حضارية من حياة التهاميين والسرويين. وإذا درسنا تاريخ الترفية (التسلية) من بداية القرن (14هـ/19م) إلى الآن، فإننا نجد بعض الوثائق، والمخطوطات، والكتب المطبوعة والمنشورة، والروايات والقصص الشعبية تشير إلى لمحات من هذا التاريخ خلال القرن الهجري الماضي.
 
(* ) شاهدت وقرت عن فنون تسلية الناس خلال هذا القرن (15هـ /20ـــ21م)، وأرصد في الصفحات التالية شيئاً من هذا التراث الحضاري، على النحو الآتي:
 
تعد الألعاب الرياضية من ميادين التسلية والترفيه، كل حسب أهميته ومكانته الاجتماعية والبشرية. فهناك رياضات فردية، أو جماعية، أو رسمية وشعبية، أو نسائية ورجالية. وأخرى قديمة ومحلية، أو جديدة ومستوردة من أماكن كثيرة شرقية أو غربية، داخلية أو خارجية .
 
جميع الفنون الشعبية من أناشيد، ورقصات، وألعاب، وأشعار عربية ونبطية، وأهازيج ومقطوعات أدبية وغيرها من التراث التهامي والسروي معروفة وموجودة من عصور قديمة. ويُمارس هذا الموروث على المستوى الفردي، أو الأسري، أو القبلي. وفي بعض مفاصل الحياة البشرية الريفية، أو القروية، أو المدنية، وله حضور كبير في حياة الناس. واطلعت على بعض الكتب المطبوعة والمخطوطة، وسمعت عشرات الروايات والقصص الشفهية، وشاهدت الكثير من أنماط التسلية والترفيه التي كانت ومازالت تمارس عند الكثير من فئات المجتمع في مناطق جنوب المملكة العربية السعودية.
 
وللفنون الشعبية النصيب الأكبر في إقامة هذه الأنشطة الترفيهية. ويلاحظ في العقود الماضية المتأخرة تأسيس مؤسسات إدارية رسمية وأهلية، وتشكيل فرق شعبية تتولى الإشراف على الكثير من مناشط الترفيه (التسلية)، وتأدية العديد من الفنون الطربية الشعبية في الكثير من الاحتفالات والمناسبات الصغيرة، والمتوسطة، والكبيرة. ويوجد مئات الساحات العامة، والاستراحات، وقصور الاحتفالات والأفراح التي تقام فيها مناشط فرائحية ترفيهية، ويتولى إدارتها والإشراف عليها الكثير من المستثمرين ورجال المال والأعمال.
 
لا يمكن حصر مناشط الترفيه (التسلية) في مجال حضاري معين، أو في فئة، أو فريق، أو جماعة، أو مكان محدد. وغالباً يكون الترفيه والاسترخاء بعد التعب والعناء من عمل أو أعمال جسدية، أو عقلية فكرية، أو نفسية. وربما كان وقت التسلية والبحث عن الراحة دقائق، أو ساعات، أو أسابيع، أو شهور، أو عام، أو أعوام، كل حسب الظروف أو الأسباب التي تتفاوت من شخص لآخر. وقد يحتاج الترفيه إلى إمكانات مادية ومعنوية كثيرة، كالسفر، أو الخروج في نزهة برية أو بحرية، أو قضاء بعض الوظائف والأعمال الكبيرة أو الصغيرة، أو الضرورية.
 
ومن المحتمل أن يكون الهدف من الاسترخاء الجلوس والنوم وقضاء أكبر وقت ممكن في المنزل مع الأهل، أو الأقارب، أو الأصدقاء، أو ممارسة بعض الأنشطة التي يرغبها ويحبها هذا النوع من الناس، مثل القراءة، ومشاهدة الرأي (التلفاز)، أو زيارة الأقارب والأصدقاء والمرضى، أو الذهاب للحج أو العمرة، أو الخروج للاستجمام والتنزه لفترات قصيرة، أو ممارسة بعض الرياضات، كلعب الكرة، أو السباحة، أو الجري أو المشي أو غيرها.
 
جمال طبيعة السراة وتهامة، وكثافة غطائها النباتي، وتنوع تضاريسها، وجريان أوديتها بالمياه، واعتدال مناخها وجودته في الصيف أو الشتاء. كل هذه المؤهلات جعلت أهل البلاد يقضون أوقات من المتعة والاسترخاء في مناكب ديارهم.
 
ورأيت بعض المصادر التاريخية المتنوعة التي وصفت جمال بعض الأمكنة في حاضرة أبها، والسروات الممتدة من نجران وظهران الجنوب إلى الطائف خلال القرن(14هـ/20م)، وشاهدت وتجولت في أرجاء هذه المناطق من عام (1385ـ1430هـ/1965ــ2009م)، ووجدت الناس يمارسون حياتهم العادية بين المروج الخضراء في كل مكان. وعاصرت المدرسين وطلاب المدارس في مناطق عسير، والباحة يخرجون طوال العام الدراسي في رحلات برية إلى الغابات المتناثرة في كل مكان، ويجلسون حول الأودية والجبال الخضراء.
 
كانت الأجزاء التهامية في الماضي تعاني من قلة الخدمات، وانتشار الأوبئة حتى العقود الأخيرة من القرن (14هـ/20م)، ثم سرت عجلة النهضة الحديثة فيها فشقت الطرق التي تربط تهامة بالسراة، وتطور الوضع التعليمي والاقتصادي والعمراني، وتحولت المناطق التهامية، إلى مدن وبلدان متحضرة. وصارت عموم الديار التهامية من المنتجعات الترفيهية السياحية المأهولة بالسكان والأنشطة الحضارية المتنوعة.
 
واتصلت السراة بتهامة جغرافياً، وبشرياً وتنموياً. وزرت بعض مدن جازان، وتهامة عسير، والقنفذة، والمخواة، وقلوة، والليث مرات عديدة خلال هذا القرن(15هـ/20ـ21م)، وشاهدت أمكنة سياحية كثيرة، بعضها على شاطئ البحر، وأخرى في السهول، ومنطقة الأصدار. وأخبرني بعض المسنين في هذه البلاد، إلى أنهم كانوا في السابق يقضون بعض أوقات الاسترخاء والاستجمام على ساحل البحر، وفي بعض الخبوت، وعلى ضفاف بعض الأودية الصغيرة والكبيرة.
 
أثناء تدوين مادة هذا المحور، تحدثت مع بعض الأعلام في مناطق الباحة، وجازان، ونجران، وطلبت منهم أن يساعدوني ببعض الرؤى والإضافات في هذا المجال. فقال بعضهم « حياة الترفيه تتأثر بمستوى الدخل المادي، ووضع الحياة الاقتصادية. فكلما كان هناك يُسر في الوضع الاقتصادي يستطيع الفرد أو الأفراد (ذكوراً وإناثاً) الترفيه عن النفس حسب الرغبات والظروف والإمكانات. وعندما تكون الأحوال المادية ضعيفة أو متواضعة ، يكون الإنسان في كد دائم لتوفير ضروريات الحياة، ولا يستطيع أن يقضي أي وقت في التسلية أو التنزه والترفيه».
 
وفريق آخر يقول « إن ممارسة بعض الأنشطة الترويحية الترفيهية تخضع للظروف والبيئة التي يعيش فيها الإنسان. ففي الماضي كان الناس يعانون من الجوع والفقر وصعوبة الحياة، ويرفهون عن أنفسهم على قدر إمكاناتهم، وفي حدود قدراتهم المالية، والاجتماعية والحضارية، وحسب الأحداث، والأوقات، والعادات، والأعراف، والتقاليد، والمناسبات التي يعيشونها، ونادراً يوجد الإنسان العاطل الذي لا يعمل، بعكس الوقت الحاضر الذي توفرت فيه أوقات فراغ كثيرة، وزادت نسبة البطالة، مما يدفع الكثير من الشباب إلى الترفيه عن أنفسهم بطرق غير مفيدة، وأحياناً يواجهون الكثير من الفتن والشرور والسلبيات».
 
كنا نمارس في نهاية القرن الهجري الماضي، وبدايات هذا القرن (15هـ/20م) أنشطة محدودة من التسلية والترويح. ومع تطور البلاد اقتصاديًّا وتنمويًّا زادت مناشط الترفيه، وتعددت أغراضها، وأماكنها، ووسائلها، والقائمين عليها، وصارت من الأعمال المستهدفة تجارياً.
 
وتعددت سلبياتها وإيجابياتها، وتنوعت في مسمياتها، وأزمانها، ولم تعد مقصورة على ناحية، أو حاضرة، أو مدينة، أو منطقة، إنما تداخلت ثقافات وأهداف واستراتيجيات في الترفيه والترويح والسياحة المحلية، والإقليمية، والعالمية. وبدأت الجامعات والمدارس تدرج ضمن خططها ومناهجها مواد علمية ومعرفية عن الترفيه. وقد نشاهد في قادم الأيام كليات وتخصصات أكاديمية تمنح درجات علمية في مجالات التسلية والترفيه والاستجمام وغيرها.
 
بعد دخول الإنترنت وانتشاره في أصقاع الأرض، وما نتج عنه من انفجار فضائي رقمي، وما ظهر أو سوف يظهر في قادم الأيام من وسائل تواصل مع توظيف الذكاء الاصطناعي في حياة البشر. كل هذا خلق مجالات كثيرة وجديدة في ميدان التسلية والترفيه. ومن يشاهد أوضاع الناس اليوم مع وسائل التواصل، وتوظيف التقنية في صرف الأوقات الطويلة مع المشاهدات والألعاب الترفيهية السلبية والإيجابية يدرك ضخامة الأمر في تأثير عالم التقنية على حياة الإنسان في جميع جوانب الحياة.
 
لا أدعي أنني كتبت مدونة وافية عن الترفيه في تهامة والسراة خلال العصر الحديث . أرجو أن أكون وثقت بعض المعارف النافعة في هذا العنصر التاريخي الحضاري. وآمل أن يكون من الأبواب العلمية المعتنى بها في الأقسام العلمية الجامعية ، والمراكز البحثية المتخصصة. ولو خصصنا لكل منطقة( عسير، أو الباحة، أو نجران، أو جازان) مشروع بحث مستقل، فتلك من العناوين المهمة الجديرة بالاهتمام البحثي الجاد. وصل الله وسلم على رسول الله.
 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *