المتحف: مقر (مكان) تجمع فيه محتويات تراثية، وتاريخية، وأثرية، وحضارية ذات أهمية علمية، أو فنية، أو ثقافية وغيرها. ظهرت المتاحف في العصر الحديث في أوروبا في القرن (11هـ/17م) ثم ازدادت وتكاثرت وتطورت خلال القرون التالية حتى صارت اليوم بالآلاف وانتشرت في أرجاء العالم. وصدرت مئات الدراسات عن تاريخ المتاحف خلال القرون الخمسة الماضية (11ـ15هـ/17ـ21م)، ومعظم التراث المكتوب عنها بلغات أجنبية: كاللغة الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، والصينية، والهندية. وما زالت مصادر ومراجع اللغة العربية التي أرخت للمتاحف دون المأمول، مع أن الدول العربية والإسلامية مليئة بالمتاحف الوطنية (الحكومية) والأهلية.
سافرتُ وزرتُ عشرات البلدان شرق العالم وغربه وشاهدتُ الكثير من المتاحف القديمة والحديثة والمتنوعة في محتوياتها، وإداراتها، وملكياتها، وأهميتها في خدمة التاريخ والحضارة. وإذا حصرت كلامي على المملكة العربية السعودية، ففيها الكثير من المتاحف الخاصة والأهلية، وبعض المتاحف الحكومية المحدودة، لكنها مازالت تحتاج اهتمامًا وعنايةً كبيرة على المستويين الحكومي الرسمي، والأهلي (الشعبي).
بدأت أقرأ وأتجول في أرجاء تهامة والسراة، البلاد الواقعة بين حواضر اليمن والحجاز الكبرى، من تسعينيات القرن الهجري الماضي، وواصلت وما زلت مستمرًا أشاهد، وأبحث، وأكتب، وأسافر في مناكب هذه الديار حتى الآن (1447هـ/2025م). وعرفت وتأكدت أنَّها مستودع معرفي وحضاري كبير وفي شتى المجالات. ومن يقرأ تاريخ أهلها (تهاميين وسرويين) في الماضي والحاضر يجد أنَّ لهم تراثًا وموروثًا ماديًّا ومعنويًّا متنوعًا، لكن هذه البلاد مازالت غير مخدومة علميًّا وإداريًّا وتنمويًّا وسياحيًّا وحضاريًّا، ومن خلال الجهود الفردية وأحيانًا الرسمية في الستين سنة الأخيرة (1395ـ 1447هـ/1975ـ 2025م) ظهرت بعض المتاحف التاريخية التي تعكس شيئًا من تاريخ الأرض والناس في الزمن الماضي والحاضر. وفي الصفحات التالية أذكر لمحات مما سمعته، أو عاصرته، أو شاهدته عن هذا المجال في العقود الماضية المتأخرة، وأرصد مقتطفات من ذلك في النقاط التالية:
1- شاهدت خلال رحلاتي ودراستي داخل المملكة العربية السعودية وخارجها بعض المتاحف الحكومية وأحيانًا الأهلية، ورأيت ضمن محتوياتها بعض العينات أو الموارد الأثرية التي تم جلبها من أمكنة عديدة في تهامة والسراة، وبعضها عملات معدنية ومواد تاريخية أخرى تعود إلى عصور ما قبل الإسلام، أو خلال القرون الإسلامية المبكرة والوسيطة. وهذا يؤكد كلامي السابق. فالبلاد مليئة بالمصادر التاريخية القديمة السطحية والمدفونة، ومازالت بحاجة إلى جهود رسمية وعلمية جادة وكبيرة للتنقيب والبحث وجمع هذا التراث المهم الذي يحتوي على صفحات من حضارة هذه الديار في عصور قديمة.
2- قرأت عن عدد من الرحالة الأجانب الذين زاروا أمكنة عديدة في السراة وتهامة خلال القرنين (13ـ 14هـ/1ـ 20م)، وقد جمعوا الكثير من آثار ونقوش البلاد، وأرسلوها إلى متاحفهم في الغرب، ومازالت محفوظة في تلك المتاحف حتى الآن (1447هـ/2025م)، كما أن بعضهم أنجزوا دراسات علمية عن بعض نقوش وآثار بلادنا، وقد استفدنا نحن معاشر الباحثين والمؤرخين من هذه الأعمال العلمية.
3- رأيت في نهاية القرن الماضي(14هـ/20م)، والعقدين الأوليين من هذا القرن (15هـ/20م) بعض المؤسسات والكليات الجامعية التي أنشأت متاحف تاريخية، أو بيئية وطبيعية، بل بعضها كان عندها حدائق حيوانات مصغرة، وكانت كل هذه الإمكانات مخدومة ومرعية من القائمين على تلك الإدارات، وقد استخدمت في ميادين علمية وبحثية وتعليمية، لكن مع تبدل المسؤولين، أو انتقال تلك الكليات أو المؤسسات من مقراتها الأولى إلى أمكنة أخرى في نفس المنطقة أو المحافظة أو الحاضرة التي توجد فيها تلك المتاحف تم التخلص منها. وكوني معاصرًا لهذه التحولات التقيت ببعض الأعلام الذين كانوا قريبين من تلك المتاحف أو الحدائق ومن صناع القرار في تلك المؤسسات، وسألتهم عن مصيرها، وماذا جرى لها؟ فقال لي بعضهم لا نعلم، ويبدو أن عدم قناعة من تعاقب على تلك الإدارات أو الكليات في رعاية تلك المتاحف، كان السبب الرئيسي في إتلافها والتخلص منها. وحيث إنني أستاذ في التاريخ والحضارة، فقد اطلعت على محتويات تلك المتاحف الطبيعية أو التاريخية فوجدتها ثروة علمية كبيرة تحتوي على جزئيات من صفحات تاريخ البشر والطبيعة في بلدان عديدة من السروات وتهامة.
4- كانت بعض المعاهد أو الإدارات لا تخلو من متاحف زراعية، أو صناعية، أو طبيعية أوجغرافية، أو معارض تعليمية وأزياء وفنون، أو رسم وتصوير وغيرها من الأمكنة أو الآثار والتراث المحلي الذي يندرج تحت مجال المتاحف وأمكنة حفظ وعرض أشياء من موروثنا وتاريخنا الوطني. هذا تاريخ عاصرته ورأيته في مواقع عديدة من مناطق عسير، وجازان، ونجران، والباحة (بلاد غامد وزهران)، والطائف وغيرها خلال العشرين سنة الأولى من هذا القرن (15هـ/20م)، ثم زرت كثيرًا من تلك الأمكنة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن نفسه، فلم أجد أو أرى شيئًا مما شاهدته في السابق، وسمعت من الناس في بعض تلك النواحي يقولون: قد ضاعت واندثرت لانعدام الرعاية والاهتمام بها.
5- إنَّ المتاحف الخاصة (الأهلية) اليوم الأكثر انتشارًا في أرجاء السروات وتهامة. وقد شاهدت متاحفًا خاصة جيدة في بدايات هذا القرن (15هـ/20م) لكن بعد موت أصحابها ومؤسسيها اندثرت ولم يصبح لها وجود. وخلال الثلاثين سنة الأخيرة (1415ـ 1446هـ/1995ـ2024م) زرت أكثر من عشرين متحفًا خاصًا في مناطق تهامة والسراة، وقابلت أصحابها، وسمعت شيئًا من بداياتهم وتاريخهم مع متاحفهم، وبعضهم ذكر لي شيئًا من مشاكلهم وظروفهم وتطلعاتهم في الاعتناء بهذا الموروث الحضاري المحلي، وخرجت ببعض الرؤى مما شاهدته وسمعته، وأذكر شيئًا من ذلك في البنود الآتية:
أ ـ جميع المتاحف التي رأيتها أو سمعت عنها موجودة في أبنية وأملاك خاصة لأصحابها، بعضها مقرات قديمة وأخرى في عمارات حديثة، أو مكونة من مرافق حديثة وقديمة. وجميع أصحاب هذه المتاحف من سكان السروات وتهامة، ويتفاوتون في أعمارهم من الثلاثينيات والأربعينيات إلى الثمانينيات، وكل الذين التقيت بهم من الرجال، ولا أعلم حتى الآن (1447هـ/2025م) هل هناك متاحف يملكها أو يقوم عليها نساء.
ب ـ كل المتاحف التي رأيتها أو سمعت عنها تتفاوت في مساحاتها، ومقتنياتها، وشهرتها، وتمويلها ورعايتها، واستفادة الناس منها، ومقراتها، فمنها: الموجود في قرى ريفية أو مدن وأمكنة نامية ومتمدنة. والذي علمته بشكل عام أنها لا تجد الدعم والرعاية الكافية، وفي الغالب يقوم على كل متحف شخص واحد، هو صاحبه الرئيسي الذي أسسه وقام عليه، وذهبت إلى بعض المحافظات للاطلاع على محتويات متاحف محدودة، فوجدت ملاكها الرئيسيين غير موجودين، فقد ذهبوا لبعض أعمالهم خارج قراهم ومنهم من تُوفي منذ زمن ليس بعيد، ولم نحقق أي نتيجة إيجابية من رحلاتنا إلى تلك المتاحف. ومن أكبر المعوقات التي تواجه أصحاب المتاحف الخاصة، اعتمادها على الجهود الفردية الذاتية غير المدعومة رسميًّا وشعبيًّا، وفي النهاية تندثر وتضيع.
ج ـ رأيت ووقفت على متاحف تعليمية، وزراعية، ومعارض رسامين ومصورين، ومتاحف تاريخية مليئة بالأدوات الاقتصادية المحلية القديمة في مجالات الرعي، والزراعة، والجمع والالتقاط، والصيد، وحرف وصناعات، وتجارات، وأدوات طبخ ولباس وزينة وغيرها. ومعظم أصحاب تلك المستودعات التاريخية التراثية بذلوا الكثير من أموالهم، وأفكارهم، ونشاطاتهم المختلفة بهدف الحفاظ على هذا الموروث والتاريخ الوطني، وإذا بحثنا عن جهود الوزارات والمؤسسات الرسمية المعنية برعاية وحفظ تاريخ وتراث البلاد فلا نجد لها الجهد الواضح والفعلي لخدمة هذه الأنشطة والجهود. وغالبًا نجد ضياع وتبدد هذا التراث بموت صاحب المتحف أو مرضه وعدم قدرته على مواصلة إشرافه وصيانة لمعرضه أو متحفه التاريخي.
د ـ يشاهد الذاهب في أرجاء البلاد التهامية والسروية آلاف المتاحف الطبيعية الماثلة للعيان، وهي القرى التراثية القديمة الموجودة في كل مكان. والكثير منها تهدمت واندثرت بشكل كلي أو جزئي، وما زال هناك مئات القرى الطينية، أو الحجرية، أو حجرية وطينية شاخصة أبنيتها ومرافقها من الحصون والقصور، والمنازل، والمساجد والجوامع، والآبار، والمقابر، والمدرجات الزراعية وغيرها. وكل هذه المعالم جزءٌ مهمٌ ورئيسي من تاريخ السروات وتهامة في عصورها الماضية.
(*) في نهاية هذا المقال أدون بعض الرؤى والمقترحات والتوصيات ذات العلاقة بالمتاحف وأهميتها التاريخية، وكيفية رعايتها ودعمها وأصحابها؛ لأنها من المصادر الرئيسية لتاريخ وحضارة البلاد.
1- يجب دعم وتشجيع كل إنسان اجتهد وسعى إلى حفظ شيء من تاريخ بلاده وأهله. وأصحاب المتاحف الأهلية من الأعلام التهاميين والسرويين الذين ساهموا بجهود ذاتية في جمع وحفظ موارد ومصادر مهمة من التاريخ والحضارة المحلية. ومن يطلع على محتويات الكثير من تلك المتاحف يجدها فعلًا تشكيلة كبيرة من التاريخ المادي والمعنوي لأهل تهامة والسراة.
2- يجب ألَّا تُترك هذه المتاحف قائمة على رعاية أصحابها فقط، بل تتعاون وزارات التعليم، والثقافة، والسياحة، والبلديات والإسكان وغيرها من المؤسسات الرسمية والأهلية لخدمة هذا المجال وتنشئ آليات ونظام حكومي رسمي يتولى الإشراف التنظيمي والإداري والمالي والتوعوي لجميع المتاحف الحكومية والأهلية. وإن تم ذلك فإننا نحافظ على إرث وتاريخ محلي كبير ومتشعب يعكس أصالة وعراقة بلادنا حضاريًّا، وإذا خُدم علميًّا وتقنيًّا وعمرانيًّا وثقافيًّا وتنمويًّا، فسوف نجني الكثير من الازدهار الاستثماري والسياحي المحلي والإقليمي والعالمي.
3- أشرت سابقًا إلى القرى التراثية في تهامة والسراة، وإذا تم الاعتناء بها بطرق تنموية وتطويرية حديثة، فهي الأخرى تشكل مصدرًا ورافدًا ثقافيًّا واقتصاديًّا كبيرًا ومهمًا. ويجب أن تتضافر الجهود بين القطاعات الحكومية والأهلية في كل مجال يعود بالنفع على تطوير الأرض والإنسان. وهناك الكثير من الميادين التي تستحق العناية والاهتمام، وفي مقدمتها القرى التراثية والمتاحف التاريخية لما تشتمل عليه من حضارة وموروث عاصره وشيده الآباء والأجداد في قرون غابرة. .. وصلى الله وسلم على رسول الله.
التعليقات