الجمعة ٤ يوليو ٢٠٢٥ الموافق ٩ محرم ١٤٤٧ هـ

لماذا نصلي؟ رحلة من الطقوس إلى جوهر العلاقة مع الله – بلقم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

لماذا نصلي؟ رحلة من الطقوس إلى جوهر العلاقة مع الله – بلقم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

الصلاة ليست مجرد طقوس حركية نكررها خمس مرات يوميًا، ولا واجبًا نؤديه تحت وطأة الخوف من العقاب. إنها طريقٌ إلى الله رسمه لنا نبينا الكريم ﷺ خطوةً بخطوة، حركةً وسكونًا، دعاءً وصمتًا.

حين قال عليه الصلاة والسلام: “صلوا كما رأيتموني أصلي” لم يكن يُعلمنا مجرد شكل. بل كان يفتح لنا بابًا نَلِجُ منه إلى جوهر العلاقة مع الله، علاقة يتحرك فيها الجسد في انسجامٍ تام مع الروح، ويتناغم فيها الفرد مع مجتمعه في مشهد منظم تتجلى فيه عبودية الإنسان لخالقه.

في لحظة النية، يبدأ الانفصال عن العالم. يترك المصلي كل ما في الخارج، ويتوجه التفكير والحركة إلى وجهة واحدة بالشروع في أداء الصلاة. فيأتي التكبير كإعلان ذاتي عن بدء رحلة التغيير وانتقال الروح والجسد من عالم الحضور إلى عالم الخضوع. تقوم هذه الرحلة على عدد من الأمور لا تكتمل جودتها إلا بتطبيقها.

فالقيام في الصلاة ليس مجرد وقوف، بل هو وقوف عبد بين يدي مولاه، يقف بخشوع ظاهر وخضوع باطن. ثم الانحناء في الركوع ليس تمريناً رياضياً، بل هو تسليم بالضعف والحاجة. فينكسر كبرياء النفس ويبدأ القلب بتلقي نفحات الله فيرتاح، ليجد فيه المصلي سكينة لا تضاهيها سكينة.

ثم يأتي السجود ليعبر عن لحظة اللقاء الأقرب، حيث النزول إلى أدنى ما في الأرض للاقتراب إلى أعلى ما في السماء. وفي هذه الدرجة، تكون أقرب ما تكون من ربك، لا بحجم الدعاء فقط، بل بحجم الذل الطوعي. ومن أقر بهذا الخضوع، عرف كيف يتطهر من الغرور.

وما بين هذه الحركات، يتنقل البدن في نظام دقيق لا فوضى فيه ولا عبث. إنه انسجام بين الروح والجسد، يؤكد أن الإنسان ليس روحًا عائمة ولا مادة جامدة، بل كيانٌ متكامل لا يصح إلا بتوازن الاثنين.

الصلاة ليست عزلة روحية جسدية، بل اجتماع تربوي. ففي كل مرة تقف فيها في صفٍّ مع إخوتك، يسقط التفاضل وتتوحد الأنفاس. يُبنى جدارٌ معنوي عنوانه: نحن عبادٌ لله وحده. لا فضل لأحد على أحد، ولا فرق بين غني أو فقير، قوي أو ضعيف إلا بالتقوى. ففي المسجد، تتربى الروح على العدل، ويتهذب الجسد على النظام، ويتدرب القلب على التواضع. إنها تجربة يومية عملية تذكرنا بقيمنا الإنسانية المشتركة في زمن يميل نحو الفردية.

هذه الصلاة… بهذا الشكل… بهذا الترتيب… لم تكن اجتهادًا نبويًا، بل كانت وحيًا يُوحى. ولذلك، فاتباعنا لها ليس تقليدًا جامدًا، بل وفاءٌ لطريقٍ مشى عليه خير من عبد الله، مشى عليه جيلٌ رُبِّيَ في كنف النبوة فبلغ قمة النضج الإيماني والإنساني.

إذا كانت بعض الملل قد ضيّعت عباداتها حين جعلتها طقوساً بلا ضوابط وحركات بلا تنظيم، فإن الإسلام حافظ على صلاته. لا لأنها شكل محفوظ، بل لأنها معنى مُجسد. فكل حركة فيها تقول شيئًا، وكل سكونٍ فيها ينطق، وكل لحظة فيها تهذّب الروح وترفعها. إنها دعوة للتأمل وتجديد العهد مع كل تكبيرة.

حين نصلي كما صلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فنحن لا نكرر بل نُحيي، لا نُقلد بل نُجدد الصلة. ونبقى على العهد مع الله إلى أن نلقاه كما أراد، لا كما أردنا.

التعليقات

تعليق واحد على "لماذا نصلي؟ رحلة من الطقوس إلى جوهر العلاقة مع الله – بلقم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر"

  1. الصلاة هي عماد الدين وهي الحياة شكرا على المقال فعلا اخترت اهم موضوع في هذه جزاك الله خير وكتب الله اجرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *