عشت حياتي الأولى في سروات محافظة النماص في العقدين الأخيرين من القرن الهجري الماضي. وكنت أسمع بعضَ أبناء قبائلنا الذين ذهبوا للدراسة في الغرب، ولم يكن عندي أيُّ خبرةٍ أو اهتمامٍ بهذا الأمر، وبعد الحصول على الثانوية العامة عام ( 1396هـ/1976م )، وتحقيق تقديرٍ عالٍ ذهبت إلى الرياض مِثْلي مِثْلَ غيري أبحث عن وظيفة، وعند وصولي إلى هناك سمعت فرصَ ابتعاثٍ إلى أمريكا، فذهبت إلى مقر التسجيل في وزارة المعارف وقدمت ملفي وفي نفس اليوم حصلت على القبول للابتعاث في تخصص إدارة الأعمال، وعند العودة يكون عملي في وزارة البرق والبريد والهاتف..
وخلال أربعة أيام حصلت على جواز سفر، وكنا في شهر رجب، والذي قام على إنهاء إجراءات قبولي رجلٌ أمريكيٌّ يجيدُ التحدثَ باللغة العربية، وقال لي: ارجع إلى أهلك، وبعد عيد الأضحى تأتي للسفر. عدت إلى قرية والدي في سروات حاضرة النماص، وخلال تلك المدة من شهر رجب إلى شهر ذي الحجة عام ( 1396هـ/1976 ) كنت أسعى إلى جمع معلومات عن أمريكا، وكانت هناك صعوبةٌ كبيرةٌ في الحصول على ذلك..
والذي أزعجني حديث بعض الأفراد الأكبرَ مني سناً والأكثرَ تجربةً في الحياة عندما قالو: إنّ لونَك يميل إلى الأسود، والبيضُ في أمريكا يذبحون السود. وأيضاً كنت الابنَ الوحيدَ للوالدة التي لا ترغب في سفري خارج البلاد، عندئذٍ ذهبت بعد عيد الأضحى إلى ذلك الأمريكي الذي أنهى أوراقي في البداية، وطلبت منه ملفي، فحاول إقناعي لكنني قررت عدمَ الابتعاث، فأعطاني الملف، وعدت إلى أبها وسجلت في كلية الشريعة واللغة العربية، ثم انتقلت إلى كلية التربية وتخرجت فيها عام(1400هـ/1980م).
ندمت على الانسحاب من البعثة، وعرفت أن من يجتهد ويحصل على مستوىً جيدٍ في الجامعة فإنه يستطيع الابتعاثَ لبرامج الدراسات العليا ( الماجستير، والدكتوراه ). ولم أدخر جهداً في تحقيق هذا الهدف، وتعينت معيداً في قسم التاريخ بفرع جامعة الملك سعود في أبها خلالَ النصفِ الأولِ من عام ( 1400هـ/1980م )، وخلالَ السنوات الأربع التي قضيتُها في الجامعة جالست وسمعت وعرفت الكثير من المعلومات عن جامعات الغرب وبخاصة أمريكا، وكان معظمُ الذين استمعت إليهم أساتذةٌ عربٌ، ومسلمون، وأجانبُ درسوا في جامعاتٍ غربيةٍ أو شرقيةٍ..
ثم جاءوا للعمل كأعضاءِ هيئةِ تدريسٍ في كلية التربية بأبها. وكان لبعضهم فضلٌ كبيرٌ عليَّ عندما تعينت معيداً، وبدأت أبحث عن قبول في جامعات أمريكية، وتلك مرحلةٌ صعبةٌ لكل طالب يرغب الابتعاث؛ لعدم معرفته باللغة الإنجليزية، وكذلك تنوع الإجراءات والشروط التي تطلبها الجامعاتُ والمعاهدُ في الولايات المتحدة الأمريكية. لم يكن عندي أيُّ علمٍ أو خبرةٍ عن الابتعاث إلى دولٍ عربيةٍ أو أجنبيةٍ أخرى؛ لأن جامعتنا آنذاك (جامعة الملك سعود) توجهك وتجبرك على الابتعاث إلى أمريكا. وبقيت حوالي ثمانيةَ أشهرٍ حتى بدايات عام (1401هـ/1981م) أجمع الذي أقدر عليه بخصوص الجامعات الأمريكية، وكلَّ ماله علاقةٌ بالدراسات العليا هناك.
حصلت على القبول في جامعة تكساس بمدينة أوستن، وسافرت إلى هناك في الأشهر الأولى من عام (1401هـ/1981م). وقصةُ سفري من أبها إلى مطار الظهران، ثم مطار هيثرو في لندن ( Heathrow Air Por ) في بريطانيا، ومنه إلى مطار جون إف كيندي( J F K ) في نيويورك، ثم إلى مطار هيوستن في تكساس استغرقت أكثرَ من يومين، وعانيت الكثيرَ من الصعوبات التي يصعب شرحُها في هذه العجالة، وقد شرحت بعضَها في كتابي الذي صدر حديثاً: ذكرياتُ طالبٍ مبتعثٍ في أمريكا وبريطانيا ( 1400ـ1409هـ/
بقيت بضعَ سنواتٍ في أمريكا ( 1401ـ1405هـ/
قطعت بعثتي عام (1405هـ/1985م).. وعدت إلى أبها لظروف عديدة جعلتني أتخذ هذا القرار، وكان عدمُ الرغبة في مواصلة دراسة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية أحدَ الأسباب الرئيسة، والحديثُ عن هذه النقطة يحتاج شرحًا في بضع صفحات. وعدت على وظيفتي السابقة نفسِها معيداً في كليتي بأبها من عام (1405هـ/ 1985م) إلى مطلع عام (1407هـ/1986م)، وقابلت الكثير من السلبيات والإيجابيات وسوف أدونها بالتفصيل في أحد أعمالي العلمية القادمة – بإذن الله -. لكنني أخيرًا قررت الذهاب إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه، وغادرت أبها في بدايات عام (1407هـ/ 1986م) ذاهباً إلى جامعة مانشستر ومكثت فيها حتى نهاية عام (1409هـ/1989م)..
وحصلت على درجة الدكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية. وتجولت في أنحاء المملكة المتحدة، وزرت بعض الدول الأوربية، وشاركت وحضرت محاضرات عامة وندوات ولقاءات عديدة، وتناقشت وجلست مع العديد من الأساتذة المستشرقين الكبار والصغار، وحصلت على الكثير من الخبرات والتجارب، وآمل أن أفصل ذلك في عمل علمي مستقل بعنوان: بعض دول أوربا كما رأيتها وعشت فيها ( 1407ـ1409هـ/ 1987ـ1989م ).
(*) الذي رصدته في الفقرات السابقة إشارات مختصرة جداً، وعندي أملٌ في قادم الأيام أن أكتب عنها في دراسات أطول، وأفضل، وأعمق. وفي الصفحات التالية أذكر شيئاً عن الابتعاث إيجابياته وسلبياته وبخاصة في أمريكا وبريطانيا من خلال المعاصرة والمشاهدة والتجارب، وأرصد ذلك في النقاط التالية:
1ــ إن القارئ والباحث لتاريخ وحضارة هذا البلد المبارك ( المملكةالعربية السعودية ) من بدايات القرن الهجري الماضي إلى الآن ( 1447هـ/2025م )، يرى أن من مشاريعه التنموية الكبيرة تعليم إنسان هذه البلاد وتطويره دينياً وأمنياً، وعلمياً ومعرفياً وثقافياً. وكل مجال من هذه القطاعات يكتب فيه عشرات الدراسات العلمية، ومن ذلك الابتعاث الذي بدأ من ستينيات القرن ( 14هـ/20م )، وكانت أوائل البعثات الطلابية تُرسل إلى بعض الدول العربية، ثم الإسلامية، وأخيراً الأجنبية.
وأثناء ابتعاثي إلى أمريكا ثم بريطانيا خلال العقد الأول من هذا القرن( 15هـ/20م )كانت أعداد المبتعثين السعوديين إلى دولٍ شرقية وغربية تقدر بالآلاف. وصدرت بعض الكتب، والرسائل العلميـ
2ــ نحن أبناء الشعب السعودي لنا قيمٌ وأعرافٌ وتقاليدُ ومبادئُ، واجتهدت دولتُنا وأهلُنا من الأجداد والجدات، والآباء والأمهات وغيرهم على تربيتنا على الصلاح والثبات على دين الحق، وعلى الفضائل والسلوكيات والآداب الطيبة والنظيفة. ومن يعيش على ذلك ثم ينتقل فجأة إلى بيئة أو بلاد على النقيض مما عرف وتعلم وعاش عليه، وعندئذٍ يحدث له بعض الصدمات النفسية والثقافية والأخلاقية. وهذا الذي عاصرته وعشته، فعند ذهابي إلى أمريكا حصل لي الكثير جداً من الصعوبات والعقبات ومثلي الكثير..
وهناك من جاهد واجتهد حتى نجا من سلبيات كثيرة تعليمية، واجتماعية، وأخلاقية ودينية، ولم تسلم هذه الشريحة من الوقوع في مشاكل عديدة، وكنت واحدًا من أولئك عندما بدأت دراسة اللغة في معهد تجاري في مدينة هيوستن، ثم انتقلت إلى معهد جامعة تكساس في أوستن، ومن صعوبة الدراسة واختلاف كل شيء حصل لي صدمة نفسية وثقافية أدخلتني المستشفى لمدة شهر عام ( 1402هـ/ 1982م )، والشيء المؤلم أنهم وضعوني خلال هذا الشهر في قسم الأمراض النفسية، وعشت مع الكثير من الأفراد ( ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً ) وجميعهم يعانون من أمراض عقلية ونفسية مختلفة..
وكنت وقتها لا أعرف أحدًا، اللهم إلا موظفًا في الملحقية التعليمية في مدينة هيوستن أدخلني المستشفى، وبعدها لم أر أحداً، ولم يزرني أيُّ إنسان، وأوشكت أن أفقد عقلي من هول ما رأيته وعشته. ومن المؤكد أن هناك طلاباً عانوا وواجهوا مثلما واجهت وربما أكثر. وعاصرت وشاهدت طلاباً عرباً ومسلمين خرجوا عن الطريق الجادة، وصاروا يقلدون الأمريكان وغيرَهم في سلوكيات ليست من تعاليم الإسلام وقيمه. ووجدت ضمن هذه الفئة من كانوا صغاراً في السن ويدرسون في مرحلة البكالوريوس، وبالتالي فلا يتورعون عن السير في ركاب الغربيين، ومنهم بعض العرب، ومن دول عربية مختلفة فضلوا الزواجَ من نساء غربيات والعيشَ في أمريكا وعدمَ الرغبة في العودة لأوطانهم.
3ــ كلُّ الطلابِ المبتعثين عاشوا وتعايشوا مع المجتمع الغربي في بلدان أمريكا وبريطانيا وغيرِها. لكن أحوالَهم وأوضاعَهم الاجتماعية تختلف من مكان لآخر، وللجامعة والجاليات العربية والإسلامية دور كبيرٌ في حياة الطلاب المبتعثين. وبما أني درست في أكثر من جامعة أمريكية وبريطانية، فقد شاهدت دور المساجد والمراكز الإسلامية، وكذلك المجتمعات العربية والإسلامية في المدن التي أقمت فيها فلم تكن على مستوى واحد من خدمة الطلاب المبتعثين العرب والمسلمين، فبعضها كان فيها العديد من الطلاب الجيدين الذين يواصلون دراساتهم، لكنهم لم ينسوا أخواتهم وإخوانهم العربَ والمسلمين، فيقومون على رعاية المساجد والمراكز الإسلامية، ويعقدون اللقاءات والمحاضرات العامة والهادفة لحماية ورعاية المبتعثين وأسرِهم..
ورأيت الجاليات العربية والإسلامية في بعض جامعات شمال الولايات المتحدة الأمريكية، أفضلَ من جامعات درست بها وبقيت فيها بعض الوقت في جنوب وغرب البلاد نفسِها. وإذا حصرت حديثي على الطالبات والطلاب السعوديين، فقد كانوا في فترة ابتعاثي يعيشون أفضلَ وأجملَ أوقاتِهم في أمريكا وبريطانيا، وكذلك في بلدان أخرى عديدة، وذلك مما قرأته وسمعت عنه. وكانت الدولة ( المملكة العربية السعودية ) وجميع وزاراتها ومؤسساتها الحكومية والأهلية تبذل قصارى جهودها في خدمة طلابها المبتعثين إدارياً، ومالياً، وتوعوياً، وعلمياً، وصحياً، ونفسياً.
وترعى وتدعم السفاراتُ السعوديةُ والملحقياتُ التعليميةُ أنديةَ الطلبةِ السعوديين المنتشرةَ في أرجاء البلاد الأمريكية والبريطانية. وكوني عملت عضواً في إدارة بعض تلك الأندية، وحضرت الكثير من اللقاءات التي كان يعقدها بعضُ المسؤولين في السفارات والملحقيات مع الطلاب المبتعثين، وقد عرفت وشاهدت الكثير من الخدمات والرعاية الكبيرة والمتنوعة. وعندما زار الملكُ فهدُ بنُ عبدِالعزيز آل سعود ( يرحمه الله ) وبعضُ الأمراء والوزراء بريطانيا وأمريكا، كان ضمنَ برامجهم الالتقاءُ بالطلاب المبتعثين..
وقد وجدنا منهم الدعمَ والتوجيه المنقطعَ النظير. ومن يعمل دراسةً مقارنةً بين أحوال وحياة الطلاب السعوديين المبتعثين مع غيرهم من الطلاب العرب والمسلمين، فسوف يجد الفرق الشاسع بين الفريقين. فالطلاب السعوديون ينعمون بأشياء كثيرة غير موجودة عند الآخرين، ومازال طلابُنا المبتعثون حتى الآن يتمتعون بالرعاية الحكومية السعودية في شتى مناحي الحياة.
4ــ كان الابتعاث السعودي قديماً يشمل كلَّ التخصصاتِ النظرية، والعلمية. والدراسةُ وبخاصة في برامج الدراسات العليا في دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا جيدةٌ جداً لتوفر جميع الإمكانات الضرورية من مختبرات، ومكتبات، وأساتذة متخصصين. وذهبت في البعثة مرتين إلى أمريكا ثم بريطانيا لدراسة التاريخ والحضارة الإسلامية ، ورأيت وعاصرت طلابًا عربًا ومسلمين كثيرين درسوا تخصصات نظرية عديدة: كاللغة العربية (علم اللسانيات)، والفقه الإسلامي والمقارن، وعلوم القرآن الكريم والسنة النبوية، والجغرافيا، والأدب العربي وغيرها من العلوم الأدبية.
وقد يسأل سائل: كيف لأبناء الإسلام والعرب أن يدرسوا هذه العلوم على أيدي أساتذة غربيين؟ وهذا سؤال وجيه، والحقيقة أن تلك البلادأفضل من ديار العرب في خدمة البحث العلمي، ثم إن عندَهم مكتباتٍ ممتازة لا توجد عندنا، ناهيك عن توفير وتسهيل الخدمات البحثة. ولو درسنا الفرق بيننا وبينهم في هذا المجال، وجدناهم أفضلَ منا بكثير. وزرت عشرات المكتبات الجامعية والأهلية في بريطانيا وأمريكا فوجدت بعضَها تشتمل على آلاف المخطوطات، وعشرات الآلاف من المصادر، والمراجع العربية، والفارسية، وغيرها.
ومن يذهب إلى هناك للدراسات العليا، ويحرص على الاستفادة من هذه الإمكانات، فتلك فرصة مهمة قد لا يجدها في مكان آخر. وعند عودتي إلى بلادي عام ( 1409هـ/1989م )، ثم الاستمرار في الدراسة والبحث العلمي وجدت وعرفت الفرق والمعاناة الكبيرة التي يواجهها الطالب والباحث في البلدان العربية والإسلامية.
5ــ تعلمون أن تلك الدول الغربية ( أمريكا، وبريطانيا وغيرها ) حكومات استعمارية، ويرون أوطان الشعوب الأخرى وبخاصة العرب والمسلمين مجالاً مهماً لتطلعاتهم السياسية، وسيطرتهم على مقدراتهم واقتصادهم، ولهذا اجتهدوا في تأسيس الجامعات والمراكز والأقسام الاستشراقية التي يدرسون من خلالها تراث وتاريخ وحضارة الشعوب الإفريقية والآسيوية، ومن خلال هذه المؤسسات العلمية والمعرفية يرسمون خططهم ودسائسهم ومؤامراتهم من أجل التحكم والسيطرة على عقول وبلدان الآخرين .
ومن خلال رحلاتي في بلدان الغرب حوالي سبع سنوات درست عند الكثير من المستشرقين، وناقشتهم وتحدثت معهم في أمور كثيرة لها صلة مباشرة وغير مباشرة ببلادنا وتراثناً وحضارتنا العربية والإسلامية، ولم يكونوا على وتيرة واحدة، فالبعض لا يتورع أن يقول ويكتب بغضه لكل شيء له صلة بالإسلام والعرب، وإذا تناقشنا مع هذا النوع لا يتورع في إظهار حقده وكراهيته، وأعرف العديد من الطلاب المسلمين والعرب الذين واجهوا مشاكل كثيرة مع أساتذتهم المشرفين على دراساتهم ورسائلهم العلمية.
وصنف آخر يحملون البغض للشعوب الإسلامية وموروثهم، لكنهم لا يصرحون بذلك، ومنهم من يوثق شيئاً من ذلك في دراساتهم العلمية، وغالباً لايرغبون المواجهة في النقاشات الكلامية. ونوع ثالثٌ أقلَّ حدةً من الصنفين الأوليين، وأحياناً يكونون معتدلين ومنصفين في أطروحاتهم. وقد قرأت واطلعت على عشرات الكتب والبحوث للأصناف الثلاثة، ومعظمهم باحثون
ومن يدرس جهود المستشرقين في تحقيق ودراسة الكثير من كتب التراث الإسلامية، ويكون حيادياً ومنصفاً، فإنه يرى لهم جهودًا جيدةً وكبيرةً في هذا المجال. وخلال فترة ابتعاثي حضرت مؤتمرات وندوات ولقاءات علمية، وسمعت الكثير من النظريات والتحليلات الجيدة والسيئة، ودونت توثيقات كثيرة عنها، ومازالت مسوداتٍ في مكتبتي العلمية، وأسأل الله أن يعينني على مراجعتها وتدقيقها ثم طباعتِها ونشرِها.
6ــ إن أمريكا وبريطانيا وغيرَها من دول الغرب مليئةٌ بالأفكار والآراء والمعتقدات العقائدية الإسلامية وغيرِها من الديانات والتيارات الأخرى. وعلى الطالب المسلم المبتعث أو المسافر إلى تلك الأوطان أن يكون حصيفاً وحذراً، فلا يجلس أو يسمع لكل من هب ودب، وأن يجعل نصب عينه الاستقامة على منهج الله ، والخوف من عقوبة رب العالمين. ومن إقامتي في تلك البلدان، ودراسة موادَّ دراسيةً مع لفيفٍ من الطلاب مختلفي التوجهات، وحضوري بعضَ المؤتمرات الإسلامية وغيرِ الإسلامية التي كانت تقام في بعض الولايات أو المدن، ويقدَّمُ فيها الكثيرُ من المغالطاتِ .
7ــ هناك فرقٌ كبيرٌ بين دراسة البرامج العليا في أمريكا وبريطانيا. فالخطط الموجودة في الجامعات والأقسام العلمية الأمريكية تعتمد على التعليم الأفقي، ويكلف الطالب بدراسة عشرات المواد الدراسية في تخصصه وغيرها. وفي نهاية المطاف يمتحن الامتحان الشامل، وإذا اجتازه يُعطى مشروعاً صغيراً يستكمله ويحصل على الدرجة، وبالتالي فالطالب يهيأ أن يكون مدرساً أو أستاذاً جامعياً، يستطيع إلقاء المحاضرات بيسر وسهولة. أما الدراسة في بريطانيا فالطالب ينجز دراسته بشكل عمودي أورأسي، ويُعطى عنواناً لبحثه ويقضي كل وقته في إنجاز هذا العمل، وإذا انتهى منه يشكل له لجنة مناقشة تناقشه في الموضوع الذي درسه، وفي النهاية يمنح درجته العلمية. ومن يدرس في البلدين يستطيع أن يجمع بين المنهجين.
8ــ إن الطلاب المبتعثين السعوديين إلى بريطانيا أو أمريكا، أو غيرها من دول العالم، لم يكونوا هم المستفيدين علمياً ومعرفياً فقط، بل إن أعداداً كثيرة منهم اصطحبوا معهم زوجاتهم وأولادهم ( ذكوراً وإناثاً )، وحصلوا أيضاً على نصيب جيد من العلم والثقافة والمعرفة. فالبعض من الزوجات نالوا درجات عليا في تخصصات علمية وأدبية، وبعض الأبناء أكملوا تعليمهم العام هناك ثم التحقوا بجامعات أمريكية أو بريطانية جيدة . وكثير من أبناء المبتعثين ولدوا أثناء ابتعاث آبائهم، وتلقوا بعضَ تعليمِهم العام هناك، وعند عودتهم كانت لغتُهم الإنجليزية جيدةً، وواصلوا تعليمَهم الجامعيَّ في المملكة العربية السعودية، وحققوا نجاحاتٍ كبيرةً، ثم واصل بعضُهم دراساتِهم العليا، وتراهم اليوم يعملون في عشرات الكليات والأقسام العلمية، في الجامعات أو الوزارات السعودية.
9ــ من يرصد تاريخ التطور والتنمية الذي تمر به المملكة العربية السعودية من ثمانينيات القرن الهجري الماضي إلى الآن ( 1447هـ/2025م )، فإنه يلحظ آثارَ الابتعاث الإيجابيةَ على جميع مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية. بل يجد النهضةَ التي تعيشها البلاد خلال العقود الستة الماضية، وكيف أن التعليمَ العامَّ والعاليَ داخلياً وخارجياً قاد البلاد والعباد حتى أصبحت دولتُنا المباركةُ تتصدرُ دولَ العالم في خدمة الإنسان وتطويرِه في شتى المجالات. ومن يبحث في جهود الدولة في مجال الابتعاث فسوف يرى التقارير، والسجلات، والوثائق والإحصائيات والصور الفوتوغرافية، والمقاطع الرقمية التي أرَّخت ورصدت مسيرة الابتعاث والمبتعثين، وما حظيت به البلاد من خلالهم من نمو وخير وبركة في جميع القطاعات وعلى كل المستويات.
10ــ أعرف يا إخواني أنني تحدثت في موضوع واسع، ويكتب فيه مئات البحوث العلمية، والشذرات التي تلوتها عليكم جمعتها من خلال رحلتي وابتعاثي إلى الغرب في بدايات هذا القرن ( 15هـ/20م )، ومن يفرغ نفسه ويعمل على إصدار دراسة علمية رصينة في هذا الباب، فإنه سوف يطلع على الكثير من المصادر والحقائق التاريخية التي تعكس دور الابتعاث السعودي في النهوض بالبلاد إلى مستويات متقدمة، وذلك فضل من الله ( عز وجل ) ثم جهود حكومتنا المباركة الموفقة ( المملكةالعربية السعودية ) التي بذلت الغالي والرخيصَ من أجل خدمة أرضها وشعبها، فجزى الله ولاة أمرنا كلَّ خير، وحفظ الله بلادَنا من كل شر، وجعلنا أعضاءَ مثمرين صالحين .نافعين لخدمة ديننا وبلادنا وأهلنا، وصلى الله وسلم على رسول الله،
التعليقات