الخميس ٢٩ مايو ٢٠٢٥ الموافق ٢ ذو الحجة ١٤٤٦ هـ

من أفران أوشفيتز إلى رماد غزة – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

من أفران أوشفيتز إلى رماد غزة – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

في مشهد يعيد تعريف الظلم والإنصاف يقف الضمير العالمي مشلولًا أمام محرقة العصر في غزة، بينما ما زالت أفران أوشفيتز تُستخدم ذريعة لتبرير أفعال لا تقل عنها فظاعة، فهل تُقاس القيم الإنسانية بعدد الضحايا أم بهوية من يقتل ومن يُقتل؟

من «أوشفيتز» إلى غزة يمتد جسر طويل من الألم لا تصنعه فقط الأفران أو النار بل تصنعه الذاكرة حين تُختزل القيم في موازين مزدوجة وتُستخدم المآسي لتبرير مآسٍ أكبر، لقد ارتبط اسم «أفران أوشفيتز» في الضمير الإنساني بالهولوكوست كرمز للإبادة الجماعية وذروة الوحشية التي ارتكبتها النازية ضد اليهود وغيرهم من الأقليات في أوروبا تحوّلت تلك الأفران إلى شاهد دائم على قسوة الإنسان حين يتحول إلى آلة قتل وإلى نقطة فاصلة في الضمير العالمي لا يُسمح بتجاوزها أو التشكيك فيها.

لكن المأساة الكبرى ليست فقط في ما وقع هناك بل في ما يحدث الآن حين تتحول ذاكرة الضحية إلى أداة للقمع وحين تُسخّر المأساة لتبرير المأساة فتُباد غزة أمام عيون العالم ويُدفن أهلها تحت الرماد بلا ضمير عالمي يحاسب أو يحرك ساكناً.

في غزة حيث يعيش أكثر من مليوني إنسان في حصار مستمر منذ أكثر من 17 عامًا لم تبق آلة الحرب الإسرائيلية شيئًا إلا واستهدفته بيوت تُهدم على رؤوس ساكنيها مستشفيات تُقصف، مدارس تُدمّر، مساجد وكنائس تُسوى بالأرض، وحتى مراكز الإغاثة الدولية لم تسلم من القصف. الحرب الأخيرة التي بدأت منذ أكتوبر 2023 كانت الأقسى والأشد حيث تجاوز عدد القتلى 35 ألفًا أغلبهم من النساء والأطفال بحسب تقارير منظمات الأمم المتحدة والصحة العالمية ورغم أن الأساليب اختلفت فإن النتيجة واحدة أجساد محترقة، عائلات أُبيدت بالكامل، ومدينة تتحوّل إلى رماد.

الصمت الدولي المخيب أمام ما يجري في غزة لا يمكن اعتباره حيادًا بل هو تواطؤ مفضوح سواء عبر دعم مباشر أو عبر شلل مؤسسات القانون الدولي أو من خلال ازدواجية المعايير التي تسكت عن القتل الممنهج للشعب الفلسطيني.

من المحزن أن دولًا ما زالت تعيش عقدة الذنب تجاه اليهود تغض الطرف أو تبرر قتل الفلسطينيين رغم أن هؤلاء لم يكن لهم يد في مآسي أوروبا لقد كُتب على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن جريمة لم يرتكبوها وكُتب على غزة أن تكتوي بالنار وحدها فقط لأن أمن إسرائيل يجب أن يظل أولوية عند الغرب.

وآخر مشاهد ومهازل هذه الازدواجية الغربية تجلّى في الهجوم الذي حدث مؤخراً على السفارة الإسرائيلية في واشنطن، والذي أسفر عن مقتل اثنين من الموظفين فعلى الفور توحّد الصوت الغربي في الإدانة والتنديد وارتفعت نبرة الغضب الرسمية والإعلامية، وعادت عبارة «معاداة السامية» لتتصدر المشهد كدرع سياسي جاهز لأي انتقاد أو مقاومة، لم يستغرق الأمر ساعات حتى استُنفرت التصريحات وطُلبت الحماية وتحرّكت الآلة الدبلوماسية على أعلى مستوى، لكن أين كان هذا الصوت حين قُتل عشرات آلاف الأطفال في غزة؟ أين كانت هذه القيم حين احترقت الأجساد تحت القنابل المحرّمة؟ أم أن إنسانية الضحية تُقاس بجواز سفرها، أو بدينها، أو بعلاقتها بالحضارة الغربية؟

إن عبارة «من أفران أوشفيتز إلى رماد غزة» ليست مجرد استعارة بلاغية بل تعبير صادق عن انتقال المأساة من ضحايا الأمس إلى ضحايا اليوم، وعن المفارقة التاريخية التي تجعل من الضحية جلادًا ومن المظلومية وسيلة للاستعمار والقتل.

ومع ذلك فإن غزة رغم كل شيء لا تزال تقف، رمادها لا يخفي جذوة الكرامة في أهلها ولا يطمس حقيقة أن التاريخ لا يرحم وأن الإنسانية الحقيقية لا تُقاس بالدم الغربي وحده، بل بقدرة الإنسانية على رؤية الإنسان في كل مكان، حتى في شوارع غزة المحترقة.

إذا كان الضمير الإنساني قد توقف عند أبواب أوشفيتز فقد آن له أن يواصل طريقه إلى غزة فالعالم الذي لا يرى إلا مأساة ماضٍ معيّن ويتجاهل جحيم الحاضر يفقد بوصلته الأخلاقية ويغرق في نفاقه.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *