يُستخدم التاريخ دائمًا كأداة لفهم الماضي، بل كثيرًا ما يتم توظيفه لصناعة شرعية سياسية أو تبرير مشاريع توسعية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما قامت به الحركة الصهيونية منذ منتصف القرن العشرين حين جعلت من مأساة الهولوكوست مدخلًا لتبرير قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
في أربعينيات القرن الماضي تعرض اليهود في أوروبا لجريمة إبادة جماعية بشعة على يد النازيين، عُرفت بالهولوكوست. ومع أن هذه الفاجعة شكلت صدمة للضمير العالمي إلا أن استخدامها لاحقًا كذريعة لاحتلال أرض فلسطين وتهجير شعبها كان وجهًا من أوجه الاستغلال السياسي للألم الإنساني.
أصبحت الهولوكوست أداة دبلوماسية وإعلامية، واستُخدمت لكسب تعاطف العالم وإقناع الغرب بضرورة إقامة دولة يهودية. منذ ذلك الوقت صارت إسرائيل تُقدَّم بوصفها “الدولة الضحية” المحصنة ضد النقد، بينما الفلسطينيون الذين دُفعوا ثمنًا لتلك الجريمة لم يكونوا طرفًا في الجريمة أصلاً، غُيِّبوا عن المشهد واعتُبروا عائقًا أمام “الخلاص اليهودي”
في 7 أكتوبر 2023 شنت المقاومة الفلسطينية عملية عسكرية ضد الاحتلال، كانت غير مسبوقة في حجمها ونتائجها. إسرائيل سرعان ما حولت هذا الحدث إلى سردية عالمية عنوانها أن ما جرى هو مجزرة بحق اليهود، هولوكوست جديدة تستدعي تدمير غزة بالكامل تحت شعار الدفاع عن النفس.
المفارقة أن الدولة التي نشأت من رحم مأساة تاريخية تمارس اليوم ممارسات أقبح ممّا عاناه اليهود في أوروبا. فتُقصف المستشفيات وتُهدم المنازل وتحاصر المدنيون وتقطع عنهم أدنى سبل العيش من كهرباء وماء وغذاء تحت غطاء من الصمت الدولي .
تتكرر القصة نفسها. يتم احتكار الألم وتقديم جهة واحدة باعتبارها الضحية الوحيدة بينما يُغيب الطرف الآخر من الرواية وتُحرَّف الأحداث عن سياقها.
الاعتراف بالهولوكوست لا يعني تبرير النكبة. والتعاطف مع ضحايا الماضي لا يبرر خلق ضحايا جدد في الحاضر. إذا كان العالم جادًا في إنسانيته فلابد أن يعترف بأن كل الشعوب تستحق العدالة والحماية، لا أن تُقاس أحقيتهم بالنجاة بناءً على ديانتهم أو تحالفاتهم السياسية
آن الأوان لأن تُفتح صفحات التاريخ المغلقة، وأن تُروى القصة من كل جوانبها، فالدولة التي بُنيت على مأساة حقيقية لا يحق لها أن تعيد إنتاج المأساة نفسها ضد شعب آخر.
التعليقات