يكشف المسرح السياسي في الولايات المتّحدة اليوم عن ذروة التجاذبات بين الأفكار اليمينيّة واليساريّة أكثر من أي وقت مضى، وتنسحب الاستقطابات على المشهد الثقافي والفكري ومنصات الإعلام جديده وقديمة، تاريخيّا بقي الفكر اليميني (الديني) بدرجاته متجّذرا ومهيمنا في الفكر الغربي وفي ممارسات شعوبه لفترات طويلة، في تلك الحقب التاريخيّة كان النبلاء (الأرستقراطيون) ورجال الدين يسيطرون على معظم الممتلكات والنشاط التجاري والزراعي وتخدمهم بما يشبه العبوديّة بقيّة الطبقات الدنيا (الأقنان). وكانت النتيجة ظهور بذور المقاومة لهذا الوضع بدءا من القرن الرابع عشر الميلادي وسعت هذه المقدّمات إلى تحدّي النظام الاجتماعي وإعلان بدء عصر النهضة على شكل ثورة ضد سيطرة الكنيسة الكاثوليكيّة على الفنون والعلوم واستخدامها كأدوات دينيّة.
وفي القرن الثامن عشر تكاملت الصورة وظهرت بذور الأفكار اليساريّة في أوروبا بقوّة بمطالب فلسفيّة وفكريّة ترى أهميّة اعتماد العلم والعقل محلّ الدين كأساس فكري منهجي لبناء أي مجتمع حديث، وكانت هناك مواجهات مع الأفكار السائدة في بداية الأمر ساعدتها صعوبة الاتفاق على تفاصيل هذا النظام العقائدي (اليساري) الجديد. وخلال المراحل الأولى للثورة الفرنسيّة في أواخر القرن الثامن عشر، تمت صياغة المصطلحين السياسيين “اليسار” و”اليمين” حين بدأت الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة المشكلة حديثًا نقاشاتها حول توزيع السلطة التي يجب أن يحتفظ بها ملك فرنسا حيث جلس الفصيل التقدّمي (اليساري) المناهض للوضع القائم على يسار الرئيس، بينما جلس المؤيدون المحافظون على اليمين. في العصر الحديث وعلى فترة تقترب من مئة عام ومع مقاومة الغرب لليسار بمفهومه الشرقي (الصيني والروسي) ولكن هذا لم يمنع من الانتشار الواسع للنماذج اليساريّة ومن أشهرها الشيوعيّة، والاشتراكيّة، والماركسيّة، والفاشيّة، وحتى في الولايات المتّحدة ظهرت الأفكار اليساريّة باسم التقدّميّة والليبراليّة بصيغة رأسماليّة معدّلة تلافيا للتلاقي الفكري مع الماركسيّة والشيوعيّة.
ولكن الأفكار اليساريّة التقدّميّة لم تظهر في الولايات المتّحدة بشكل صارخ كما هو الحال اليوم واستطاعت النخب اليساريّة الموازنة بين الأفكار التقدّميّة والمحافظة تبعا لمزاج الناخب الأميركي إذ ركزت مجموعات اليسار على عناوين الحقوق المدنيّة والرعاية الاجتماعيّة وتحسين الأجور ولكنها لم تجرؤ على الخوض في مسائل العائلة والدين إلّا بقدر محسوب. وربما يفسر هذا ظهور نخبة من جيل اليسار الأميركي الجديد (الديمقراطي) ترفض إطلاق صفة “التقدّميّة” عليها في الوقت الراهن، كما هرب أسلافهم الديمقراطيون في التسعينيات من وصفهم “بـالليبراليين” لأسباب سياسيّة.
ومع بداية الألفيّة الثانية وجدت الأفكار اليساريّة فرصتها التاريخيّة مع شبكة الإنترنت ثم وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونيّة التي لعبت دورًا مهمًا في نشر الأفكار التقدّميّة اليساريّة في الداخل الأميركي وبعض دول العالم. ومن هنا ظهرت الأجندة اليساريّة الأميركيّة (ممثلة في الحزب الديمقراطي) أكثر وضوحا منذ ولاية أوباما وتابعه بايدن في تشريعات كثيرة منها تشريع زواج الشواذّ وتمكينهم من خلال تشريعات، وقوانين السماح باستخدام الحشيش بأسماء مثل الاستعمال الترفيهي (recreational use) التي تسري في حوالي 23 ولاية أميركيّة.
- قال ومضى: لكل مفهوم عدّة أسماء وصفات، فقط أمام الحقيقة تقف الكلمات خاشعات.
التعليقات