رغم أنّ زمننا هذا يُصنف على أنه زمن التقدم والحضارة والتطور والمخترعات والاكتشافات. إلا أنه من المؤكد أن الغثاء فيه قد عمّ وطمّ. حتى خالط الجد وذهب برونق الأخلاق وربما افقدها قيمتها النفيسة التي كانت تحتلها سابقاً. نعم إنه الغثاء الذي فاحت رائحته حتى زكمت الانوف. وملئت البيوت والطرقات. واحتلت المجالس وطغت على الحوار وجذبت انتباه الرعاع والدهماء من الناس وربما لم يسلم من نفحاتها حتى العقلاء. الذين باتوا على مرمى حجر وفي خضم صراع طويل ومحتدم ولم ينأوا بأنفسهم عن الدخول في معارك هامشية صارت مع الأسف تستنزف طاقتهم النفسية والروحية. زمن الغثاء جاء مسرعاً وهادراً تتسلط اضواءه على كل شاردة وواردة.
ويعلو صوته في كل مجلس بلا حياء ولا خجل. وربما لبّس على كثير من الاشخاص مسلّمات ومعتقدات كانوا لا يساومون يوماً على صحتها وصدقها. فإذا هي في غمضة عين تتحول إلى شيء مشكوك فيه وقد يكون غير صحيح على الاطلاق. زمن الغثاء مستنقع كبير اختلط فيه الحابل بالنابل. وباتت فيه الرؤيا مشوشة يعلوها غبش كبير افقد العديدين رؤيتهم الصحيحة. واصبحوا مجرد أدوات تُستخدم لأغراض معينة ووقتية ثم تُرمى بعيداً في مكب النفايات. زمن الغثاء لم يسلم منه أحد سوى النزر اليسير ومن عصمه الله وارخى عليه سدول ستره ورحمته.
وما سوى ذلك دخل المعمعة مختاراً أو مكرهاً. وليست المخترعات أو الاكتشافات أو التطور العلمي والصناعي والتقني هو من سبب ذلك. ولكنها بكل اسف تلك العقليات المستحَلّة الممسوخة التي رضيت أن تكون كفأر التجارب وقبلت بذلك الغثاء ليقتحم عليها حياتها بتلك الطريقة الفجة والممقوتة. والناظر لعلاقاتنا الإجتماعية يجد ان الغثاء قد تغلغل في مفاصلها حتى افرغها من مضامينها الجميلة ومعانيها السليمة. واصبحت العلاقة إلا فيما ندر سُلّماً للوصول نحو مصالح شخصية. وابتعدت في كثير من تفاصيلها عن معاني مليئة بالنفع والود كالتعاون والتضحية وتقديم العون وصلة الرحم. حتى وسائل تواصلنا الحديثة التي نتغنى بها كثيراً اصبحت منطلقاً لمزيد من الغثاء والفوضوية واضاعة الأوقات. ولم ينجو من ذلك الغثاء حتى الأصدقاء في علاقتهم وروابطهم المهترئة. فالصداقة اليوم اضحت عزيرة المنال ومن النادر أن تجد شخصاً يستحق أن تدرجه في قائمة الأصدقاء الأوفياء .
فزمن الغثائية أفسد في نفوسنا الكثير من المعاني الجميلة. وجعلنا مجرد أدوات نتحرك دون هدف ونستهلك الوقت والبضائع وكل شيء يقع تحت أيدينا دون فحص أو تروي إلا ما شاء الله. وكثير مما تعرضه وسائل التواصل الاجتماعي أصبح مغرقا بالغثاء. ولم يعد للاهتمامات الجادة مكان يذكر ولا للحوار النافع مستمع أو مشارك. وبتنا تجمعنا موائد الطعام وسُفر الحفلات دون ان نخرج ولو على الاقل بالقليل من النفع. وبسبب ذلك زادت عزلة العديد من الأشخاص عن المجالس والمناسبات ولم تعد تستهويهم تلك المنتديات.
ومن المحزن للغاية أن ينخدع أرباب العقول وأصحاب الفكر السليم بتلك الغثائية المريعة التي ضربت بأطنابها في أغلب شؤون حياتهم. ستزيد مساحة الغثاء وسيغزوا بأدواته العقول والقلوب والبيوت حتى يكون كالشمس المشرقة لا قدرة لنا على رده أو الفرار منه. نعم تلك هي الحقيقة المؤلمة التي لابد لنا من الإعتراف بها. فتلك هي ضريبة الانفتاح على شعوب الارض. وتلك هي افرازات التقدم التقني والفضائي والعلمي.
وما لم نسارع بردم تلك الهوة ودراسة أسبابها والتخلص من مسبباتها فسنغرق جميعاً في وبال مُخرجاتها وسنعاني كثيراً من تبعات ذلك الاستغراق المشؤوم في عالم الغثاء. لقد آن لنا ان نعيد قراءة ما نحن فيه من جديد بالتخلص مما يجرنا الى طريق الاستهلاك المذموم وبترشيد استخدامنا للنعم التي نرفل بها ونستمتع بمعطياتها وبالتعامل العاقل مع ثورة الاتصالات ومخرجات التقنية وبتقنين استخدام وسائل التواصل والعودة مرة أخرى لملء الجانب الروحي وتنمية العلاقات الاجتماعية والروابط الاسرية.
وبرمي كل ما يسبب لنا عفناً في الفكر أو عاهة مستديمة في الوعي فيزيد من تقهقرنا وتخلفنا. ولئن اختلطت الأمور على الكثيرين وافقدتهم القدرة على الانتقاء الصحيح فإنه لا يزال في الأمر متسع باستيضاح طريق الصواب من اصحاب الرأي والمشورة ممن يُعتد بهم ويؤخذ بمشورتهم. كل ذلك يتم بتضافر وسائل الإعلام المؤثرة ووقفة العقلاء الجادة في البيوت والمدارس والمجالس. لعل تلك الغثائية تنزاح شيئاً فشيئاً لنعيد ترتيب واقعنا ومراجعة نفوسنا علّنا نتجاوز تلك الكبوة نحو مستقبل اكثر اشراقاً وتفائلاً.
التعليقات