شاعرنا هنا البروفيسور محمد بن علي العمري، غني عن التعريف فهو ابن منطقة عسير بنو عمرو رجال الحجر الازديين، ابن قريته الجميلة الحالمه على قمم جبال السروات، أكسبته القرية دفء وحميمية سكان القرى، أُلفة وتعاون وحب ووفاء، ومن جبالها اكتسب الشموخ في اهدافه وسلوكه فهو لا يقنع بأقل من القمة مكانا لهذا انعكس على اداءة في سيرته العلمية فكان الاول بمرتبة الشرف الاولى في الدكتوراة كما هو في مراحل دراسته قبلها اما في موضع مقالي الوصفي هذا الذي مكثت عدة ايام افكر ماذا عساي ان اقدم فلم اجد بدا من ان اسلك منهج الشعراء فهاهم يحلقون بشعرهم فوق السحاب وهم بين أظهرنا ولعلي اوفق الى شيء من هذا، شاعرنا اضفت بيئته على شعره ديباجا آخّاذا من الجمال في كل اغراض الشعر وكان لكثرة الجبال والوهاد وماوراءها إنطلاقة الخيال والبلاغة لِتُقصِير المسافات بأقل الأحرُف والكلمات، فرفع كفيه يطلب العون من ربه فتفجرت له ينابيع البلاغة والشعر والفكر كانت هذه القصيدة بمثابة صدمة تجلى فيها ألم وفراق وأمل ودعاء للمتوفى بالرحمة وأن يخلفه في عقبه بماهو خير وإمتزج الاسى والوداع في وجدانه وسرى هذا الشعور في جوارحه وتزاحمت في شرايين دمه الشاعري لِيُخرِجَ لنا هذا المسك وهذا الرثاء بإبداع عجيب ولا غرابة كما قال ابو الطيب استاذه ( فإن تٓفُقِ الأنام وأنت منهم .. فإنّ المسك بعض دم الغزالِ ).. وفي الصحيح ”أطيب الطيب المسك” وهكذا هو الرثاء مسك الختام يتلوه صالح الدعاء.
ولان الكثير يعزف عن تذوق الشعر رغم تألق الشعر وجمالياته لعدم المراس في فهم المعنى واللفظ والاسلوب والتراكيب والحبك والسبك، آثرت ان اقرب المعنى لنفسي ولغيري في التحليق مع الابيات التي رأيتها ابداعا في تنشيط عقل المتلقي ليعيش مع الشاعر المعاناة والحزن ولا أُخال غرضها إلا أنه قد استحوذ على وجداني لتسكنه ابياتها وعباراتها وأحرفها فكانت بلسما ادبيا، وهكذا هي قصائد الرثاء في تخفيف المعاناة يقول “ارسطو” ( الشعور بالحزن يؤدي إلى نوع من الكاثرسيس أي التطهير ) ويرى البروفسور الفرنسى “جاك دى كولون”، أستاذ الفلسفة، وعلم النفس ( أن الشعر يمكن استخدامه فى علاج بعض الحالات النفسية الشخصية، فهو ينصح بقراءة أبيات الشعر المفضلة لدى الشخص أثناء المشى، وبصوت مرتفع )، وإذا كان هذاهو الشعر فما بال المسلم بما هو اوجب وهو القرآن الكريم فإنه إذا إرتوى به قلب المؤمن كان له نورا وهدى يقول أبو الحسن التهامي في قصيدة له في رثاء ابنه؛ تُعد من عيون قصائد الرثاء وقد جاء في الأخبار أنه رُئيَ بعد موته في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قيل له: بأي الأعمال؟ قال: ببيتٍ من قصيدةٍ لي في رثاء ابني أقول فيه: ( جَاوَرتُ أعدَائِي وجَاورَ ربهُ .. شتان بين جِوارهِ وجِوَاري ).. ومن هنا نرى البروفيسور محمد العمري ينطلق في بثه ورثاءه لفقد شيخه الشيخ محمد بن ناشع البهيشي الشهري رحمه الله يقول :
على جوديها أرسى السفينـــة
وخلف هذه الدنيا الحزينــــــة
وشق عبابها تسعين عامــــاً
يسمن علمه فيها ودينــــــــه
فروى قلبه بالــــــــدين حتى
رمى عينية واستبقى يقينـــه
وسخر عمره في العلــم حتى
حوى أنقى فرائده الثمينـــــة
فلو كشف الغطاء لناظريــــه
لما شابت عقيدته ظنينـــــــه
ولو حجبت مياه العلم عنـــه
لأصبح صدره الراهي معينة
اختار الشاعر من بحور الشعر اوفرها حظا لخدمة ابياته والتي تحقق مبتغاه ووفق في البيت الأول صدره وعجزه ( السفينة والحزينه ) وان كان عند اهل العَروض كالمصراع كما يقول قدامة بن جعفر: ( هو أن يعمد الشاعر لجعل مقطع أوّل مصراع من البيت الشعريّ في القصيدة مثل قافيتها ) فكان اول بيت في القصيدة هو اول نقطة النهاية، فكما كان المرحوم شامخا في دنياه عاليا في اهدافه ساميا في مواقفه لم يرض الشاعر لسفينة حياة شيخه ان ترسو على ما تعارف عليه رُبان السُفن من الرسّو على الشاطىء بل جعلها ترسى على جبل منيف ( الجودي) وهو توافق بين العلو والشموخ في الحياة والممات كذلك بإبداع عجيب ان جعل الحياة بحرا متلاطم الامواج ليتفق مع السفينه في اول شطر من اول بيت حزين على دنيا حزينة لفراق ذلك العالم الجليل الذي عمّر دنياه بتسبيحه وتهليله وتحصيل العلم الذي قال عنه الشاعر ( يُسمّن علمها فيها ودينه ) والتسمين هنا رغم انه من المفردات الدارجة في المجتمع الا انها فصحى وكأنه يقول ان كل اعمال الشيخ منطلقة من تعبده لله خالصه وكذلك علمه الذي نشره للأنام فكانت كلها بمثابة الصدقات التي وردت في الحديث ( ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ) قالوا: الفلو: هو المهر الصغير، فيربيه الإنسان حتى يصير حصاناً كبيراً مثل الخيل العظيم، وكذلك الشيء اليسير من الكسب الطيب يتصدق به الإنسان فإن الله عز وجل ينمي له أجره حتى يصير مثل الجبل العظيم. وهذا لانه رحمه الله كما قال شاعرنا ( فروّى قلبه بالدين حتى .. رمى عينيه واستبقى يقينه ) وهنا اقتباسات جميله رغم ما فيها من جماليه الصورة لم يلتفت كغيره لمن يستحق ومن لا يستحق فالادلة الشرعية في قلبه تجعله متيقنا انه فعل الموافق للشرع اخذا وعطاء. لانه كما قال شاعرنا قد سخر العمر كله للعلم ( حوى انقى فرائدة الثمينه) فرائد علميه اي نادرة الوجود، لا نظير لها ولا مثيل لها وهذا سر تميزه رحمه الله، ويقول الشاعر في اقتباس جميل من قوله تعالى ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) فلو كشف الغطاء لناظريه .. لما شابت عقيدته ظنينه وظنينه اي متهمه بأدني قصور لا سمح الله لانها صافيه راسخه. عن علم لو حجب بعضه لم يضره شىء لسلامة الاصل وحفظه في صدره فلا يضر فقدان مخطوط او غيره. وتمضي السنين على الراحل – رحمه الله – وعلى كل أحد من الناس كأنها ساعة من نهار لا نعلم ما حققناه فيها وما الذي فرّطنا فيه من وقتنا وسنين حياتنا إلا أن شاعرنا هنا وضح ان سنين الشيخ التي هي عمره وهي صحيفة أعماله حافلة بالجد والعطاء ..
فلما أترعت من كل علـــــم .. بما لم تحو جوهره خزينــه
رمى الدنيا وولى شطر دارٍ .. بها يؤتى صحيفته السمينه
واستعمل عبارة غاية في الجمال ووظفها توظيفا حسنا وهي أُترعت من أترع ولن اخوض في اعرابه وهي من إِتْراعُ الإِنَاءِ: مَلْؤُهُ وشاعرنا يقصد الامتلاء والتشبع بالعلم في كل الفنون ولعل المفردة على رصيف الحزن أتت لتشارك بقية مفردات القصيدة الرثاء والحزن فإن إِتْرَاعُ القَلْبِ بِالأحْزَانِ: شَحْنُهُ وهذا دور قصيدة الرثاء في ان من فوائدها عند شعراء العرب منذ القدم إذهاب الحزن وهنا يعود الشاعر للحديث عن يمنى شيخه التي قال عنها ذات يوم في مديحه والشيخ على قيد الحياة ويستمع لها..
لأيماننا فخر بلقيا شمالـــــــــه
إذا جمعت لقياه بين الاصابع
شمالك يُمنُ لحمها وعظامها
تُقر لها الأيمان إقرار خاضع
وجلّت عن الدنيا يمينك انها
ستلقاك في تلك الجنان الروائع
فتعلم يا بدر التمام بأنــــــه
من الخير أن ظلّت بتلك البدائع
وإن لم تعش دنيا من النقص كونت
وإن لم تصافح كف خبِ وطامع
هذه اليمنى يقول فيها شاعرنا.. وهنا ايضا في قصيدة الرثاء يتناولها من زاوية أخرى وفي منازل الآخره فيقول :-
بيمنى لم تصافــح كف خبٍ
حصان عند خالقها حصينه
ثم وصف شاعرنا هذه اليمنى بأنها حَصان بمعنى دُرة طاهره ؤلؤة فريدة عند بارئها لهذا قال ومن باب حسن الظن والرجاء والامل مع صالح العمل وبرحمة الله ..
غداً ألقاه في جنات عـــــــدنٍ
وأمعن في معارفه الرصينـــه
وأطلب إذنه يوماً لأحكـــــــي
مآثره وأسمعها يمينــــــــــه
وأخبرها هناك بكـــــل شيءٍ
عن اليسرى الميمنة الأمينه
هنا الابداع في الحديث مع اليد اليمنى وجعلها في محل النطق للاية الكريمة الواردة في هذا الشأن وأخبرها عن اليسرى المؤمنة الامينة عبارتين غاية الجمال وهذا الاخبار وفق الحديث « أنتم شهداء الله في الأرض » ثم يكتفي عن سرد كل تاريخه مع شيخه بالحديث عن الجزء المعبر عن الكل عن اليسرى التي شرفت يميني بلقياه فما زالت مكينه واصفا شيخه لهيبته بالاسد ولهذا فإن اشجع الرحال واعتاهم لا يقترب من الاسود الا في سكينة والا اقدم لهلاكه وهنا الجمال في الادب مع شيوخنا واهل العلم وكذلك ولاة الامر والوالدين :
عن الأسد الذي ما زلت أدنو
لظل جلاله بخطىً رزينـــــه
فلما كنت أوفى الناس حظاً
تخيرني وأدخلني عرينــــه
سأخبرها هناك بأن قلبـــي
بملهبِ حُبِّهِ أطفا حنينـــــه
وظلت قبلتي ترجوه حـتى
تقبلها فلم تبرح جبينـــــه
وظلت قبلتي ترجوه هنا بيان اخلاق الشيخ رحمه الله كسائر اهل العلم المتمثلة في التواضع والعزوف عن الرغبة في تقبيل اي احد لجبينه الا ان شاعرنا كان له هذا الشرف لما له من حظوة لادبه وحسن تتلمذه. ثم يأتي شاعرنا في آخر قصيدته بعد انسيابها وترتيبها الشاعري البديع الى الحلقة الاخيرة من هذه الصور الرثائية الحزينه والجميلة في غرضها يأتي الى وصف حالته بعد رحيل شيخه اذ انه وحيدا..
وأني حين خلفني وحيــــداً
ومات فلم يعد للعيش زينه
ولهذا فهو يحاول ان يجمع ملامحه التي اتى الحزن عليها كانه جيشا زاحفا فرقها وبعثرها فهو يجمع شتاته المعنوي والحسي واتى بمفردة ( أقبية ) لتستوعب كماهي المكان الدافيء الآمن وهي اول مفردة فيها شىء من الهدوء والسكن بعد هذا السيل من مفردات الرثاء الذي بطبيعته حزينا وكذلك فإن اقبية بمبناها من وجه آخر ذات دلالات جميلة في نفس السياق وقريبا منه او تبعا له..
جمعت ملامحي وأسرت نفسي
بأقبيه من الذكــــــــــرى متينه
ولهذا فإن الانتهاء بمسرح الافكار بعد مسرح احداث الحياة نتيجة جمالية انتهى شاعرنا اليها اذ يقول :-
فأمسى مسرح الأفكار فيه
كمعتكف بمكة والمدينــــه
وابدع في الشبه والمشبه به ووجه الشبه فلا اجمل من المعتكف لانه في اتجاه ومكان واحد وصفاء ونقاء ذهني ومع هذا فيه جمالية انه لا يصح الا في جامع للمؤمنين وهذا فيه احساس شاعرنا في مكان فيه اجتماع دائم هكذا ارى هذه الصوره ان لم اكن واهما وعليه اختار شاعرنا اقدس مكان المسجد الحرام والنبوي فكأن شاعرنا تهوى نفسه اناس وامكنه ذات اخلاقيات محددة كما اسلفت وهذا يدل على انه ينتقي بشكل دقيق من يطلب العلم على يده او من يصاحب او من يتعامل معه فهو في حذر من الدنيا هكذا هو كشيخه رحمه الله ولا يمكن للدنيا ان تغره او يسمح لها بأن يكون اداة بيدها لتغر غيره به ولهذا عبرعن هذا بنوعين من البيوع بيع النجش وبيع العينه..
وكم دعت الحياة فلـــم أجبها
فباعت صحبتي نجشا وعينه
وعلى الرغم من أن شاعرنا قد أنطقته المعاناة والحزن لفقد عالم جليل ورمز من رموز رجال الحجر والوطن لكن نعلم يقينا ان شاعرنا يملك روحا وثابة تدفعه إلى العلياء، والسير بخطى ثابته تعرف مسارات الحق فتمضى فيه بكل يقين، وترتقى بهمة المواطن الصالح والمربي الصالح إلى الجوزاء فينشر العلم ويسهم في بناء وطن الخير كما عهدناه رمزا من خيرة ابناء الوطن بولائه لله ثم لمليكه ووطنه وهنا ينتهي مداد قلمي بما افاض من كلمات مع الدعاء للشيخ محمد بن ناشع بالرحمه ووالدينا جميعا وبالشكر والثناء للشاعر البروفيسور محمد بن علي العمري ولكل من يقرأ شعر الفصحى ويستمع له ويجاهد نفسه على فهمه. فلم اكتب ما سبق لأنال إعجاب الدكتور محمد فعلاقتنا اكبر من هذا ولا لنيل مدح أوثناء من أحد فرغم ان النفوس مجبولة على حب المديح والثناء لكن اجتزنا نصف قرن من الزمان لم تعصف بنا عبارات مدح أوقدح ولكن الأهم والأسمى ان نُبيّن للناس ان القصائد أبعد مما تحويه مساحة كلماتها فهي كيان الشاعر وفكره وموهبته وبيئته ووجدانه وهي ديوانه اللُغوي الفصيح.
د. عبدالله بن سعيد الأسمري
Twitter:
DR_AbdullahL
Abdullahalasmari360@gmail.com
التعليقات
تعليق واحد على "جماليات قصيدة “العمري” في رثاء الشيخ بن ناشع – بقلم د. عبدالله سعيد الاسمري"
رحم الله الشيخ الجليل والمعلم القدير ابن ناشع واسكنه فسيح جناته
وجزاه خير على ماقدم وجزا الله من ذكره بخير شعراً او نثراً فلمثل هؤلاء العظماء المصلحون يخلد الذكر الطيب والاجر والثواب من الله تعالى ولاازكي على الله احد فاللهم اغفر له وارحمه وتقبله في عبادك الصالحين ووالديه ومن له حق عليهم ونحن ووالدينا والمسلمون والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ومن له حق علينا وعليهم جميعاً برحمتك يا ارحم الراحمين