الموت سنة الله تجري على عباده لا محيد عنه ولا مفر منه لكل أحد. والانفس فيه سواء ( كل نفس ذائقة الموت ) وذكر الله سبحانه انه مصيبة ( فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ) والفقد على اي احد له وقعه واثره من الحزن على اسرته واقاربه لكن فقد اهل العلم يمتد الأسى والحزن والفقد على المجتمع الذي كان لهم هذا الميت نورا يهتدون بعلمه في امور دينهم ولهذا تتسع دائرة الحزن عند موت العلماء لتصل طلاب العالم الذي رحل الى ربه وزملاؤه فيشعرون بفقده انهم فقدوا امرا غاليا عليهم بما يقدمه من فتوى وعلم وحكمة وراي رشيد وقول سديد واحسن الشاعر اذ قال :
لعمرك ما الرزية فقد مال .. ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شخـص .. يموت بموته خلق كثير
وما هذه المنزلة التي وهبها الله للشيخ “محمد” رحمه الله وغيره من العلماء إلا لانهم منارات للهدى كما قال الامام احمد ( يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه )
الشيخ “محمد” رحمه الله من فترة والدي رحمه الله العمرية والزمنيه ولفطنته رحمه الله توجه للعلم في تلك السنين التي اقول عنها وبإختصار أن ترك المزارع والرحيل عنها عند اي أحد أمر يحتاج ان يستشير فيه الانسان اولوا الاحلام والنهى هذا إذا كان يريد اي عذر لخروجه من قريته. ومع هذا رحل الشيخ في الستينات الهجرية لاسمى هدف وهو العلم والتعليم والدعوة.
يعد الشيخ محمد بن عبدالله بن ناشع البهيشي الشهري احد رموز رجال الحجر حسبا ونسبا وكرما وجودا وسؤددا ومع هذا فهو احد رموز العلم الذي تصدر اسمه اولى صفحات رسائل الماجستير والدكتوراة ومن لم يحالفه الحظ حث المسير الى منزل الشيخ ومكتبته، وكان رحمه الله يجلس اليه العدد من اساتذة الجامعات كل في تخصص ويطرحون ما يريدون ولا يخرجون إلا بذهبيات من الوقفات العلمية كل في تخصصه ويخرجون وهم يشيدون بعلمه وتميزه..
وهذا حضرت بعضا منه وكانت احدى هذه الزيارات يرافقني البرفيسورصالح ابو عراد الشهري والباقي بلغ حد التواتر المعنوي وقد زارني في منزلي بسدوان بللسمر اثنين من طلاب الدرسات العليا بتوجيه من الشيخ رحمه الله احدهما من الجامعة الاسلامية والاخر من جامعة ام القرى فأكرمت وفادتهم وتناولا مأدبة العشاء وكان جزء من حديثهما عن غزارة علم الشيخ وكرمه واحدهم الاخ عبدالرحمن السلولي فقلت لهما هو كذلك في استقبال كل ضيف يفد اليه رواه الأباء لنا ورأيته فكان فوق الوصف كما قال الاعشى:
ترَى الجُودَ يَجرِي ظاهرًا فوْقَ وَجْهِهِ * كمَا زَانَ مَتنَ الهِندُوَانيِّ رَوْنَقُ
وهو والكرم اولى بقول الاعشى .. تُشَبُّ لمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا .. وَبَاتَ عَلى النَّارِ النَّدَى (وَالمُحَلَّقُ) .. بل الاولى وابن ناشع
وكانت تلك الليلة من ليال الشتاء الباردة والجو يزيد ظلامه كثافة الضباب فنزلا الضيوف عند رغبتي في المبيت وتناول وجبة الفطور فكان ذلك وودعتهم ضحى اليوم الثاني بكل الحب والتقدير لهما وللشيخ محمد مع اني تمنيت انهما اوفوا لي حقهم في ان اضيفهم ثلاثة أيام .
تشرفت بزيارته مرات عديده في منزله والافادة من علمه واستضافنا ذات يوم في رحلة برية يرافقني شقيقي عبدالرحمن والاستاذ عبدالله بن علي بن محيا رئيس مركز شعف بلقرن حاليا وكان في صحبة الشيخ فضيلة الشيخ علي بن احمد بن قصير الشهري امام وخطيب بمحافظة خميس مشيط ومن حفاظ كتاب الله وكان قبل التقاعد بالشئون الدينيه وشقيقه الاخ الاستاذ المربي الفاضل والشاعر الجميل عبدالله بن احمد بن قصير الذي يعتبر الشيخ رحمه الله في مقام والده لانه صديق لوالده قبل كل شىء..
وهذه احدى سمات ابو احمد النبيله رعاه الله، كان الشيخ رحمه الله كعادته يحب ان تكون هذه النزهه راحة للنفس وزيادة كرم للضيف ومع هذا فالجدية والاحاديث والانضباط في دقائق وساعات هذه النزهه. من الصباح الي وقت صلاة الظهر اكثر جمالا بوجوده رحمه الله ،
طيب الحديث سمح المحيا كريم السجايا وعند صلاة الظهر ترى القدوة في كل امور هذه الشعيره.
زارني رحمه في عام 1414هـ بمدارس تحفيظ القران الكريم فكان نعم الموجه والمربي من حيث التركيز على الجانب الفني للمادة الدراسيه، والجوانب التربوية الاخرى التي هو احد رموزها مع تركيزه الشديد جدا على توجيهي انا والزملاء لمزيد العناية والاهتمام بالتربية الوطنية وتوظيف كل موقف تعليمي لهذا الهدف وتنمية الولاء والانتماء في وجدان الابناء، ورغم اني نلت شهادات شكر وتقدير قبل وبعد الا ان تكريمي من قبل مدير تعليم النماص أ/ سالم الحامدي وبحضور الدكتور ظافر بن حبيب العمري والشيخ محمد رحمه الله اعتبره من اجمل ما حصلت عليه لهيبتهم وقوة ادارتهم وحبهم للنهوض بهذا الجزء الغالي من الوطن ولهذا فهم لا يؤمنون بغير التميز وقد نجحوا في هذا رحم الله الاموات واطال عمر الاحياء .
قرأت مع الشيخ محمد وراجعت كتاب الشيخ سعيد بن رداد الاسمري قاض ورئيس محكمة نافذة الفكر رحمهم الله .. كان الشيخ رحمه الله محبا للعلم والعمل معا فلم تمنعه اعاقته من ذلك وكان يقول رحمه الله علينا أن نسمو بهممنا، وننهض بمهماتنا ويذكر خلال رحلاته الكثيره ما رآه في احدى الدول المجاورة من اقبال طلاب العلم بالالا ف على مشايخهم زيادة على انتظامهم في الجامعات يقول هذا تحفيزا لنا على خدمة الدين والمليك واغلى وطن .. رحمك الله ياشيخ محمد:
وكانت في حياتك لي عظات .. وأنت اليوم أوعظ منك حيا
رحل الشيخ محمد بن ناشع الذي قال لي ذات يوم يجب على من يكتب او يؤلف ان يكتب وهو مستحضر العبور على الصراط فإن اخلص واحسن فذات اليمين وإلا فالحذر الحذر فإن ما يكتبه الانسان يستمر بعد وفاته فلينظر فيما يتركه للناس من اثر حسنه ورديئه، وهذا فعلا الذي جعله يعرض عن جمع شروحه .. رحم الله الشيخ محمد وغفر له وانزله منازل الصالحين.
واحب ان اختم هنا بما قاله البرفيسور محمد بن علي العمري استاذ اللغه العربية والدراسات العليا بجامعة الملك خالد والذي يعمل الآن بمكتب سمو امير منطقة عسير وهو من الذين اشرت لهم في اول المقال بل يعد البروف من انبل واوفى طلاب الشيخ لان دراسته على يد الشيخ هي سبب اختياره لموضوع رسالة الدكتوراة وقد اراد الله ان يجمع بين المعي من الشباب يلتقي الشيخ محمد رحمه الله الذي يعد عبقريا من الاباء وعلمه في اللغة والادب والنقد يعادل علمه في الشريعه وعلومها حيث امتدح البروفيسور رعاه الله ولا فض فاه الشيخ في حفل تكريم الشيخ محمد رحمه في حفل احتشد له مئات
من طلاب الشيخ والعشرات من مديري التعليم وقادة التربية والتعليم بالمعسكر الكشفي بالنماص وبيّن البروف في لقاء مرئي ان قصيدته كانت ارتجاليه لما لاحظه وسمعه إذ ان احد الشعراء في الحفل الخطابي وقع في خطأ غير مقصود حيث ان الشاعر ردد … من يمنى ابن ناشع اكثر من مرة والشيخ خلق بدون يد يمنى الا بعضها لحكمة ارادها الله رغم انه كان رحمه الله يمارس اعمال لا يسطع القيام بها اكثرنا بنفس الجهد يقول البروف ابو الطيب:-
نظمت القوافي من مداد مواجعي
ومن خفق قلبي وانسكاب مدامعي
وبرقعت شعري بالعفاف وبالتقى
فغض احتشاما عن ذوات البراقع
فشعري عظيما للعظيمين مدحه
وليس لمن لايستحق بخاشع
وقد فاز هذا الشعر بالعز عندما
أنخت القوافي في رحاب ابن ناشع
لأيماننا فخر بلقيا شمالـــــــــه
إذا جمعت لقياه بين الاصابع
شمالك يُمنُ لحمها وعظامها
تُقر لها الأيمان إقرار خاضع
وجلّت عن الدنيا يمينك انها
ستلقاك في تلك الجنان الروائع
فتعلم يا بدر التمام بأنــــــه
من الخير أن ظلّت بتلك البدائع
وإن لم تعش دنيا من النقص كونت
وإن لم تصافح كف خبِ وطامع
رحم الله الشيخ وبارك في البروف محمد فقد قال ما يحسن قوله وفعل تجاه الشيخ في حياته ما يجب فعله وهو الاديب الاريب فشعره إبداع وحديثه إمتاع وهذه القصيدة التى أذّن مؤذن بحرها وقافيتها فأتى الابداع يتزاحم على أحرفها ومفرداتها واقتباساتها واخيلتها ولو لم يقل الا هي لكانت كافية ان تجعله في مصاف فطاحل وفحول شعراء الفصحى على امتداد تاريخهم من العصر الجاهلي الى المتنبي وابن عمه ديك الجن وكفى ..
لانها لامست وجدان كل محب للشيخ في حياته وبعد وفاته وقد نشرتها قبل عدة ايام من وفاة الشيخ وارسلتها لشاعرها رغم اني احفظها من فترة طويله، رحم الله الشيخ محمد بن ناشع والهم اهله ومحبيه الصبر فهو بلسم لدفع هول الفاجعة وشدة المصاب وهو من الايمان الذي يقتضي كمال الرضا بالقضاء.
التعليقات
تعليق واحد على "الماتع في سيرة الشيخ بن ناشع – بقلم الكاتب د. عبدالله سعيد الأسمري"
رفع الله قدرك ورحم شيخنا الفاضل وجعله في الفردوس الاعلى من الجنة ووالدينا وجميع موتى المسلمين أنه سميع مجيب الدعاء.
سلمت بيض الله وجهك