قال تعالى «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورا»
لا أعرف من المسؤول عن انتقالنا من الأمر إلى نقيضه، ولماذا نحصر حياتنا في الخيارات المتطرفة يمينا أو يسارا، حتى يبدو وكأننا لا نتقن كمجتمعٍ سوى الانحياز التام إلى أحد الطرفين، أتحدث هنا عن الرسمي والمجتمعي، بل حتى في الدائرة الأصغر من العلاقات، فحينما نكتشف خللا ما، في منظومةٍ معينةٍ، نلجأ في الغالب إلى محاولة إلغائها بالكامل، والمفاصلة التامة معها، بل نتجاوز ذلك إلى الانغماس في التغافل عن نقائص المنظومة الجديدة، وتجاهل مواطن ضعفها، وهذا ما يعيدنا إلى المربع الأول في أغلب قضايانا، حيث نكتشف فيما بعد، أنّ كل منظومةٍ تحتوي في ذاتها على نقائص ومكامن خلل، وأنّه من السذاجة أن نجد منظومةً كاملةً في أمرٍ من الأمور، فنبدأ في البحث عن بديلٍ جديد، وهكذا يستمر المسير في دائرةٍ مغلقةٍ لا تؤدي إلى مكان.
أذكر أنّني كتبت مقالة قبل سنواتٍ عن ضرورة ترشيد نظام الولاية، وتحديث قوانين الأحوال الشخصية، ولم أكن أتخيل في ذلك الوقت، أنّني سأعود للمطالبة بترشيد نظام الانفلات والتمرد، الواقع الآن، والمطالبة بالمحافظة على ما تبقى من نظام الأسرة وسلطتها المعنوية بشكلها الإيجابي، وهذا من سخرية الأحداث وعجيبها، ولكي يتضح الأمر، فالعلاقة يجب أن تكون بين الوالدين ومن في حكمهما من جهة، وبين الأبناء ومن في حكمهم من جهةٍ أخرى، علاقة حقوقٍ وواجبات، وقد كان الأمر في السابق أن حقوق الوالدين تضخمت على حساب حقوق الأبناء، وأنّ واجبات الوالدين تم غض الطرف عنها وتقليلها مقابل تكثير واجبات الأبناء والتركيز عليها، هكذا كان الأمر في السابق، وهو ما طالب كثيرٌ من العقلاء بتغييره عن طريق إعادة الهيبة لكفتي الميزان، فلا تطيش إحداهما بالأخرى.
أما الواقع الآن فهو عكس ما كان عليه في الماضي، حيث تم تضخيم حقوق الأبناء وتقليل واجباتهم، مقابل تضخيم واجبات الوالدين وتقليل حقوقهما، وهو ما أعادنا إلى المنطقة التي فررنا منها، وهي منطقة هضم الحقوق ووقوع الجور، وهذه الحقيقة التي لا يسعنا الهروب منها، مهما حاولنا تجميلها تحت الدعاوى البراقة، والانتصارات الوهمية اللامعة.
وللقارئ الكريم أقول: إنّ وضع النسوية مقابل الولاية الجائرة في عنوان المقالة، ليس مصادفةً أو إنشائية مجانية، فرأس الحربة في معركة هضم حقوق الوالدين وتكثير واجباتهما، مقابل تضخيم حقوق الأبناء وإعفائهم من واجباتهم، هي الحركة النسوية البغيضة، وكثيرٌ من أنصارها من الذكور النسويين.
ويمكن القول هنا: إنّ أكبر عيوب الولاية الجائرة هو سوء استخدام السلطة، بينما يمكن القول إنّ أصغر عيوب النسوية هو إسقاط النظام الاجتماعي وتفتيت الأسرة، العقلاء يعرفون ذلك ويألمون له، وطوبى للآباء والأمهات الذين لا تستطيع الدنيا تعويضهم عن خيبتهم في ثمرة أرواحهم.
التعليقات