الثلاثاء ١٣ مايو ٢٠٢٥ الموافق ١٦ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

من دفاتر السفر – بقلم الدكتور فايز الشهري

من دفاتر السفر – بقلم الدكتور فايز الشهري

 

لكل مدينة شخصيّة حقيقيّة لا تجد وصفها في المطبوعات السياحيّة ولا حتى في أحاديث السياح الذين يتجولون ضمن البرمجة السياحيّة التقليديّة. وهذا الاستنتاج اكتبه هنا ثمرة من ثمار السفر والترحال إلى أكثر من أربعين بلدًا وقرابة المائة مدينة في العقود الماضية وهي تجربة طويلة أحاول اليوم رصد ملامحها في كتاب لعل الله أن ييسر له الخروج.

وحكايتي مع السفر بدأت في مرحلة مبكرة من العمر حين أدمنت قراءة السير وأدب الرحلات. وقد خرجت من هذه التجربة بحب السفر والرحلات وأيضاً تكوين العديد من القناعات ومنها أن شخصيّة المدن الحقيقيّة لا تتضح إلّا بإعادة اكتشافها في رحلات عميقة. وحيث كانت “القاهرة” أول مدينة زرتها في بواكير العمر لحضور معرضها السنوي للكتب فقد اخترت مع الرفاق أن يكون السكن في عمارة “فيلا القمر” المطلة على النيل والمحاذية لشقة الراحل نجيب محفوظ بجوار مستشفى الشرطة بحي العجوزة. وما أن وضعت حقيبتي حتى خرجت أسأل حارس عمارة الكاتب الكبير عن برنامجه وساعة خروجه فردت امرأة سمينة جاهلة كانت إلى جوار الحارس رداً جافاً وهي تصف الأديب الكبير فعنّفتها ومنحت الرجل إكراميّة مجزية وعاقبتها بالحرمان لما رأيته من عدم تقديرها لأديب كبير في وزن “محفوظ”.

لم تكن القاهرة وأنا أتجول فيها غريبة عني كثيرًا بل كنت أسير في شوارع مألوفة واسمع لهجة اعتادتها أذني بفعل المعلمين المصريين في المدرسة وكذلك تأثير مشاهدة المسلسلات والأفلام المصريّة التي كانت مصدر الترفيه العربي المتجدد وقتذاك. ولم تبد القاهرة غريبة أيضاً لأني كنت أقرأ كثيراً لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد عبدالحليم عبدالله ثم كان الاكتشاف المذهل في أواخر مرحلة المراهقة لقصص يوسف إدريس برشاقتها وقربها من واقع الناس. هذه الأعمال صوّرت لي حياة الإنسان في القاهرة وروح الحارة المصريّة بشكل أخّاذ. وأذكر أني بعد ذلك بسنوات حاولت إعادة اكتشاف حي الجماليّة ومسجد الحسين في “الفجريّة” كما صورتها الروايات فقررت ذات مساء ألا أعود إلى فندقي الكبير على ضفاف النيل واستأجرت غرفة في منزل صغير يطل على ميدان الحسين، وكانت تجربة “صياح” الباعة والحمالين والمتسولين في الصباح الباكر صورة مركزة “للحرافيش” ذلك الوصف الذي استلهمه محفوظ اسماً للرواية الشهيرة “ملحمة الحرافيش”.

وحيث كانت القاهرة مفتتح السفر العميق أوائل العمر فقد كانت زيارتي الأولى لبغداد (أكتوبر 2017) أشبه بفتح بوابة سحريّة أخذتني لروعة التاريخ والشعر والأدب. لم أستطع أن أغمض عيني وأنا أقطع الشوارع في السيارة المصفّحة إلى فندق الرشيد الشهير حيث ظهرت أمامي معظم أسماء اللوحات مألوفة إلى الذاكرة والوجدان. هنا لوحة على الطريق تشير إلى طريق الكوفة وأخرى تشير إلى الحلّة والكرخ وقاطع الرصافة. وكانت ذروة الرحلة حينما وجدت نفسي بعد يوم من الوصول إلى بغداد أتجوّل في شارع “المتنبي” مالئ الدنيا وشاغل الناس وأمام تمثاله المهيب على ضفاف دجلة انهمرت الذكريات.

هذا الشعور هو ذات الشعور الذي انتابني وانا أزور قلعة دمشق وتمثال صلاح الدين الأيوبي وسوق الحميديّة في دمشق عام 1992م. وهو شعور تكرّر أمام “باب اليمن” في صنعاء القديمة (عام 2003) حيث تروي الأمكنة حكايات الأزمنة.

قال ومضى .. لا تعطِ الثقة لمن يتاجر بها ولا تمنح المكانة لمن يفاخر بها.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *