الثلاثاء ١٣ مايو ٢٠٢٥ الموافق ١٦ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

مسؤولية الشعوب (3) – بقلم الكاتب أ. محمد بن الشيبة الشهري

مسؤولية الشعوب (3) – بقلم الكاتب أ. محمد بن الشيبة الشهري

 

لا تؤتى الشعوب إلا من قبل اصطفافهم الأعمى وانقيادهم لمجموعة من المؤثرات النابعة عن موروث فكري خاطئ، أو سلوك سيء تتابعت عليه الأجيال ﴿إِنّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِم مُهتَدونَ﴾ ، أو مؤثر خارجي سُكب في أذهانهم عبر وسائل ناعمة أو قسرية تم من خلالها استغلال ضعفهم الثقافي أو النفسي أو الاجتماعي للاستفادة من سوادهم في مقارعة الخصوم أو الاستئثار بالصدارة مع تغييب لدورهم ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) ..

ليس هذا فحسب بل تتصدر الطغمة الغالبة في العادة لصدّ الناس عن أي طريق يرفع وعيهم؛ ليبقوا ضمن تأثير نفوذهم السلطوي المضلل وإن تلبّسوا بلباس النصح والوعظ والإرشاد ﴿وَانطَلَقَ المَلَأُ مِنهُم أَنِ امشوا وَاصبِروا عَلى آلِهَتِكُم إِنَّ هذا لَشَيءٌ يُرادُ﴾ وتستديم محاربتهم لقوى الإصلاح بالقمع تارة ﴿قالوا إِنّا تَطَيَّرنا بِكُم لَئِن لَم تَنتَهوا لَنَرجُمَنَّكُم وَلَيَمَسَّنَّكُم مِنّا عَذابٌ أَليمٌ﴾ ..

وبالتشكيك تارة ﴿ما سَمِعنا بِهذا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِن هذا إِلَّا اختِلاقٌ) وبالقتل تارة ﴿قُل فَلِمَ تَقتُلونَ أَنبِياءَ اللَّهِ مِن قَبلُ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ) وبخداع الجماهير تارة أخرى ﴿قالوا إِن هذانِ لَساحِرانِ يُريدانِ أَن يُخرِجاكُم مِن أَرضِكُم بِسِحرِهِما وَيَذهَبا بِطَريقَتِكُمُ المُثلى﴾ ، فهذا فرعون يُنكر على موسى قتل نفس واحدة ويعيّره بها (وَفَعَلتَ فَعلَتَكَ الَّتي فَعَلتَ وَأَنتَ مِنَ الكافِرينَ﴾ وهو القاتل لآلاف البشر!! 

وهكذا تنطلي على الكثيرين من البشر دعايات التضليل وتزييف الحقائق، وقد بيّنا في الجزء الأول من هذه المقالة مسؤولية الفرد تجاه نفسه، وأنّ أحدا لن يكون له نصير يوم القيامة عندما يسأله الله عن اتّباعه لفلان و فلان، وأنّ هذا القرآن أتى بالبيان الواضح الذي تدركه العقول وتسلّم له النفوس السليمة، على وفق ما بيّنه نبينا ﷺ و تبعه عليه سلفنا الصالح رحمهم الله .

والذي نريد الوصول إليه هو تحرّر الشعوب المسلمة من المؤثرات المتنوعة التي تُسلّطُ عليها، وألّا تجعل لسلطان عليها سبيل إلّا سبيل الشريعة الإسلامية الغرّاء، وقد يكون هذا الأمر غير ممكن من حيث النظر، ولكن إذا ظفرنا بأكبر عدد ممكن فستنتقل عدوى الوعي بين الجماهير، فالآراء اليوم تُصنع في المجالس والمقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي التي تدور فيها غالب أحاديث الناس، وهي كفيلة للوصول إلى الجمهور الأعم من الأمة.

وهذا يقودنا إلى الحديث باختصار عن شمولية النظام الربّاني لشريعة الإسلام ومراعاته لكافة جوانب حياة الإنسان، ولاسيما ما يخص مسؤولية المجتمع تجاه نفسه ، لتقوم الشعوب بدورها الصحيح المنوط بها، وهو ما سنبدأ بتناوله بإذن الله تعالى في الجزئ القادم من هذه المقالة ، ونحن بذلك نؤكد على أنه مهما بلغت درجة التغييب التي مورست على الشعوب ..

فإن شرع الله تعالى قادر على إعادتهم للفطرة السليمة بإذن الله متى ما وُجدت مقوّمات ذلك، وقام كل فرد في الأمة بما أوجبه الله تعالى عليه، إن عالما فبعلمه، وإن أميرا فبإمارته، وإن عاميا فباتباعه للمنهج الحق الذي دلّت عليه نصوص الشريعة الإسلامية واتباع العلماء الربانين في ذلك، وأن لا يبقى مرهونا لمن يقوده نحو الهاوية وهو يرى المصلحين عن يمينه وشماله ومن أمامه وخلفه ينادونه ﴿يا بُنَيَّ اركَب مَعَنا﴾ وهو غارق في سجن هواه لم يتح لنفسه مجرد الفرصة لمعرفة الحق بدليله، ولسان حاله لا أسمع لا أرى لا أتكلم !!

قال ابن باديس رحمه الله: الجاهل يمكن أن تعلِّمه، والجافي يمكن أن تهذِّبه، ولكن الذَّليل الذي نشأ على الذُّل، يَعسُر أو يتعذَّر أن تغرس في نفسه الذَّليلة المهينة عزَّة وإباء وشهامة تُلْحِقه بالرِّجال. انتهى

وهذا يذكّرنا بكثير من الناس الذين استسلموا للخرافة والدجل والغوغاء من البشر حتى قبّلوا الأقدام ، ومرّغوا وجوهكم في الوحل، وسجدوا لغير الديّان، وبذلوا الأموال والأعراض للطواغيت والشيطان، واتبعوا طُرقا ومناهجَ لا تستقيم مع عقل إنسان ولا حيوان ولا فطرة مخلوق، حتى وصلوا إلى مراحل ساحقة من الذلّ والهوان ، والله قد اختار لهم الإكرام والحريّة بالتوحيد والعبادة له وحده لا شريك له، واختاروا لأنفسهم العبودية للبشر والعيش في ظلمات الجهل والضلال.

وقد مرّ على العرب قبل الإسلام جاهلية جهلاء، وصلوا بها إلى قاع من الانحطاط الأخلاقي والديني حتى انتشلهم الإسلام ورفعهم إلى قمم سامقة في جميع مجالات الحياة، في منهج رباني معجز، قدّمه لهم أفضل البشر ﷺ ، وكان خير معين له في ذلك صحابته الأجلاء وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة وخير الأمة من بعده، رضي الله عنهم جميعا.

والذي يُراقب هذه الظاهرة العظيمة في نقل هذه الأمة من حال إلى حال سادت به مشارق الأرض ومغاربها؛ ليدرك تماما أن التمكين والعزة للمسلمين منوطة بمنهج معيّن جاء به المصلح الأول لها، وكلما زاد نصرهم لهذا المنهج زاد تمكينهم وسؤددهم، والعكس بالعكس ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم﴾
فسبحان من شرع دين الإسلام لينقل به أمة غارقة في ظلام الجاهلية ويصنع منها يوما ما أكبر حضارة عرفتها البشرية، وما ذاك إلا بشريعة الإسلام التي عزّتهم عندما عزّوها، وذلّوا عندما فرّطوا فيها، وصدق الفاروق رضي الله عنه: كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.

تقديري لكم : محمد بن الشيبة الشهري
twitter.com/ebnasheba

 

مقالك37

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *