كان أول ما نزل من القرآن الكريم “اقرأ باسم ربك الذي خلق” في إشارة ربّانية إلى أهمية العلم الصحيح الذي تنضج به عقول البشر، وتستقيم به فطرهم على قصد الشارع وحكمة التشريع، قال ﷺ “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه..”
نصوص الوحيين تزخر بالثناء على أهل العلم، وتفضّلهم على غيرهم، بل وتأمر الناس بطاعتهم والرجوع إليهم “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” والنبي ﷺ يعزز هذا الجانب بالقول والعمل “طلب العلم فريضة على كل مسلم” ، وكان عتابه شديدا على من تصرف دون علم يرجع إليه ” قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال”
ولمّا كان الأمر كذلك جاءت التطبيقات العملية من النبي ﷺ في الحرص على بناء المجتمعات الإنسانية عامة والمسلمة خاصة، بناء علميا رصينا تجابه به أغوار الحياة، وتتعرف به على الحق وتصبر عليه، وتثابر من أجل الزيادة منه ومعرفة السبل الصحيحة الموصلة إليه.
وإنه لمن عجيب أمر الشريعة أن الله تعالى لم يطلب من نبيه ﷺ الزيادة في أمر كما طلب منه الزيادة من العلم “وقل رب زدني علما”. قال الحافظ في الفتح : “وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ رَبِّ زِدْنِي علما وَاضِحُ الدَّلَالَةِ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ الْعِلْمِ وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُفِيدُ مَعْرِفَةَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ أَمْرِ دينه فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ وَالْعِلْمُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ”
وهكذا لم يدعِ النبي ﷺ فرصة سانحة لإنارة عقول البشر إلا واستثمرها، فبعد غزوة بدر كان فداء بعض الأسرى ممن لم يكن لهم فداء: تعليم أولاد الأنصار الكتابة، ليهيئ النبي ﷺ ذلكم الجيل الفتيّ للاستزادة من العلم ويفتح لهم أبوابه على مصاريعها.
وفي قصة قريبة تدل على حرص المصلحين الدائم على وعي الشعوب نرى نبي الله يوسف عليه السلام وهو في السجن لم يترك الفرصة السانحة تفوته في إيصال الوعي اللازم بالرسالة الأعظم في تاريخ الأمم (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
وهكذا يربي نبينا ﷺ جيلا محبا للعلم، حريصا عليه، يقي نفسه بإذن الله من كيد المضلين ومزالق الجاهلين.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يترك مجلس العلم إلا بالتناوب مع صديق له يحفظ ما فاته ويبلغه به، والأعرابي يأتي من البادية ليتعلم بنفسه من النبي ﷺ ليعبد الله على بصيرة، والمرأة لم يمنعها الحياء من أن تصل إلى فهم حُكمٍ مهم يلازمها وبنات جنسها، والإمام أحمد يمر به العلماء في المحنة ويذكرونه بعذر الله له؛ فيهتدي بعد توفيق الله بفقهه بالمآلات وموازنته بين المصالح والمفسدات، حتى نصره الله وأظهر به السنة، وهكذا هو العلم النافع يحرص عليه الموفق، ليكون هاديا له وقت الفتن والابتلاءات.
وهكذا تتوالى مواقف الواعين أفرادا وجماعات على مدى التأريخ، لتسطّر للناس: أن المدرك لحقيقة الأمور أحرى بالخروج من المآزق، وأن الجاهل المغيّب أحرى بالوقوع فيها ومكائدها.
إن المجتمع الواعي لا يمكن أن تزعزع معتقداته السليمة مسلسلات هابطة، أو مقالات تافهة، أو تتلاعب به أنظمة مستبدة تزيّف له الحقائق وتسيّره وفق أجنداتها، حتى راح ملايين البشر ضحية لقرارات الحمقى والطغاة، في صراعات ما كانت لتحصل لو كان لتلك المجتمعات قدر كاف من الوعي والعلم.
وإنك لتعجب عندما ترى كثيرا من الناس يُفترض بأنهم قد أصبحوا على قدر كبير من العلم والثقافة، يخرجون بأعداد جماهيرية لاستقبال لاعب كرة، أو مغن، أو ممثل، أو أحد مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي! وتوقن حينها أن ممارسة التغييب والتجهيل على الشعوب لها أثرها الكبير على وعيهم وإبعادهم عن قضاياهم الحقيقية، وفي هذا السياق نتذكر مقولة هتلر عندما سقطت العاصمة الفرنسية بيد النازيين ( عام ) 1940 عندما وقف على قبر نابليون بونابرت وانحنى له قائلا : “عزيزي نابليون، سامحني لأني هزمت بلدك، لكن يجب أن تعرف أن شعبك كان مشغولا بقياس أزياء النساء بينما كان شعبي مشغولا بقياس فوهات المدافع والبنادق”.
وتذكرنا هذه القصة بماض مؤلم مر على أمة الإسلام فقدوا فيه إكليل حضارتهم في الأندلس، بسبب تفرقهم وشُغل كثير منهم بالتوافه، بعد أن كانوا أقمارا تضيء للعالم نور رسالة المصطفى ﷺ.
وفي المقابل عندما نستعرض الوقائع التأريخية والمعاصرة لثبات بعض الأفراد والجماعات في المواقف الصعبة؛ ندرك أن العلم والوعي يصنع الفارق، وأنه المحك الحقيقي والدرع الحصين بعد توفيق الله تعالى في صيانة الفرد والمجتمع من أي انحراف في بوصلته الفكرية.
الجهل أو التجهيل يا سادة لم يعد بضاعة مزجاة يحاربها البشر، بل أصبح سلعة غالية تُدرّس ويُعتنى بها، وتُؤخذ فيها الشهادات العليا، ليتم من خلالها ممارسة التجهيل على الشعوب الغافلة، وتغييبهم عن الواقع الذي يعيشونه، وتزييف الحقائق لهم، وتوجيههم نحو الأجندات المختلفة.
والعتب هنا يعود لكل فرد سمح لنفسه بأن يبقى إمّعة خارج منظومة الوعي.
وهنا أورد كلاما للدكتور محمد السلومي من كتابه (المجتمع السعودي والتغيير) ص 87 تحت عنوان : “التسيس القذر لصورة من صورة التلاعب بالشعوب وتفتيت لحمتهم واجتماعهم عن طريق غزوهم بالجهل وتزييف الحقائق لهم عبر طرق المواضيع الحساسة التي تستميلهم وتستهويهم وماهي إلا طعم يضعه أعداء أمن الشعوب واستقرارهم ليبثوا بينهم الفرقة والنزاع” ، يقول الكاتب : “من التسطيح والسذاجة في مسألة (حقوق الأقليات) استبعاد العامل السياسي المحرك للساكن في صناعة الأزمات الداخلية للدول، فمعظم التحالفات والحروب العالمية القائمة والقادمة خاصة في الوطن الإسلامي ترتكز على فزّاعة حقوق الأقليات كما هي حقوق المرأة، وهذه الحقوق المزعومة بوابة التدخّل الأجنبي في شؤون الأمم والمجتمعات والخصوصيات الثقافية، لانتهاك السيادة الفكرية لدول العالم الإسلامي، واللعبة السياسية ومناوراتها من خارج الأوطان أو داخلها هي السمة المستقبلية الملازمة لحقوق الأقليات لتحقيق انتهاك السيادة السياسية للدول، وتفتيت الوحدة الوطنية لكثير من المجتمعات والدول الإسلامية.”
ويقول الكاتب: “ومن صور التسيس القذر الأخرى تجاه الإسلام ودوله أن الاستهداف يتجاوز موضوع حقوق الأقليات أو حقوق المرأة إلى الاعتداء على الخصوصيات الفكرية والثقافية للأمم، وهو ما يخدم صناعة الصراع بالأقليات بطرق أخرى غير مباشرة. “. انتهى
الشعوب الواعية بمثل هذه الأخطار التي تداهمها من داخلها أو خارجها لا تنطلي عليها مثل هذه المحاولات الماكرة لإشعال النزاعات فيما بينها، وتحقيق أهداف المستعمرين -المستخربين- الجدد، الذين جاؤوا يمتطون وثائق الحقوق المختلفة ليطوّعوا بها كافة شعوب الأرض للنظام الأممي الذي تحكمه طغمة فاسدة تحت مسمى النظام الدولي.
وينقل الدكتور السلومي في كتابه المشار إليه آنفا ص68 كلاما للباحثة الأمريكية ناتانا دي لونج باس التي كانت رسالتها في الدكتوراه عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تخاطب فيه السعوديين ليواجهوا الحملة المسعورة من الغرب، والتي تهدف إلى تشويه ما هم عليه من الحق، وممارسة التجهيل المنظّم عليهم عبر وسائل مختلفة، حتى أضحى بعض أبنائنا للأسف الشديد واقفا معهم بسهامه وكنانته، تقول فيه : “إن لديكم أشياء كثيرة تجعلكم تشعرون بالفخر، ولكن أدبكم الجم ورقّتكم قد سمحت للغرب بأن يطأكم بقدميه، وأن يصفكم بأنكم مصدر تهديد للديموقراطية وللعالم..
عليكم أن تشرحوا للعالم كيف أنكم تحترمون النساء، وكيف أن بلدكم خال نسبيا من الجريمة، وكيف أنها آمنة، وكيف أنكم تمنحون الأسرة الأولوية في الاهتمام .. عليكم أن تخرجوا عن صمتكم، وأن تتساءلوا كيف أن الولايات المتحدة الدولة الرائدة في الجريمة وفي الاغتصاب وفي العنف المحلي تجرؤ على اتهامكم بانتهاك حقوق الإنسان..!
وعليكم أن تبيّنوا كيف أن ديموقراطية الأمم المتحدة تسمح بتصدير أكبر صناعة للصور العارية في العالم! فلماذا ينتقدون المملكة بسبب القيود التي تفرضها للحفاظ على الأخلاق؟.. وعليكم أن تبيّنوا للأمريكيين بأنهم يميزون بين الرجل والمرأة في الدخل”.
وهكذا نحتاج لأصوات عديدة تبيّن للمجتمعات العالمية بشكل عام، والإسلامية بشكل خاص، كيف تسير حملات التجهيل والتضليل لتغيير أفكارهم ونسخ الحق الذي لديهم بالباطل الذي لدى غيرهم.
الشعب الجزائري بعد احتلال فرنسي دام أكثر من مئة وثلاثين عاما استطاع بعد توفيق الله طرد المستخرب النجس من بلاده إلى الأبد إن شاء الله، مع كل ما ارتكبه في حق الشعب الجزائري من جرائم يندى لها الجبين، كان من أعظمها ممارسة التجهيل القسري على الشعب الجزائري، وحرمانه من وسائل العلم المختلفة حتى من لغته التي نشأ عليها!، فبعد أن دخل المستخرب الصليبي الجزائر والمجتمع الجزائري حينها أبعد ما يكون عن الأميّة خرج بعد أكثر من قرن والأمية تكاد تطبق على المجتمع، وهكذا هم الطغاة في هذا الزمان وكل زمان ينشرون الجهل ويعيقون وسائل العلم ويتاجرون في تفريق شعوبهم ليسودوا من خلال فرض النزاعات بينهم لا باجتماع كلمتهم ولحمتهم !!.
ولكن بعد أن فطن العقلاء لذلك بدأوا بمحاربتهم بالوعي قبل السلاح، فاستثمروا كل وسيلة لإشعال جذوة الإسلام والعروبة في قلوب الجزائريين وإبقائها مشتعلة متقدة، حتى جاء الوقت المناسب لانقضاضهم على المستخرب الفرنسي فوجدوا شعبا صابرا مثابرا تحمّل أعظم المصائب التي مورست عليه في سبيل نيل حريته وكرامته.
وهذا لا يعني أنه لم يكن ثمة فئام من ذلكم الشعب العظيم غلبها التفرنس والخضوع بعدما غُسلت أدمغتها بالتجهيل والتنكر للتأريخ وغلب على بعضهم رجس الشهوات وكره الطاعات، حتى طُويت صفحات التأريخ مدبّجة في صفحاتها البيضاء لجماهير الواعين والمناضلين، وتاركة للمنهزمين المتنكبين عن دينهم وحضارتهم لا يستحقوا ذكرا في التأريخ حتى في صفحاته السوداء.
الشيطانيون في العالم يدركون خطر بقاء الشعوب على قدر كبير من العلم والثقافة، لذا لا نستغرب أن يكون ضمن برتوكولات شياطين صهيون تعمد إشغال الشعوب بالتوافه والسيطرة على وسائل الإعلام لإلهائهم وتكوين قناعاتهم، وممارسة إرهاب التجهيل عليهم، لتبقى الساحة للطغاة والحمقى، يعيثون في الأرض الفساد.
إن الشعوب الناضجة التي يُستثمر في عقولها بالعلم والتثقيف؛ تتضح مبادئها وقت الأزمات، وكلنا شاهد كيف أن بعض الشعوب تحوّل كثير من أفرادها إلى سُرّاق وقطّاع طرق حينما اختل الأمن لديهم لدقائق معدودات، بينما لن تجد لمثل هذه التصرفات نظير عند الشعوب الواعية.
وبمناسبة هذا الحديث رأينا قريبا كيف وقف الشعب التركي سدا منيعا في وجه من أرادوا ممارسة الوصاية القمعية عليه، فواجهوا بصدورهم العارية قصف الطائرات والدبابات، حتى ردوا بمشيئة الله تعالى باطل البغاة بالوعي والنضوج المجتمعي، الذي جعلهم يدركون جميعا قدر الفساد الذي كان سيحصل لهم وكم سنة سيعودون للوراء بنجاح مثل هذه المؤامرات، ونشوء الحروب الداخلية بينهم وإثارة القلاقل والفتن في بلادهم بعد أن عاشوا الرخاء والازدهار.
وكتبه محمد بن الشيبة الشهري
@ebnasheba
التعليقات