الإثنين ١٢ مايو ٢٠٢٥ الموافق ١٥ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

مسؤولية الشعوب ( 1 ) – بقلم الكاتب أ. محمد بن الشيبه

مسؤولية الشعوب ( 1 )  – بقلم الكاتب أ. محمد بن الشيبه
 

كثيرا ما نُخرج الشعوب من نطاق المسؤوليات العظمى ونرمي بها كاملة على غيرهم حتى تسببنا في تخديرهم وهيأناهم لتقبّل التبديل والتغيير وإن خالف المبادئ والقيم، ونحن بذلك نلجئهم إلى الاعتقاد بأن المسؤولية لم تعد عليهم بل على غيرهم، وأن كل فساد في المجتمع يتسبب فيه حاكم أو عالم فوزره عليه والمجتمع منه براء، وإن شاركوا في قبوله والرضا والعمل به بحجة القهر والغلبة !

عندما أنزل الله القرآن، وأمر بالبلاغ والبيان، بيّن في كتابه مسؤولية الفرد ﴿ لأنذركم به ومن بلغ ﴾ ، وجعل النفس مسؤولة عن عملها مرتهنة به ﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ ، ولم يعذر التابع المغرر به كما لم يعذر المتبوع ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ ، وكل ضلال تنغمس فيه الشعوب ويرضون به سيتجرعون حسرته يوم الحساب وإن تسبب فيه حاكم أو عالم ..

 
﴿ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ﴾، وحتى في العقوبة ينالهم نصيبهم من التكرار والمضاعفة بسبب اتباعهم الأعمى ورضاهم بالباطل ﴿ قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون﴾.

استخف فرعون قومه بجهلهم فأطاعوه  ﴿.. قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ ، وقال ﴿.. أنا ربكم الأعلى﴾ فصدقوه، مع أنهم رأوا الآيات البينات واستقر في نفوسهم صدق يقينهم فأعرضوا وضلوا ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ..﴾ ، ثم ماذا؟ ﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب﴾ .

وكفار قريش أتاهم النبي ﷺ بالخبر اليقين وهو عندهم الصادق الأمين، فكذبوه وآذوه واستبدلوا العزّة في اتباع الحق بالذلة في اتباع الباطل ، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم، ثم ماذا ﴿ فكبكبوا فيها هم والغاوون ﴾ ولن يفيدهم إن اعتذروا بقولهم ﴿ .. ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا﴾.

واليهود أطاعوا علماءهم الذين أحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحل الله فعبدوا بذلك غير الله ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ..﴾
الحقيقة التي ينبغي أن تُدرك وتُبث في المجتمعات أن الشعوب إذا صلحت في نفسها لن يحقق المفسد من خلالها فساده وإن كان حاكما أو غير حاكم، فكل إنسان على نفسه بصيرة، والعاقل في نفسه جزء من منظومة مجتمعية تمثل جدارا واقيا وحصنا منيعا ضد الفساد أو محاولات الإفساد، فالشعوب الناضجة تصنع الفرق، والوعي والمسؤولية يصنعان الواقع.
 
وعند التأمل نجد القرآن الكريم خلّد لنا أنموذجا رائعا لوعي الشعوب والصمود على المبادئ والقيم، والوقوف في وجه الظلم والاستبداد، فأهل الأخدود على ضعفهم وغلبة غيرهم عليهم، إلا أنهم بذلوا مهجهم في سبيل الثبات على الحق فخلد القرآن ذكرهم وأصبحوا قصة للثبات  يرويها القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وعند التأمل في قصتهم أكثر نجد أن الراهب ركّز على وعي الغلام، والغلام بعد محاولاته وبذله في إصلاح الساسة عوّل على وعي الجمهور، ودلّ الملك الطاغية على وسيلة قتله في سبيل تبصير المجتمع، فقدم مهجته في سبيل الله ليبقى أثر دعوته حيا في نفوس الناس وراسخا في قلوبهم وجاريا على ألسنتهم “آمنا برب الغلام”

وفي مشهد آخر يبين لنا القرآن كيف أراد فرعون وسحرته استغلال حدث ملاقاتهم لنبي الله موسى عليه السلام للتأثير على المجتمع، فحشدوا الناس يوم الزينة لينزعوا من قلوبهم كل ذرة وعي غرسها موسى عليه السلام، فكان لطف الله تعالى أن يُجمع العباد ويقع ما لم يكن عند فرعون بالحسبان ، فانهدم في ذلك اليوم سحر الساحرين أمام صدق المرسلين، وغُلب فرعون ومن معه وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة خاضعين ساجدين، ولسان حالهم ومقالهم (آمنا برب موسى وهارون) ، وكسب موسى جولتين : الأولى: هدم صنم فرعون وملئه إلى الأبد.

والثانية : بث الوعي في نفوس الجماهير

الشعوب بوعيها قلبت الموازين ووقفت في وجوه الطاغين، فإخراجها من نطاق المسؤولية ضرب من إضعافها وتهميش لدورها الهام في ممانعة الباطل ومقارعة الفساد.

إن التعويل على تثقيف الأمة وبث الوعي في صفوفها من أكبر أساليب المصلحين المخلصين في هذا الوقت لصد سياسات الإحلال والتغيير القادمة من الشرق ومن الغرب، والتصدي لها بالقوة الأعظم في موازين البشر ، فربما يقوى الجبابرة على فرض الواقع الظاهر، ولكن لن يقووا أبدا على فرضه في نفوس الواعين ولا على إطفاء جذوة الصمود والعزم في قلوبهم.

والسنة النبوية المباركة كثيرا ما جاءت في بث الوعي الذاتي في النفوس، ولم تعذر المتبوع في طاعته للتابع في غير المعروف، وكلكم يعرف قصة السرية التي بعثها رسول الله ﷺ وأمّر عليها رجلا من الأنصار، فغضب عليهم وأمرهم بالدخول في نار جمعوا الحطب لأجلها، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال “والله لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة إنما الطاعة في المعروف”.

وفي السنة النبوية المطهرة أيضا الكثير من القواعد المنظمة لممانعة الشعوب لكل من يريد فساد دينها وأخلاقها، ولعل الله تعالى أن ييسر توضيحا لذلك في مقال مستقل بإذن الله.

أخيرا أقول إنه ومع أهمية بذل الجهود في إصلاح الساسة في المجتمعات الإسلامية وأهل العلم والرأي وأصحاب القرار؛ إلا أنني أعول بشكل أكبر على توعية الشعوب وتكثيف الجهود في إصلاحها وبناء الوعي الذاتي في نفوسهم ليكونوا صمام الأمان الأول تجاه كل ما يُراد لدينهم وأخلاقهم ومجتمعاتهم. 

وكتبه : محمد بن الشيبة الشهري
@ebnasheba

 
 
مقالك37

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *